الجزائري كاتب ياسين... أدب ينبع من نهر الحياة

92 عاماً على ميلاد صاحب رواية «نجمة»

كاتب ياسين
كاتب ياسين
TT

الجزائري كاتب ياسين... أدب ينبع من نهر الحياة

كاتب ياسين
كاتب ياسين

لو تطلبُ من مثقف أجنبي، قبل الجزائري أو المغاربي أو العربي، مهتمّ بالأدب الجزائري أو مختصّ فيه أو قارئ له، أن يذكر لك خمسة أو أربعة أو ثلاثة أسماء من كتّابه، سيذكر لك من بينهم حتماً اسم كاتب ياسين. ولو سألته أن يذكر لك من بين مئات أو آلاف الروايات واحدة شكّلت الاستثناء، فسيذكر لك دون تردد رواية «نجمة» لكاتب ياسين.
وهل لنجمة واحدة أن تضيء الطريق؟
بذكائه ووعيه السياسي وإحساسه، أدرك كاتب ياسين مبكراً أن سماء الجزائر تحتاج إلى ضوء غزير لتقهر الظلمة فكتب «المضلع المرصع بالنجوم».
في هذه الأيام العسيرة، تعود ذكرى ميلاد الروائي والشاعر والمسرحي والصحافي كاتب ياسين. وإن اختلف الناس فيها بين 6 أغسطس (آب) و25 يناير (كانون الثاني)، لا يهم. ما يثير الانتباه هي الدوائر الأدبية والثقافية في العالم التي ما زالت تحتفل بموهبته وفرادة إبداعه. وليس من الغرابة أن يكشف مهندسو الرأي في صحيفة «لوموند» الفرنسية الشهيرة، منذ فترة زمنية، أن روايته «المضلع المرصع بالنجوم» من بين أهم 100 رواية في العالم التي أحبها قراء الجريدة على مدى عشرات السنين. فاجأ هذا الاختيار المراقبين والأدباء الجزائريين والعرب. فمنهم من رحّب ومنهم من شَجب. كانت الرواية الوحيدة المختارة من الريبرتوار الروائي المغاربي والعربي.
وتعود ذكراه لتذكرنا بذلك الثائر المتمرد، في الحياة كما في المسرح والأدب والسياسة، والثائر أيضاً على نظام اللغة الفرنسية ذاتها التي كتب بها. نصحه والده بتعلمها، والده المثقف مزدوج اللغة، كان يراها سلاحاً قوياً آنذاك بين يدي ابنه، وهو يُطمئنه بأنه يستطيع أن يعود للعربية متى ما شاء. تعلّم العربية في الكُتّاب، ثم اللغة الفرنسية في المدرسة التي سيصف وضعيتها بعد الاستقلال بعبارته ذائعة الصيت «اللغة الفرنسية غنيمة حرب»، سينزاح بها عن النمط المألوف، فيقارب «الخرْق» كما يسميه «ابن جني». لغة عدّلها «جينياً» كي تفي بغرَض الغضب، ونظمها في نسق سردي مختلف نسج الأحداث على منواله، ببنية أسلوبية تجاوز بها المواضعات.
لا تخفى وسامته. نحيف مثل مِسلّة ذهب، ملامح متناسقة كأنها نُحتت بعناية فنان، صوت واثق يفيض بما في القلب عبر اللسان. مشعُّ ذكاؤه، ممتلئ قلبه بفضول الحياة.
لتاريخ البلاد اليد العليا في رسم مصير الشاب، إذ رأى بأم عينيه دم آلاف الشهداء في أحداث 8 مايو (آيار) 1945 بمدينتي سطيف وخراطة شرق الجزائر. الأحداث التي شارك فيها واعتُقل وسُجن وهو مراهق. وحين خرج من سجنه، وجد أمه قد هزمها الخوف البغيض على وليدها، وأفقدها عقلها، وألقى بها في مجاهل الجنون.
عرف النضال يافعاً ثم السجن والهجرة ومرارة الغربة. ظل إلى جانب المقهورين ضد الاستبداد. صنع التاريخُ كاتبَ ياسين عبْر الدم، وصنع هو للبلاد تاريخاً عبر الجمال سرداً ومسرحاً وشعراً.
إنه ذلك العاشق الذي فاجأه حب «نجمته» على حين غِرّة، في قريته «قبلوت» النائية الرازحة تحت الاستعمار. طرق الفتى ذو السادسة عشرة من العمر بيده الباب الخشبي للبيت العائلي الكبير، وإذ فتحت «نجمة»، ابنة عمه التي تكبره بسنوات. نجمة المتزوجة. وقع قلبه على جمالها. وإذ وقع، وقعَ ما لم يكن في الحسبان. خُلقت أسطورة اسمها «نجمة»، وخُلق معها أديب مختلف اسمه كاتب ياسين (1929 - 1989).

