إشكالية الضمير المغلق

«لكل إنسان ليل» للفرنسية ليدي سالفير نموذجاً

إشكالية الضمير المغلق
TT

إشكالية الضمير المغلق

إشكالية الضمير المغلق

حدّد منظرو السرد تمظهرات السارد بحسب استعمال الضمائر، بيد أن هذا التحديد يظل غير شامل للصيغ التي يمكن للسارد أن يتمظهر فيها ويؤدي وظائفه النصية عبرها. ومن تلك الصيغ استعمال السارد للأفعال النحوية التي هي على نوعين؛ أفعال طبيعية يستعملها السارد عن مسرود هو شخصية آدمية. وأفعال يستعملها السارد عن مسرود أو شخصية غير حية ولا عاقلة تقوم بأفعال العقلاء، مما يستعمل في السرد غير الطبيعي داخل الروايات الخيالية وروايات الخيال العلمي.
ومن الصيغ أيضاً استعمال السارد الذاتي للحوار الداخلي وهو أمر معتاد في الرواية، بيد أن هناك إشكالية تتعلق بتعامل هذا السارد مع الشخصية والزمان والمكان، مؤدياً دورين؛ الأول الإخبار بوصفه وسيطاً أو نقطة التقاء العالم الحقيقي بالعالم الخيالي، والثاني دور البطولة أو المشاركة كشخصية هي قناع يروي الروائي من ورائه قصته، كما يقول ميشال بوتور في كتابه «بحوث في الرواية الجديدة» ص 64. فتبدو الرواية غير مستقرة، لا بسبب تطابق السارد مع الشخصية، بل بسبب الحوار الداخلي نفسه الذي فيه يبلغ التطابق درجة تجعل ضمير الأنا (ضميراً مغلقاً) بتعبير بوتور، لذا تساءل؛ كيف السبيل إلى فتح هذا الضمير؟
ووجد أن الحل يتمثل في «استبدال الضمائر» بأن يستعمل السارد ضمير الأنا تناوباً مع ضمير الغائب، مما هو عام في كثير من الروايات، لكنه إشكالي في الروايات التي موضوعها الهوية كما في رواية «لكل إنسان ليل» للكاتبة الفرنسية ليدي سالفير بترجمة عدوية الهلالي والصادرة عن دار المدى 2021. والرواية هي الثالثة لسالفير بعد «التصريح» 1990 و«لا بكاء» 2014 وبطلها أنس من أسرة أندلسية مهاجرة يجمع بين معاناة المرض الجسدي المستعصي الذي جعله يترك المدينة وينعزل في قرية بعيدة، وبين معاناة المرض النفسي المتمثل في الشعور بكراهية الغرباء والبؤس الناجم من جراء نظرتهم العنصرية، ففضّل الصمت أمام تساؤلات الآخرين وشكوكهم.
ولا خلاف أن وظيفة الضمائر المستعملة في الرواية هي أنها تتيح للسرد أن يتطور بحسب طبيعة الشخصية وخفاياها النفسية والبيئة الاجتماعية التي تنتمي إليها. وفي هذه الرواية يجري استعمال الضميرين؛ الأول ضمير الغائب الذي به تتوسع المسافة بين الشخصية والسارد فتغدو كبيرة، والثاني ضمير المتكلم الذي به تُنتفى المسافة بين الشخصية والسارد فتبدو الرواية كمذكرات أو ككتابة سيرية أو يومية وبوجهة نظر يتطابق فيها السارد مع الشخصية من ناحية، والسارد مع الكاتب من ناحية أخرى، سواء باستعمال الحوار الداخلي الذي يعتمد على التداعي الحر أو من دون استعماله.
وتبدأ الرواية بضمير المتكلم الذي يزداد انغلاقاً كلما تقدمنا في الرواية حيث الشخصية الساردة مهزومة وضعيفة وجبانة وسلبية غير راغبة في أن تكون مشهورة أو نبيلة أو مقامرة، بل هي معزولة ومريضة بلا طموح أو رأي (كانت محاولاتي النادرة للتحدث مع أحدهم تصطدم بجدار شائك من الريبة، فمنذ وصولي لم أضطر لقول أكثر من 20 جملة، لدرجة أنني صرت أخشى فقدان قدرتي على الحديث) الرواية، ص26.
وتطغى المونولوجات الداخلية فتستغرق الشخصية في التداعي الحر تأملاً في حالها، وما آلت إليه من انغلاق وعزلة. وهو ما يستدعي استبدال ضمير المتكلم بضمير الغائب من أجل تقليل حدة هذا الانغلاق. ومع هذا الاستبدال، فإن الرواية تظل أحادية الصوت لا متعددة الأصوات كما قد يتوهم بعض القراء. ولقد أعطى استبدال الضمائر رواية «لكل إنسان ليل» ميزات، بعضها إيجابي، ساهم في تصعيد التحبيك، وبعضها الآخر سلبي، خلخل متانة هذا التحبيك. فأما الميزات الإيجابية فتتمثل في أن ضمير الغائب حرر ضمير الأنا من ضغط الحوار الداخلي، فغدا السارد الموضوعي مُعيناً ومساعداً، وهو يبئر مستويات الوعي واللاوعي، ولا سيما بعد ظهور شخصية مينا الفتاة الفرنسية التي تعاني من ازدراء الآخرين لها أيضاً بسبب بدانتها، فوجد فيها أنس بعض الاطمئنان وقد شاركته أزمته النفسية.
إن قصة إنشاء الفرن كانت ضرورية لإشاعة روح الجماعة بين أنس ومن كان يراهم غرباء وهم رواد المقهى (إميل وجيرار ومارسلين) والسيد والسيدة سيمون.
