الفطير المشلتت المصري الذي أثار شهية باراك أوباما

مذاق بلدي عابر للسنين

TT

الفطير المشلتت المصري الذي أثار شهية باراك أوباما

حين حل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ضيفاً على مصر، في يونيو (حزيران) عام 2009 قرر المسؤولون وقتها أن يكون الفطير المشلتت على رأس مائدة إفطاره بالقاهرة، بصحبة الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وأشارت التقارير حينها إلى أن أوباما كان يتناول الفطير بشهية مع غمسه في العسل الأسود والجبن القريش.
لم تكن المرة الأولى التي يحتفي بها المصري بضيوفه بتقديم واحدة من أهم الوصفات التاريخية في المطبخ المصري، بينما يشير التاريخ إلى أن الفطير المشلتت كان يُنظر له في العصر الفرعوني باعتباره شيئاً مهماً، عُرف عند الفراعنة باسم «الملتوت» ثم تطور عبر التاريخ ليصبح «المشلتت»، واحدا من أهم الموروثات المصرية بمذاقه العريق.
يشتهر المطبخ المصري القديم بالمخبوزات، سواء أنواع الخبز التي وصلت إلى أكثر من 100 صنف، أو الوصفات المشتقة منه، على شاكلة الفطير المشلتت، فهو أول من عرف التخمير والترقيق والتوريق. وينتمي الفطير المشلتت إلى نمط العجين المُورّق، لأنه من الداخل يتكون من طبقات رقيقة، وهنا يكمن السر الذي يتطلب احترافية ومهارة حتى يتحول العجين إلى رقائق تربطها طبقات السمن البلدي مع سطح ذهبي «هش» له مذاق ساحر.
وبالتالي إذا أجريت زيارة لمصر فلا تدع فرصة تناول الفطير المشلتت مع العسل الأبيض وأصناف الجبن المصرية تتجاوزك، ويمكن تناوله في بعض المطاعم المتخصصة مثل «واحة عمر» على طريق القاهرة - إسكندرية الصحراوي، لكن إذا أردت تلمس مذاقا أكثر عراقة فسيكلفك الأمر ضرورة الذهاب إلى إحدى قرى الريف، لا سيما في قلب محافظ المنوفية، لأنه رغم تطور طرق الطهي الحديث إلا أن سر المذاق ما زال حكراً على الفلاحة المصرية.
وتقول الطاهية المصرية إنجي الشاذلي، وهي رسامة ومهندسة ديكور، لـ«الشرق الأوسط» عن الفطير المشلتت «إنه عشق أجيد تقديمه، ورغم ذلك لم يكن بسحر مذاق الريف المصري، ولا أبالغ حين أقول إن الفلاحة المصرية تحتفظ بسر «طبخة» الفطير منذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا، كذلك عملية التسوية داخل الفرن المصنوع من الطوب اللبن، أو كما يطلق عليها المصريون «البلدي» - الذي تطور اليوم ليحل محله فرن الصاج - لها سحر خاص.
وعن سر مذاق هذه المخبوزة المصرية الراسخة منذ الأزمة الماضية، تقول الشاذلي: «بمفاهيم وقوانين الطهي، الفطير المشلتت له معادلته الخاصة، فهو طبق يتميز بطبقات هشة وسطح ذهبي، يُجهز بدقة تسمح للسمن البلدي بالانتشار والتوغل دون أن يخل بالمذاق، بل إن رائحة ومذاق السمن الفلاحي هو نقطة القوة وأهم ما يميزه».
اللافت في وصفة الفطير المشلتت خصيصاً، أنها راسخة لم تتطور أو تضاف عليها لمسات المطبخ الحديث؛ وتعلق الطاهية المصرية وتقول: «المطبخ جزء من هوية الشعوب، ومن ثم الاحتفاظ بالأكلات الموروثة المُوّثقة كما هي شأن وطني وثقافي يجب حمايته».
وتستكمل الشاذلي: «الفطير المشلتت لم يشهد أي تغيير على مدار السنين، فهو من الأكلات الراسخة والمميزة للمطبخ المصري ولا يقدم في منطقة أخرى من العالم رغم صراعات المخبوزات الحديثة، ولكن الكرواسون الفرنسي مأخوذ من فكرة رقائق «المشلتت» ومذاق الزبدة الواضح، لا سيما أن الكرواسون في البداية كان يسمى الفطير الهلالي ثم سمي باسمه الحالي».
عدد كبير من الطهاة العرب الحاليين تعلموا وحصلوا على شهادات من قبل أكاديميات غربية، ربما لم يمر عليها أغلب الموروثات العربية وأسرارها، فهل يؤثر ذلك على مستقبل المطبخ العربي وأطباقه الموروثة؟ تجيب الشاذلي: «صحيح أنا حصلت على شهادة معتمدة من أهم أكاديميات تعليم الطهي في العالم، وهي (سيتي آند غيلدز) بإنجلترا، لكن الفطير المشلتت تعلمته من وصفة جدتي، ورغم تطور أساليب الطهي وأدواته، ولكن ما زلت أحضره بالطريقة الأصلية التي تعود للريف المصري».
وتمضي قائلة: «الفطير المشلتت عُرف في عهد تحتمس الثالث، حيث عثر على وصفته المكونة من الطحين والسمن والماء - أغلى ما يملكه المصري القديم - منقوشة على مقبرة تعود لهذه العصر، واللافت أنه حتى وقتنا هذا ما زالت الوصفة كما هي لم تتغير على مدار آلاف السنين، بل زادت تفرداً».
وعن طريقة تحضير الفطير المشلتت، تشاركنا الطاهية إنجي الشاذلي بتفاصيلها وأسرارها، وتقول: «كل هذا السحر يكمن في مقادير ومكونات بسيطة ومتوفرة في كل منزل، لكن السر الحقيقي في الصنعة الدقيقة واليدوية. وتقتصر مكونات الفطير المصري على: كيلوغرام من الدقيق الفاخر للمخبوزات، سمن بلدي مع كوب من الزيت، ملعقة صغيرة ملح، والماء الفاتر اللازم لتحضير العجينة.
تبدأ الوصفة بمزج الدقيق مع رشة الملح، ثم يُضاف الماء الفاتر بحرص حتى يتكون القوام المناسب للعجين. يترك جانبا لبعض الوقت ثم تأتي مرحلة تجهيز الرقائق الداخلية أو ما يطلق عليه بلغة الطُهاة «التوريق»، وهنا يُمدد العجين على السطح المستوي مع استخدام الأصابع برفق لتمديد العجين قدر المستطاع. تأتي مرحلة التمديد والضم عدة مرات حتى تتكون الطبقات الرقيقة الداخلية، خلال هذه المرحلة يُضاف السمن مع الزيت يوضع الفطير داخل صينية دائرية مزودة بطبقة من الزيت، ويوضع داخل الفرن حتى يحصل على اللون الذهبي؛ وهنا تقول الشاذلي: «إذا كان ثمة فرن (بلدي) فلا تتردد في استخدامه لأنه جزء من المذاق الطيب والأصيل للفطير المشلتت». وأخيرا يُقدم الفطير مع طبق من العسل الأبيض أو الأسود والجبن البيضاء والبيض المسلوق.


مقالات ذات صلة

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

مذاقات ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات الشيف البريطاني هيستون بلومنتال (الشرق الأوسط)

9 نصائح من الشيف هيستون بلومنتال لوجبة الكريسماس المثالية

تعد الخضراوات غير المطبوخة بشكل جيد والديك الرومي المحروق من أكثر كوارث عيد الميلاد المحتملة للطهاة في وقت يقومون فيه بتحضير الوجبة الأكثر أهمية في العام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك 6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

لا يزال كبار الطهاة العالميين، إضافة إلى ربات البيوت الماهرات في الطهي، يستخدمون أواني الطهي المصنوعة من الحديد الزهر Cast Iron Cookware.

د. عبير مبارك (الرياض)
مذاقات توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات إم غريل متخصص بالمشاوي (الشرق الاوسط)

دليلك إلى أفضل المطاعم الحلال في كاليفورنيا

تتمتع كاليفورنيا بمشهد ثقافي غني ومتنوع، ويتميز مطبخها بكونه خليطاً فريداً من تقاليد عالمية ومكونات محلية طازجة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين
TT

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

لقمة خبز قد تأسر القلب، ترفع الحدود وتقرب الشعوب، هكذا يمكن وصف التفاعل الدافئ من المصريين تجاه المطبخ السوداني، الذي بدأ يغازلهم ووجد له مكاناً على سفرتهم.

