تانيا قسيس لـ«الشرق الأوسط»: الموسيقى علاج فعّال للشفاء من آلامنا

في الذكرى الأولى لانفجار بيروت أطلقت «هل تسمعني؟»

السوبرانو اللبنانية تانيا قسيس
السوبرانو اللبنانية تانيا قسيس
TT

تانيا قسيس لـ«الشرق الأوسط»: الموسيقى علاج فعّال للشفاء من آلامنا

السوبرانو اللبنانية تانيا قسيس
السوبرانو اللبنانية تانيا قسيس

ضمن معايير أغنية تخرج عن المألوف أطلقت مؤخراً السوبرانو تانيا قسيس عملها الفني الجديد «هل تسمعني؟»، وتتميز بعدم احتوائها على كلام، بل تقتصر على عزف أوركسترالي يرافقه صوت قسيس الأوبرالي. العمل من ألحان وإخراج طوني كرم الذي تعاونت الفنانة اللبنانية معه في عملين سابقين.
وتقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لكل منا وقته الذي يمضيه مع نفسه، أحياناً هذه الأوقات نعيش فيها الذكريات، وأحياناً أخرى نناجي رب العالمين، ونستعيد شريط آلامنا. ومع (هل تسمعني؟) رغبت في أن يحلق سامعها بموسيقاها فيتجاوز جراحه. فبرأيي الموسيقى هي خير علاج لآلامنا لأنها تبلسمها، وتخفف من وطأتها علينا».
يتحرك الخيال مع «هل تسمعني؟» التي عنونتها قسيس بالإيطالية «Mi senti»، فتأخذه إلى عالم يختلف تماماً عن الذي يعيش فيه، حيث الحلم والهدوء وراحة البال. وتعلق السوبرانو اللبنانية: «تعكس الأغنية مشاعرنا المضطربة من خلال أشكال دائرية نستهلها في بداية الأغنية.
فنحن في الحقيقة نعيش في حلقة مقفلة لا حلول للإفلات منها في ظل أوضاع متأزمة في البلاد، وحالة نفسية تعبة. ولكن تلزمنا دائماً خطوة إلى الأمام، كي نكمل طريقنا بثبات. يجب أن نتمتع بالقوة والصلابة، كي نتجاوز العقبات. وهو ما ترمز إليه الأغنية».
تعتبر تانيا قسيس أن الأغنية تحمل رموزاً كثيرة مشبعة بالفلسفة، ولذلك لم ترغب في أن تثقلها بالكلمات. وتوضح: «أردتها نوعاً من العلاج، يتخيله كل منا على طريقته فيشفى من جراحه. هذه الأغنية ولدت بعيد انفجار المرفأ، وصورت في ديسمبر (كانون الأول) الفائت.
ولكنني رغبت في أن أطلقها عشية الذكرى الأولى لانفجار بيروت، كتحية لأرواح ضحاياه، ولمن استطاع أن يصمد ويقاوم».
صوّرت تانيا قسيس أغنية «Mi senti» في غابة العذر في منطقة عكار. «يومها كانت الحرارة تحت الصفر، والأشجار عارية، تماماً كاللبنانيين الذين فقدوا عزيزاً أو حبيباً أو لا يزالون يبحثون عن سقف يحميهم من برد الشتاء». كما يتضمن كليب الأغنية مشاهد أخرى صُوّرت في معرض رشيد كرامي بمدينة طرابلس شمال لبنان. وتقول: «عندما صوّرتها لم أكن أفكر في إطلاقها عشية مرور عام على الانفجار. ولكنها من دون شك ولدت من رحم آلام تلك الفترة التي تأثر بها كل لبناني، وانعكست سلباً على صحته النفسية، فهذه الأخيرة أعطيها اهتماماً كبيراً وأشارك بحملات خاصة للحد منها. وأنا شخصياً تأثرت بانفجار المرفأ، سيما أنني أقطن في منطقة الأشرفية وفقدت أعزاء وأصدقاء. ويمكنني أن أروي عشرات القصص الإنسانية التي صادفتها وأنا على الأرض أسهم في لملمة جراح الناس، سكان المناطق المتضررة.