- كم يلزم من نجمة كي تضاء سماء البلاد؟

غير كاتب ياسين مجرى حبه الجارف لنجمة. تركه يستقر إلى الأبد في أعماقه، مثل نبتة سحرية، يصعد أريجها إلى روحه طيلة حياته الأدبية والنضالية. ومنذ نشْره «نجمة»، روايته الشهيرة عام 1956 وحتى الآن، لا يكاد بعض الآراء يستقر على أنها حبيبته حتى تفسرها الأخرى على أنها رمز الجزائر. أصبحت صورة وطن، غنيٌّ بتاريخه وجغرافيته مترامية الأطراف، وبلهجاته، وثقافاته، وبثرواته تحت الأرض وفوقها، إلا أنه يحتاج إلى مزيد من النور الذي يبدد الظلمة.
كاتب ياسين ما فتئ منفرداً ومتفرداً في شعره ورواياته ونصوصه ومسرحه قبل وبعد الاستقلال، وعلى الرغم من تلاطم محيط الكتابة والكتّاب، فإنه لا يقارَن بإيمي سيزير، ولا بكلوديل، ولا برامبو. وقد صرح هو نفسه قائلاً: «لو أنني قلّدت بودلير أو رامبو لما نجحت»!
سر نجاحه هو ارتباطه بالناس، لم يخُن وعيَه الثَّوري، بل عمّقه بالبحث عن حياة الأدب داخل حياة الناس البسطاء، من الطبقة الشغيلة ومن الدياسبورا. وليس بغريب قوله إنه يفضل موقف فولكنر في رواياته على ألبير كامو، فالأدب الذي ينبع من نهر الحياة يظل يبهر قراءه إلى الأبد. وإنه ذاتُ النهر الذي عبَر كتاباتِه منذ مجموعته الشعرية (مناجاة) 1945 مروراً ب«الجثة المطوقة» أو «المرأة المتوحشة» و«نجمة» و«المضلع المرصع بالنجوم» التي ما هي إلا مقاطع سُحبت من مخطوطة روايته «نجمة»، اقتُطعت منها باقتراح من دار «لوسوي» للتخفيف من تعقيد النص المتوحش، ونُشرت لاحقاً في شكل رواية مستقلة، كما عبَر مساحات أعماله الأخرى الشعرية والمسرحية.
ظل كاتب ياسين من خلال آرائه ورحلاته وأسفاره وعزلته وفيّاً لفلسفة شعبه. فلسفة «العفوي» و«التاريخي»، مسكوناً بموسيقاه وثقافته وخصوصياته، يكابد محنة الكتابة في ظروف عيش قاسية لطالما أجبرته على قطع حبل سُرّة المشروع الإبداعي الذي بين يديه، مؤقتاً، والذهاب للعمل لجلب قوته. ولم يمنعه ذلك من فتح باب جديد على أفريقيا، دون أن يظل ظِلاّ لبريخت ولا لبيكيت...
من جديد يحتفل الزمن بولادة كاتب ياسين، ويتساءل محبوه:
- ما الذي كان سيكتبه كاتب ياسين وما الذي كان سيفضي به لو أنه عايش هذا الزمن المرتبك الذي نعيشه اليوم.
بكل بساطة كان سيعلق أمام هذا الانهيار المعمّم بحكمته وسحر عبارته:
- ليس لديّ موضوع محدد... لديّ أشياء كثيرة للإفضاء!

- شاعرة روائية وأكاديمية - الجزائر



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.