كما أن ضمير الغائب كشف لأنس حقيقة موقف القرويين منه، فسَبَر بواطنهم، مقللاً من حدّة هواجسه المتحفظة والسلبية التي عكستها مونولوجاته الداخلية التي فيها اعتقد أنهم يرونه الأجنبي والغريب والعربي الشاذ (كبقعة غريبة وصوت نشاز وصرير غير لائق، انتهك هدوء القرية، ولا يتلاءم مع ديكورها).
وصار ضمير الأنا منفتحاً أكثر، فيأتي الكلام مباشراً حيناً ومونولوجياً حيناً آخر، لكن بلا حيرة (طرأت لي فكرة منحتني بعض الاطمئنان فلربما كان الناس الذين يظهرون لي العدائية مخطئين بحقي بقدر ما أنا مخطئ بحقهم) ص34. وغاب الشعور بسوء الحظ، وغدا أنس أكثر واقعية (كلما تهب الريح، علينا أن نحاول العيش) ص45.
كما أن ضمير الغائب كشف لأنس أن الشعور بالمهانة والحمق لا يقتصر على الغرباء المهاجرين، بل هو موجود عند أهل القرية أنفسهم، وهم يتبادلون الشتائم واللعنات ناظرين إلى تصرفات بعضهم بازدراء كما في مشهد السيدة سيمون وهي تنظر بشزر إلى زوجها الذي كان يقابل كلاسيكيتها بعدم الود ويرى لباقتها زائدة (يعاملني بما لا يجرؤ على معاملة كلبه أشيل به. لم أعد أستطيع الاحتمال) ص60. لذا صار أنس متعاطفاً معها.
وأما الميزات السلبية فتتمثل في أن عدم التوازن في الاستبدال جعل الأمر لصالح ضمير الأنا، ما ألقى بأنس في الحيرة مجدداً (ألقت بي نظراتهم الشرهة وهم يطيلون التحديق بي إلى الخارج بقوة وكأني تلقيت ركلة عنيفة) ص49. ولم يؤدِ تزايد التداعي الحر إلى اتساع الفجوة في التبادل بين الضميرين وحسب، بل تعاظمت أزمة أنس أكثر فبدت نفسية واجتماعية وتاريخية ولسانية. وكذلك عدم الإيفاء بمتطلبات ما كانت الرواية قد ابتدأت به وهو مرض أنس الذي أجبره على ترك المدينة والانعزال في القرية. صحيح أن في هذا التحول إشارة رمزية إلى أن جذور التمييز العنصري قديمة، وهي من تبعات عصور ما قبل الصناعة، حين كان العداء والكراهية سمات المجتمعات القبلية، لكنه كموضوع لم تعطه الرواية حقه من السرد، بل تناسته. ما ولّد شرخاً في التحبيك، فبدت معاناة أنس بالعموم نفسية تخونه الكلمات وتؤرقه النظرات المرتابة، بينما لم يكن لمرضه المستعصي واعتلال جسده حضور إلا نادراً. وكان يمكن للكاتبة أن تزامن المرض الجسدي بالتمارض النفسي، ليكونا سبباً طبيعياً في التلصص ورفض الآخرين.
وقد تنبهت الكاتبة في الربع الأخير من الرواية إلى هذا الخلل، فعالجت الأمر بعبارات أرادت فيها تأكيد عدم النسيان (لاحظت شيئاً فشيئاً أن المرض أصبح أقل إلحاحاً أقل تأثيراً ولم يعد يشغل ذهني بشكل كبير كالسابق، ربما لأن العلاج كان يعطيني نتائج مشجعة) أو (كنت أدون يوميات حياتي الصغيرة، كان لهذا التمرين الفضل في تسليتي في نفس الوقت الذي كان يمنحني فيه شكلاً ولوناً) ص118. لكن ذلك لم يعالج الخلل، لأن التأزم استمر حتى وصل أنس إلى حد الانهيار بسبب الكراهية والوحشة (الكراهية تجعل دمك يغلي وأعصابك تتوتر... أن أرحل إلى لا مكان بدلاً من الموت هنا من الإذلال والألم. أن أغادر بعد أن أحطم فمه وأجعل أسنانه المقززة تتقافز منه) ص137 - 138. فكان الهروب هو خياره في نهاية الرواية ولم يكن المرض في باله ألبتة.
أما النهاية التي خُتمت بها الرواية فبدت مخيبة لأفق التوقع، والسبب تناقض الضميرين الغائب والمتكلم؛ فالأول أبقى أنس سلبياً في دوامة أزمته بعد أن قرر الهروب من القرية والسكن بالقرب من الحدود، فهي أكثر راحة وملائمة للفرار، بينما الضمير الثاني أظهر تغيراً في شخصية أنس، فبدا إيجابياً وهو يتحول من كتابة اليوميات إلى كتابة تقلبات حياته، مصمماً (أنا أتحرر أنا أستعيد نفسي). وبهذه الإشكالية لا يكون سهلاً استبدال الضمائر داخل هذا النوع من الروايات التي ساردها ذاتي وموضوعها ثقافي.
وما كان لميشال بوتور أن يفترض استعمال هذه التقانة إلا من منطلق انغلاق ضمير الأنا، لكن فاته أن السارد الذاتي الذي كان في روايات القرن العشرين بطلاً وإن انتهى نهاية تراجيدية، فإنه في روايات القرن الحادي والعشرين لم يعد كذلك، بل هو خائف متأسلب بفوبيا ضمير المتكلم يسرد لنا ما لا يعلمه عن نفسه والآخرين أيضاً، واقعاً في شرك تضخم المونولوجات، غير مؤهل لاستبدال الضمائر التي توهم بوتور أنها ملائمة لحل الانغلاق في ضمير المتكلم ومعالجة إشكالية السارد الذاتي.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.