فإذا أحدنا أكمل حياته بعد مصاب ما، فهذا لا يعني أنها عادت إلى طبيعتها وتلوّنت بالزهري، ولكنها مجرد تكملة الطريق. فالأغنية هي بمثابة احتفال بالحياة، لأننا مهما واجهنا من صعوبات علينا تجاوزها».
لعب مخرج العمل طوني كرم على لونين: الأسود والأحمر. تشرح قسيس في سياق حديثها: «أحب كثيراً هذين اللونين، فهما يعكسان حالات نفسية متناقضة. ورغبت في ارتداء الأول لأنني أصوّر ضمن دائرة مغلقة ويلاحظ مشاهد الكليب وكأني أفلت منها عالياً. أما الأحمر فله معانٍ كثيرة، محورها الحب والتضحية والقلب النابض وغيرها. فاللونان متوافقان ويكملان فكرة الأغنية».
وعن سبب تسمية العمل بالإيطالية «Mi senti» تقول: «أولاً لأن الموسيقى المرافقة له كلاسيكية تميل إلى الأوبرا الإيطالية بما يليق بالعمل. كما أنه يترجم معنى هذا العمل الذي لا كلام فيه. فالنور يلعب دوراً أساسياً في الصورة، وكأننا نناجي شخصاً غير موجود. وكذلك يترجم حالة ألم نعاني منها، وعندما نبوح بها لأنفسنا وبصوت مرتفع لأن ليس هناك من يستمع إلينا، تكون بمثابة عملية فضفضة روحانية».
وعن الصمت الذي يسود العمل وتتخلله فقط طلعات أوبرالية تقول: «أحياناً الصمت يعبّر أكثر من الكلام، والعكس صحيح، وذلك يرتبط بالشخص نفسه. لا يمكننا أن نعمم».
ينطبع العمل الغنائي لتانيا قسيس بالفن السينمائي وتفسره بالقول: «في الواقع المخرج طوني كرم صوّره بكاميرات سينمائية، وأنا شخصياً أحب السينما. ولأنني لا أصوّر غالباً أغاني، بل ألجأ إلى تقديمها من خلال حفلات أحييها على المسرح، اعتمدت تقنية رفيعة المستوى في التصوير.
فشعرت وكأنه ملأ فراغاً كبيراً عندي تسببت به فترة انقطاعنا عن التواصل مع الناس مباشرة في حفلات غنائية على المسرح. فلم يكن يهمني كثيراً أن تأخذ الأغنية منحى تجارياً، فتكون أقرب إلى الناس بقدر ما كان هدفي إيصال الرسائل، التي تحملها بتغليفتها وتوضيبها كعمل فني. هذا الأمر شكل تحدياً كبيراً بالنسبة لي رغبت في خوضه من دون تردد».
وعما إذا تنوي غناءها على المسرح تقول: «طبعاً سأغنيها ضمن حفلاتي لأنها تنتمي إلى فنون الأوبرا التي تأخذك إلى عالم آخر، رغم عدم فهمك لمعانيها بالإيطالية مثلاً. فالنغمة كما التوزيع الموسيقي تلعب دوراً أساسياً في لفت السمع والغوص في انعكاساتها وتأثيرها عليك».
وعن مشاريعها المستقبلية تقول: «أحضّر لأعمال عدة، بينها تكملة لأغنية (نافذة على صباح جديد)، التي سجلتها بالإنجليزية أثناء فترة الحجر. أحضّر لجزء ثانٍ منها لأن حياتنا لا تزال تدور في الدوامة نفسها.
وموسيقاها ستكون أيضاً من نوع الـ(بودا بار) أو (كافيه ديلمار). وتشير الأغنية إلى ضرورة إعطاء قيمة لكل لحظة نعيشها، ولم نقدّر أهميتها إلا بعد الجائحة. كما هناك مشاورات لإقامة حفلات خارج لبنان في أستراليا وفرنسا ودبي، ولكن عندما تهدأ عاصفة الموجة الجديدة من (كوفيد – 19)».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».