هذه المرة، لم تكن جريمة قتل الكاهن الكاثوليكي أوليفيه مير في بلدة سان لوران سور سيفر الواقعة غرب فرنسا، في منطقة لا فانديه، إرهابية الطابع على غرار الجرائم السابقة التي استهدفت رجال دين كاثوليكاً أو كنائس في السنوات الأخيرة. فالقاتل واسمه إيمانويل أباييسينغا، ليس مسلماً ولا علاقة له بالتطرف الإسلاموي، بل هو لاجئ وصل من رواندا إلى فرنسا في عام 2012 هرباً من العنف الذي ضرب هذا البلد وأوقع مئات الآلاف من القتلى خصوصاً من إثنية التوتسي. وبرز اسمه في العشرين من يوليو (تموز) 2020 بعد تعرض كاتدرائية مدينة نانت (غرب فرنسا) التاريخية لحريق أتى على جزء منها. وأثار الحريق المذكور موجة واسعة من التأثر في فرنسا وأوروبا؛ لأن كاتدرائية نانت كانت الثانية في فرنسا التي تتعرض لحريق بعد كاتدرائية نوتردام في باريس، منتصف أبريل (نيسان) من عام 2019. وقتها، حامت شبهات حول دور أباييسينغا الذي كان يمتلك مفاتيح الكاتدرائية. وانتهى الأمر باعترافه أمام المحققين بالمسؤولية عن الحريق ليوضع في الحبس الاحتياطي، حيث بقي محتجزاً قرابة عشرة أشهر قبل أن يخلى سبيله في 31 مايو (أيار) الماضي بناءً على قرار من قاضي التحقيق. وبموازاة إخلاء سبيله، وُضع القاتل تحت نظام الإقامة الجبرية في مسكن تابع لجمعية دينية يديرها الكاهن القتيل أوليفيه مير، في بلدة لوران سور سيفر. والغريب في حالة المجرم البلغ من العمر 40 عاماً، الذي يصفه من كان يرتاد الجمعية الدينية بأنه كان خدوماً وتقياً ومداوماً على خدمة القداس، أنه طلب مرات عدة الحصول على اللجوء السياسي بدعم من الكاثوليك في نانت. بيد أن طلباته رفضت، وبالتالي كان موجوداً على الأراضي الفرنسية بشكل غير شرعي رغم صدور ثلاثة أوامر إدارية بطرده من فرنسا. وسبق للجاني الذي كان يعمل شرطياً قبل هربه إلى فرنسا، أن رافق وفداً من مدينة نانت زار البابا في الفاتيكان عام 2016 وقد نشر صورة له مصافحاً البابا فرنسيس على حسابه على «فيسبوك». لكن أباييسينغا كان يعاني من اضطرابات نفسية؛ ولذا أدخل أحد المشافي النفسية بالمنطقة، حيث بقي قيد المعالجة شهراً كاملاً قبل أن يعود إلى مقره السابق نهاية يوليو الماضي في إطار الجمعية الدينية التي كانت تأويه وتضمن له المسكن والمأكل والمشرب. وأفادت المعلومات، بأن الكاهن القتيل أعلم رجال الدرك بعزم الرواندي على ترك مكان إقامته؛ ما يعني مخالفة الشروط التي وضعت لإخلاء سبيله. أما ما حصل بين هذه الواقعة وبين قتل الكاهن البالغ من العمر ستين عاماً والمعروف بهدوئه وكياسته فما زال سراً دفيناً. صبيحة يوم الاثنين الماضي، وصل أباييسينغا إلى مقر الدرك في بلدة لمورتانيه سور سيفر وأخبرهم أنه قتل الأب أوليفيه مير، وطلب سجنه وأعطاهم مفتاح الغرفة، حيث وضع جثته. وحتى أمس، لم تتوافر تفاصيل عن كيفية قتل الكاهن ولا عن دوافعه؛ إذ بعد توقيفه، نقل أباييسينغا مجدداً إلى مستشفى للأمراض العقلية. وبحسب يانيك لوغوتير، نائب مدعي عام المنطقة الذي استبعد العمل الإرهابي، فإن حالة المتهم بارتكاب الجريمة وصحته العقلية لا تسمحان باستجوابه. وينتظر أن يعمد الطب الشرعي إلى تشريح جثة القتيل للتعرف على الظروف الحقيقية لمقتله. وفتح نائب المدعي العام تحقيقاً قضائياً بتهمة «القتل العمد» ضد أباييسينغا. ورغم العطلة الصيفية وغياب الكثير من السياسيين عن العاصمة، فإن الجريمة الجديدة أثارت، من جهة، سيلاً من الأسئلة، ومن جهة أخرى جدلاً واسعاً بين الحكومة والمعارضة بشقيها اليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف. وتتناول الأسئلة الرئيسية التي طرحت بقوة الأسباب التي حالت دون تنفيذ أوامر الإبعاد الثلاثة عن الأراضي الفرنسية بحق أباييسينغا، والأسباب التي حمّلت قاضي التحقيق في مسألة حريق كاتدرائية نانت إخلاء سبيل المتهم واستبدال حبسه بالرقابة القضائية. أما الجدل، فدار حول عجز الحكومة وأجهزتها عن التعامل بشدة مع الهجرات غير الشرعية وعجزها عن تنفيذ وعودها بإعادة من لا يحق لهم حق اللجوء إلى بلدانهم الأصلية.
والحال، أن أمر إبعاد أباييسينغا صدر في عام 2019 وبعد عامين، كان ما زال مقيماً على الأراضي الفرنسية وارتكب جريمتي: إحراق كاتدرائية نانت وقتل الكاهن أوليفيه مير. وسارع وزير الداخلية جيرالد دارمانان الذي هو أيضاً وزير شؤون العبادة إلى التوجه فوراً إلى البلدة المنكوبة للوقوف إلى جانب الجمعية الدينية، في حين عبر الرئيس ماكرون ورئيس حكومته جان كاستيكس عبر «تويتر»، عن تأثرهما وتضامنهما مع سكان البلدة ومع الجمعية الدينية التي كان يديرها الأب أوليفيه مير. وجاء أعنف هجوم على الحكومة من مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف والمرشحة لخوض المنافسة الرئاسية الربيع المقبل. وكتبت الأخيرة في تغريدة «في فرنسا، (يمكن أن تكون مهاجراً غير شرعي، وتضرم النار في كاتدرائية ولا تطرد، ثم ترتكب جريمة أخرى مثل قتل كاهن)». كذلك، فإن اليمين الكلاسيكي لم يتأخر في توجيه انتقادات لاذعة للحكومة، وللرئيس ماكرون شخصياً. وما يؤجج حدة الانتقادات أن المعارضة، بتلاوينها كافة، وجدت في الجريمة الفرصة لاستهداف ماكرون الذي سيسعى للفوز بولاية ثانية في شهر مايو المقبل. وثمة قناعة راسخة لدى الطبقة السياسية الفرنسية وفي الأوساط الإعلامية، بأن مسائل الهجرة والإسلام والإرهاب، ستكون في قلب المعركة الرئاسية القادمة، وأن أي أداة يمكن أن تضعف ماكرون مرحب بها من قِبل المعارضة.
فرنسا: جريمة قتل كاهن تثير جدلاً واسعاً بين السلطات والمعارضة
فرنسا: جريمة قتل كاهن تثير جدلاً واسعاً بين السلطات والمعارضة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة