شعراء كأنهم مديرو علاقات عامة وآخرون زاهدون حتى الغياب

نوعان مختلفان تمام الاختلاف

محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر
محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر
TT

شعراء كأنهم مديرو علاقات عامة وآخرون زاهدون حتى الغياب

محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر
محمود البريكان - عبد الوهاب البياتي - نزار قباني - حسب الشيخ جعفر

للشعراء طرقٌ كثيرةٌ للتعبير عن ذواتهم، والإعلان عن وجودهم، بصفتهم تجارب شعرية ثابتة على الأرض، ولكن على ما يبدو أن هناك اتجاهين أو خطين واضحين لمثل هذا الإعلان؛ هذان الخطان مختلفان تمام الاختلاف: الأول هو الخط الذي يتبنَّى الروح الدعائية، بحيث يتحول الشاعر إلى مدير علاقات عامة، يتواصل مع الجميع، ويعرف الجميع، وتجده حاضراً في أغلب الفعاليات، مشاركاً أو ضيفاً، وهذه كلها طاقات إضافية تضاف من خارج الشعر لتدعم المشروع الشعري، ولكنها في الوقت نفسه تسحب شاعرها للخوض في عالم العلاقات العامة الذي يخدم الشاعر -كما يظن. وأعتقد أن أكثر الشعراء العراقيين الذين يمكن أن نصفهم بهذه الخصيصة الشاعر عبد الوهاب البياتي، ومن العرب الشاعر نزار قباني، فحضورهما وعلاقاتهما تشيان بهذا الأمر بشكل واضح جلي.
وهذا الأمر لا يعني أنهما غير شاعرين، وأنهما من دون هذه العلاقات لا شيء لديهما، ولكن الظاهر عليهما أنهما انهمكا كثيراً بمسألة العلاقات العامة التي تخدم القصيدة. ومن هذين الشاعرين الكبيرين تناسل عدد من الشعراء توزعوا على أجيال مختلفة من الثقافة العربية، والعراقية على وجه التحديد، ليظهر لنا بين مدة وأخرى شعراء يشبهون البياتي وقبَّاني في طريقة إدارتهم لموهبتهم الشعرية. وهذا الأمر ليس خطأً أو حكماً معيارياً يسيء لهم، إنما توصيف لعدد من الشعراء في إدارة الموهبة الشعرية، وهي منطقة مختلفة تماماً عن موهبة الشعر، وكتابة القصيدة، ويقترب توصيف هؤلاء الشعراء من المصطلح الذي أطلقه فوزي كريم (شعراء الراية)، على الرغم من أن حديثه كان يتجه نحو الشعراء المؤدلجين، إلا أن المقاربة مع هذا المصطلح تتجه نحو فكرة الظهور وحب الوجود الدائم.
الاتجاه الآخر هم الشعراء الذين لا علاقة لهم بأي شيء مما ذكرناه أعلاه؛ لا ينشغلون بالعلاقات العامة، ولا يهمهم أن يكونوا شعراء معروفين، وليس لهم همٌّ سوى أن يكتبوا قصيدة، سواء وصلت للجمهور أم لم تصل، لم يحزنوا لأنهم لم يُدعوا لمهرجان، بل عدد كبير منهم يُدعى للمهرجان فيعتذر، تجدهم زاهدين بالأضواء واللقاءات، مكتفين بقلق الشعر وحزنه، ملتفين مع القصيدة فقط، على الرغم من أنهم مهمومون بتطوير النص الشعري، حاضرون على مستوى الفكر والوعي بمستويات القصيدة، وأين وصلت التجارب العالمية من ذلك، ولكنهم في الوقت نفسه يحملون صفة التقشف في اللغة، وفي العلاقات العامة، وفي الحضور، وفي كل شيء، لم يدخلوا بسجالات أو صراعات الأجيال التي تشبه صراعات الديكة، ولم يكونوا مهمومين بأن يكتبوا بيانات شعرية، ولم يحفلوا كثيراً بنشر نصوصهم.
أعتقد أن أشهر هؤلاء الشعراء الذين اعتزلوا الحياة الثقافية بشكل شبه نهائي محمود البريكان، ذلك الشاعر الذي يتحدث كثيرون عنه، وعن أهميته في الحداثة الشعرية العربية، بل وصل الحال أن يروي البريكان لمجموعة من أدباء البصرة في جلسة خاصة، كما يرويها الناقد د. سلمان الكاصد، حيث يقول إنهم سألوه عن دوره في حركة الشعر الحر، وأين محله ومحل السياب، فرد عليهم مشبهاً نفسه بالغوَّاص (غاص إلى أعماق البحر، واستخرج لؤلؤة وصعد بها، إلا أنه اختنق في البحر، فمدَّ يده التي تحمل اللؤلؤة، فاختطفها السياب). وهذا الكلام في غاية الخطورة والحساسية، تصوروا أن من يرى نفسه رائد الشعر الحديث في العالم العربي، ولكنه زاهد في نشر قصائده، ولم يبالِ إن ذكر اسمه أم لا، على الرغم من حرصه الشديد على نصوصه التي يُقال إنه كان يخبئها في مصرف في البصرة، بصفتها ودائع ثمينة. البريكان يقف في مقدمة الشعراء الذين زهدوا بكل شيء، بالحضور والنشر والأصدقاء والحوارات، واكتفى بمجموعة صغيرة جداً من أدباء البصرة، يراهم بين مدة وأخرى.
ومثل البريكان يأتي الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي تجده غير مكترث بصراعات جيله، على الرغم من أنه أحد أهم الأسماء الشعرية فيه، ولكنه غير مبال على الإطلاق بما يدور حوله، حتى أنه لا يعرف كثيراً من الدراسات التي كُتبت عنه، ويصل الحال أن تُسمى إحدى دورات «المربد الشعري» باسمه، لكنه يعتذر عن الحضور مكتفياً بالصمت في بيته. كما أنه دُعي إلى سويسرا في إحدى المرات في مهرجان كبير، ولكنه اعتذر قبل المهرجان بأيام، وحين سئل عن عدم حضوره إلى سويسرا، قال «ما لي خلك»؛ أي إن مزاجه لا يسمح له بالسفر.
ربما يقول بعضهم إنَّ مثل هذه التصرفات تقع في خانة عدم المسؤولية واللامبالاة، وإنها ليست خصيصة تنفع الشاعر، ولكن الواقع أن حسب الشيخ جعفر ونموذجه أو نموذج البريكان كلما تكثف احتجابهم سُلِّط الضوءُ عليهم، وهذا ما سماه الدكتور «حيدر سعيد» بـ«شهوة الغياب»، في إحدى دراساته في ملف عن «البريكان» نشر في مجلة الأقلام بعد مقتله، بما معناه أنه مثلما للحضور والاندفاع نحو الظهور شهوة عارمة، فإن ذلك تقابله شهوة للغياب لا تقل أهمية عن الحضور، إلا أن «حسب الشيخ جعفر» غير مهتم أيضاً بحضوره أو غيابه، هو مهموم بالقصيدة وكتابتها، ولكنه مهتم بطباعة دواوينه. ففي زيارتنا الأخيرة له مع الدكتور «حسن ناظم»، وزير الثقافة، كان مهتماً بطباعة أعماله الشعرية، ويسأل عن تفصيلات دقيقة، ومن ثم تحدث عن أعماله النثرية، فأبدت الوزارة استعدادها لطباعة تلك الأعمال أيضاً.
إن هذه المسألة تنم عن حرص الشيخ جعفر على شعره، ووعيه بأهمية حضور ديوانه المطبوع بدلاً عنه، وهذا ما اختلف به عن البريكان الذي كان رافضاً لطباعة أي عملٍ من أعماله الشعرية.
بقيت ظلال البريكان وحسب الشيخ جعفر تمتدان على أسماء محددة من الأجيال التي تلتهما. فعلى الرغم من الانفتاح الكبير الذي نعيشه، واقتحام مواقع التواصل الاجتماعي حياتنا بشكل كبير، فإن هناك عدداً من الشعراء أصيبوا بعدوى الاحتجاب المؤقت أو الدائم، أو لأكن دقيقاً أصيبوا بعدوى الزهد بكثير من مظاهر الحياة الشعرية، فلم تكن تشغلهم كثيراً قضية المهرجانات ولا اللقاءات، ولم ينتموا للجروبات الشعرية التي تنتج شللاً متعاضدة بعضها مع بعض كأنها أقرب للأدلجة، هؤلاء أبناء الشعر المخلصون، وكم من الشعراء الرائعين أكلتهم الأيام واختفت أسماؤهم في طيات السنين، فيما هم يملكون من الإبداع ما لا يملكه شعراء الإعلان، إذا صحت التسمية. وأود هنا أن أمر -ولو سريعاً- على اسمين مهمين من شعرائنا: الأول من الشعراء الشباب، والثاني من جيلنا التسعيني.
علي عمار، شاعر شاب يسكن في ناحية الغراف في الناصرية، تعرفت عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وأظنه بسبب إشارة من الشاعر عماد جبار، حيث نوَّه بشاعريته، وحين قرأت له وجدته شاعراً مكتملاً عميق الرؤية محتشد الهموم، ولكنه يشبه أولئك الشعراء الزاهدين الذين لا يغريهم سفر، ولا تتملكهم الأضواء. وحين كنت أكتب هذه المقالة، فتحت «فيسبوك» فإذا بـعلي عمار ينشر نصاً جديداً في صفحته، يكرس فيه هذه الفكرة، فكرة الاختفاء والانعزال، ومن ثم التلاشي، حيث يقول:
حلمي
أنْ أغادر
ألا أواجه شمساً كشمس العراق
ألا يعود إلي برابطة أحدٌ
أنْ أصير غريباً
لأحظى بحريتي
ثم أركض وحدي
على شاطئ البحر
حتى تخور قواي
لأحتمل اللذة اللانهائية الصنع
وهي تسيل دماً ودموعاً
من الجسد الهشِّ
ثم أنام
إلى أبد الآبدين
واضحٌ ما لهذا النص من رغبة في الغياب بعيداً عن كل شيء، فيما يأخذ الشاعر حمدان طاهر منحى آخر في هذا التوجه، وهو الشاعر المنعزل عن صخب الأجيال وبياناتهم، وصراع الأشكال الشعرية وجنونها، لا يشغله من كل هذه الصراعات إلا كتابة نص عن الذين يشبهونه، ولا يهتم بذلك فيما بعد، أوصل النص لهم أم لم يصل. ولكن حمدان الزاهد بالضوء القانع كثيراً بما لديه تجده حريصاً أشد الحرص على نتاجه الشعري، وعلى طباعة دواوينه بتواصل دائب؛ هو يشبه حسب الشيخ جعفر إلى حد كبير، يهتم بروح الشعر، ويوثق تجربته الإبداعية، ولكنَّه لا يهتم كثيراً باللحظة التي يعيشها، ولا تغريه تفاصيل الشعراء وما وصلوا إليه، وحين أهداني مجموعته الأخيرة (تمسك بجناح فراشة)، الصادرة من منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، بدأت بقراءة نصوص هذه المجموعة، وإذا بهذه النصوص تعزز الفكرة التي كونتها عن حمدان في أن تجربته وسلوكه الشعري يرتبطان بخيط مع الشعراء الزاهدين كثيراً؛ انظروا ماذا يقول حمدان طاهر:
(أنا شاعر خجول| لا أعرف أن أقرأ في المهرجانات| ليس لي خبرة تذكر في مغازلة النساء| أعرف نساء كثيرات جداً| أعرف مثلاً أمي وزوجتي| أعرف المرأة الوحيدة| التي تجلس دائماً على عتبة الباب| أسألها كل يوم عن معنى جلوسها| بعد كل هذه السنين| لكنها تشير إلى المقبرة| أحب جميع الشعراء| ولا أستثني سوى من باع قلبه للشيطان| أحب من الشعر| ما قلت كلماته| وزاد في الروح أساه| ليس لي خبرة في الحديث| مع النقاد الذين يعملون| بعد الدوام الرسمي مثل شرطة آداب| لا أجيد الحديث عن نفسي| ولا أعرف الحفاظ على العلاقات| لدي يقينٌ بإنسانيتي| ولهذا يمكنكم حذف أول النص| وترك نهايته تمضي مثل نهر بين الحقول).
تعمدت أن أورد النص كاملاً، وهو نص أستطيع أن أقول عنه إنه اختصر سيرة وحياة وسلوك حمدان طاهر بكل شفافية وشعرية، هو فعلاً هذا حمدان بكل تفاصيله، الشاعر الذي يسير بوزن العربات الممتلئة بلا ضجيج ولا صخب، ولدينا أمثلة رائعة من هذا الاتجاه الشعري الذي يبني نفسه دون صخب ودون ضجيج، كالشاعر علي محمود خضير، وميثم الحربي، ومؤيد الخفاجي، وشعراء آخرين لهم حضور شعري في العراق، ولكنهم غائبون عن مقاهي المثقفين ونقاشاتهم.
ما أوردته من هذين الاتجاهين في سلوك الشعراء لا يعني تقييماً لشاعريتهم من عدمها، بل وددت أن أسلط بعض الضوء على الطريقين المختلفين للشعراء الذين يسكنون بيتاً واحداً، ولهم أبٌ واحد، هو الشعر، ولكن الأبناء يختلفون فيما بينهم، بين الملاصق لأبيه والدائر في الساحات والشوارع، لستُ مع أحد منهما، إنما لكل منهما اتجاه يسير فيه، ويظنه مفتاحه للشعر.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!