هل هناك فعلاً صحوة للقصة القصيرة؟

كتاب قلقون وآخرون متفائلون بعودتها بعد شبه انحسار

هل هناك فعلاً صحوة للقصة القصيرة؟
TT

هل هناك فعلاً صحوة للقصة القصيرة؟

هل هناك فعلاً صحوة للقصة القصيرة؟

شهد فن القصة القصيرة، ليس في المنطقة العربية فقط ولكن عالمياً أيضاً، انحساراً ملحوظاً لصالح الرواية، بعدما عرف ازدهاراً كبيراً في الستينات والسبعينات، حتى إن قسماً من الكتّاب، الذين حققوا فيها نجاحاً مشهوداً، هجروها إلى كتابة الرواية، التي لم يرتفعوا فيها إلى مستوى قصصهم القصيرة. لماذا هذا التراجع الأقرب للانحسار، هل وراءه فقط موجة كتابة الرواية التي جرفت كثيرين؟ أم أن الأمر يتعلق بكتابها، ونقادها أيضاً؟ أم هي أحكام السوق، والحجة الجاهزة بأن المجموعات القصصية «لا تبيع» حالها حال الشعر؟ ثم، هل نشهد فعلاً عودة لهذا الفن النبيل، ولو بعد عقود، كما يرى بعض المشاركين في هذا التحقيق؟
هنا إجابات عدد من الكتاب والناشرين المصريين عن هذه الأسئلة:

أحمد القرملاوي (قاصّ): أفسَدوا متعه قراءتها
الكثير من الكتّاب -حتى المجيدين منهم- يواجهون بعض الصعوبات في نشر المجموعات القصصية، وذلك لعدم ثقة أغلب الناشرين في إقبال جمهور القراء عليها، وكان من الجائز جداً أن أُعاني الشيء نفسه، غير أن علاقتي بناشر مجموعتي الأخيرة تسمح لكلينا ببعض المغامرة واختبار المياه بين الحين والآخر.
فن القصة القصيرة يُعاني بشكل أو بآخر، لكن ليس من الظلم النقدي والإعلامي، فلا أشعر بتفرقة على هذا المستوى بين الأعمال القصصية والروائية مثلاً. الظلم الأكثر وضوحاً بالنسبة لي هو ظلمنا نحن الكتّاب في تعاملنا مع هذا الفن شديد الخصوصية، ألّا نعتني جيداً بمتعة القارئ، ونُغرِق القصة في التهاويم والانفصال التام عن الواقع، فلا يجد القارئ ما يتعلق به ويتفاعل معه، وكذلك الظلم الواقع من الكتّاب حديثي التجربة، حيث يتعامل بعضهم مع هذا الفن الصعب والخاص، بوصفه «مرحلة المبتدئين»، ومساحة سهلة الاقتحام يختبرون فيها مواهبهم وإمكانية دخولهم لعالم النشر والمقروئية، وهذا ما أفسد على القارئ متعته في أغلب المجموعات القصصية، ما يعني ضمنياً أن الكثير من المجموعات البديعة والمكتوبة بإتقان قد فاتت على أغلب القراء وسط هذا السيل من القص المتعالي أو الرديء.
إن نشر عدد كبير من المجموعات القصصية مؤخراً هو أمر مفرح وباعث على التفاؤل بكل تأكيد، فأن تكون ثمة مجموعات حديثة الإصدار لكتاب مثل محمد المخزنجي، وعادل عصمت، وياسر عبد اللطيف، وطارق إمام، ومحمد عبد النبي، وأحمد عبد اللطيف، وعمر طاهر، وهاني عبد المريد، وحسن عبد الموجود، وغيرهم. هذا أمر مبشر تماماً بإعادة تشكيل العلاقة بين القراء والقصة القصيرة، لذلك أشعر بالتفاؤل اليوم بمستقبل القصة.

عزة سلطان (قاصّة): نحن بحاجة لجوائز
لم أُواجه أي صعوبات في نشر مجموعاتي القصصية، أعتقد أني محظوظة نوعاً ما، فقد تم نشر مجموعتي الأولى في سلسلة «إبداعات» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة، وكان الأديب الراحل فؤاد قنديل يعتمد الحياد والنزاهة، ولديه خطة نشر، كان معياره الأساسي الجودة. أما مجموعتي الثانية فكانت ضمن سلسلة «كتابات جديدة»، وأيضاً كنت محظوظة حيث كانت ترأس السلسلة المبدعة د. سهير المصادفة، التي قرأت مجموعتي الأولى وطلبت مني مجموعتي الجديدة، ثم رشحتها للنشر بعد ذلك ضمن «مكتبة الأسرة». مع كل الناشرين الذين تعاملت معهم حظيت بترحيب بأعمالي، ولم أجد أي معاناة على أي مستوى، لكنّ هذا لا يمنع أن القصة القصيرة مظلومة جداً، فقد مهّدت الجوائز الطريق لصعود الرواية بقوة، ومع تعدد الجوائز صار كثيرون يتوجهون نحو الرواية كنافذة إبداعية تجد من التقدير والاهتمام ما لا تجده الأنواع الأدبية الأخرى، ومن ثم لا يلتفت الكثيرون إلى القصة القصيرة أو الشعر الذي يعاني ظلماً أكبر.
وفيما يتعلق بنشر عدد كبير من المجموعات القصصية أخيراً، لا يمكن أن نقول إن هناك عدداً كبيراً بقدر ما هناك عدد من الكتاب المعروفين، لذا نشعر بأن هناك مجموعات كثيرة، ولكي نتبين الدقة علينا أن ننظر إلى عدد العناوين المنشورة في عامين مثلاً ونعرف نسبة المجموعات القصصية إلى الرواية لنجد أنها لم تتحسن. الكاتب ينشر بحثاً عن حالة تحقُّق ووجود وهذا مساره الأساسي كتابة الرواية حالياً، لذا يلجأ الكثيرون من مبدعي السرد إليها، فنحن بحاجة إلى جوائز في القصة أكثر مما هو متاح حتى تحظى ببعض الاهتمام.

محمد البرمي (قاصّ): القصة فن مظلوم
واجهتُ مشكلات في نشر مجموعتي القصصية الأولى «للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق». مسؤول بإحدى دور النشر الكبرى قال لي إن نشر القصة القصيرة صار بمثابة مغامرة محفوفة المخاطر، خصوصاً لو كانت العمل الأول لصاحبها. دار أخرى حاولتْ ابتزازي مادياً بأن أتحمل بعض كلفة النشر ورفضت لأنني ضد المبدأ من الأساس، أرفض أن أدفع مقابل النشر من الأساس وبالتالي غير مقبول أن أقع في ذلك الفخ.
لذلك أرى أن القصة فن مظلوم لا يلقى اهتماماً كبيراً سواء إعلامياً أو نقدياً في مقابل الرواية لكنْ هناك الآن اتجاه كبير نحو القصة القصيرة وأظن أنه سيستمر خلال السنوات القادمة. ربما نرى أن انتشار القصص القصيرة أكبر، على عكس السنوات الماضية والتي شهدت تراجعاً شديداً للقصة.

سمر نور (قاصّة): «لو كانت رواية لنشرناها»
أواجه صعوبة في النشر بصفة عامة لأسباب عديدة، منها رفض النشر على نفقتي الخاصة، سواء بشكل مباشر أو عبر شراء نسخ بحجة أن «القصة القصيرة لا توزع»، فما يهمني هو تقدير العمل المقدم للدار، وجزء من تقديره هو المراهنة على نجاحه.
عانيت بالطبع في نشر آخر أعمالي القصصية، وقيل لي صراحةً: «لو كانت رواية لنشرناها»، حتى استقرت في الهيئة العامة للكتاب، وظلت في قائمة الانتظار ما يزيد على العامين، أي إنها نُشرت بعد ما يقرب من أربع سنوات من كتابتها، وبعد صدورها في عام 2017 حققت نجاحاً كبيراً على مستويات عديدة، وحصلت على جائزة في عام 2018، وأعتقد أن ازدياد الجوائز المخصصة للقصة القصيرة دفع الناشرين لإعادة النظر، وأسهم في زيادة أعداد المجموعات القصصية الصادرة السنوات الماضية.

أميرة بدوي (قاصّة ومترجمة):
القصة لم تعد لقطة شعرية
نشرتُ مؤخراً مجموعتي القصصية الأولى «ست زوايا للصلاة» وفوجئت بأنها قوبلت باحتفاء لافت. كنت محظوظة لفوز المجموعة بإحدى منح الكتابة الإبداعية، التي قامت بإنتاج المشروع، وكانت بمثابة الحجر الذي حرّك الماء الراكد، إضافة إلى تحمس إحدى دور النشر المعروفة لها. في ظروف أخرى، كان من الممكن أن أواجه مشكلات، إذا لم أفز بتلك المنحة، وأعتقد أنني كنت مدركة لصعوبة نشر المجموعات القصصية في مصر، لذلك، لم أحاول السعي لنشر العمل، وسعيت للفوز من خلالها بمنحة إنتاجية أو جائزة كبيرة.
برأيي أن الاهتمام بالرواية نقدياً وإعلامياً، مقارنةً بالقصة القصيرة، يرجع إلى طبيعة الرواية القادرة على الهيمنة على خطابات عدة واستيعابها وتضمينها في حكاية. على النقيض، هناك تصور سائد حول القصة القصيرة أنها لا بد أن تكون لقطة، ذات طبيعة شعرية، وأنها أقل ضعفاً وهشاشة أمام العالم. وبشكل عام، أؤمن بالفن، ولا أفضل جنساً على آخر.
أعتقد أن هناك تجارب في القصة القصيرة استطاعت الفوز بالقراء، وحققت مقروئية جيدة، ونافست الرواية بقوة، إضافةً إلى ظهور بعض الجوائز الأدبية المخصصة للقصة القصيرة، مما جعل دور النشر تأمل في الوجود على منصات التتويج. أرى أن هذا ساعد كثيراً.

تيسير النجار (قاصّة): الأدب كله مظلوم
صدرت لي ثلاث مجموعات قصصية، وسعيدة بنفاد الطبعة الأولى بالكامل من «جئتك بالحب» الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأرى هذا دليلاً ملموساً على قدرة القصة على الانتشار.
يشجعني أكثر أنني ما زلت في مقتبل العمر، ولا أُحسب على شلة بذاتها. أكتب في هدوء من قريتي بالصعيد.
برأيي الأدب بأكمله مظلوم في مجتمعنا. قد تعاني القصة القصيرة بشكل خاص من التجاهل النقدي حيث لا توجد مسابقات كبرى مخصصة لها مثل الرواية، وفي حالة صلاح الفن الأدبي ككل ستتوج القصة وتأخذ المكانة المستحقة، خصوصاً أن المجموعات القصصية تناسب عصرنا السريع المكثف، مثل منشورات مواقع التواصل الاجتماعي والأخبار القصيرة على المواقع الإخبارية. القصة هي ابنة اللحظات السريعة مثل زمننا الذي يهرب منا دون انتباه.

شريف بكر (ناشر): القصة لم تعد تناسب المزاج العام
سأكون صريحاً في تعبيري عن عدم الحماس لفن القصة القصيرة ذاته وذلك لعدة أسباب منها أن نصوص القصة غير مشبعة حتى لو كانت مكتوبة بمهارة وإتقان، دائماً ما يشعر القارئ بأن هناك شيئاً ما ناقصاً وأنه كان بحاجة إلى المزيد من المعايشة مع هذه الشخصية أو تلك، كما يفتقد القارئ المتعة السردية الممتدة التي لا يجدها إلا في ظل أجواء الرواية. القصة فن أصيل وراقٍ يقوم على التكثيف لكن كناشر يمكنني القول إنه لم يعد يناسب المزاج العام للقارئ حالياً.

إسلام عبد المعطي (ناشر): نحن ننشر كل شيء
بالنسبة لدار «روافد» ليس هناك عزوف عن نشر نوع معين من الكتابة. نحن ننشر القصة والشعر والرواية جنباً إلى جنب مع الكتب الفكرية والسياسية، وأعتقد أن حسابات المكسب والخسارة هي ما تحكم الناشرين في هذا الصدد، وعزوف المكتبات عن عرض الشعر والمجموعات القصصية كان له بالغ الأثر في تراجع نشر هذه الأنواع الفنية في الكتابة، والأمر نفسه ينطبق على الكتابات المسرحية.
في اعتقادي أن الأعمال القصصية والشعر يشهدان تطوراً وتجريباً يفوق ما يتم على مستوى كتابة الرواية، وهذا الأمر يتجذر منذ عدة سنوات ولا يتم الالتفات إليه لغياب حركة نقدية جادة تتابع ما يتم إنتاجه ونشره، وكذلك عدم وجود جوائز تُخصص لهذه الأنواع الإبداعية. ستأخذ القصة القصيرة مكانتها التي تستحقها في السنوات القادمة، أنا أثق بذلك وأراهن عليه.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.