هذه الأرغفة البيضاء الصغيرة، التي يصف مصريون مذاقها بأنها «أطيب من الكيك»، في إشارة لطيب المذاق، تعد مثالاً يعكس مدى الانسجام الثقافي الذي تجاوز الحدود.

مع تداعيات الحرب التي شهدها السودان، والتي أدت إلى عمليات نزوح كبيرة إلى مصر، لم يتوقف الأمر عند مرحلة سرد الآلام والمآسي، بل تحول سريعاً إلى اندماج السودانيين في سوق الطعام المصري، وخلال أقل من عامين أثبت المطبخ السوداني وجوداً نسبياً في مصر.

بمجرد أن تطأ قدمك شارع فيصل (أحد أشهر شوارع محافظة الجيزة) يمكنك الاستدلال على الوجود السوداني من رائحة التوابل العميقة الصادرة من مطاعم أسسها سودانيون، يستهدفون بها زبوناً مصرياً يتوق إلى مذاق شعبي في وصفات، مثل صينية البطاطس، ويختلف تماماً ليقدم هويته في طبق آخر مثل أسياخ «الأقاشي»، المصنوعة من اللحم الطري الغارق في توابل مثل الزنجبيل والقرفة، مع طبقات البقسماط المقرمش، التي تغازل المصريين.

تقول السودانية، فداء محمود أنور، خريجة إدارة أعمال من جامعة الخرطوم ومؤسسة مطعم «بنت السودان» في حي مدينة نصر، شرق القاهرة، إن المصريين «احتضنوا المطبخ السوداني بسبب وجود أواصر اجتماعية وثقافية بين البلدين».

وأوضحت، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، من داخل مطعمها البسيط: «نقدم أكلات سودانية أصيلة، مثل الفول بزيت السمسم، والفلافل السودانية المصنوعة من الكبكبي (الحمص بلغة المصريين)، والأقاشي، وهو طبق شهير في السودان، إضافةً إلى الفسيخ السوداني والملوخية المفروكة وملاح الروب الأحمر».

وعن الأطباق شديدة الخصوصية، يقدم مطعم الشابة السودانية فداء طبقاً حبشياً، قالت عنه: «هناك أيضاً طبق ذو أصل حبشي أصبح جزءاً من المائدة السودانية يسمى (زغني)، وهو عبارة عن قطع الدجاج المبهرة بالقرفة والثوم والبصل والحبهان، كما يضاف له المذاق الحار بالشطة السودانية، وكذلك مذاق الحادق من خلال رشة السماق، ويقدم مع البيض المسلوق». فضلاً عن طبق الحلو السوداني الشهير «الباسطة»، أو ما يعرف بالبقلاوة في مصر.

وبحسب تجربتها، قالت فداء إن تفضيلات المصريين من المطبخ السوداني تميل إلى بعض الأطباق الأساسية التي ربما لا يختلف عليها السودانيون أيضاً، مثل: الخبز السوداني، والأقاشي، والفلافل، وأطباق الفول بالخلطات السودانية. أما باقي الأطباق، فالإقبال عليها محدود.

طعمية (فلافل) سودانية (الشرق الاوسط)

والبعد الجغرافي بين مصر والسودان انعكس في تقارب ثقافي، ظهر في المذاق المميز للمطبخين. ترى منة جمال، مصرية تعيش في حي السادس من أكتوبر، الذي يضم عدداً من المطاعم السودانية، أن المطبخ السوداني قريب من نظيره المصري، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «الخبز السوداني شبيه ببعض أنواع الخبز في الريف المصري، ربما يختلف في السُمك والحجم فقط ».

وعن الاختلاف بين المطبخين، قالت: «السودانيون يميلون إلى المذاق العميق والحار، بإضافة كميات كبيرة من التوابل، كما أن الفلفل الحار أساسي في عدد كبير من الأطباق السودانية، بينما يميل المصريون إلى إضافة التوابل الأساسية فقط، مثل الملح والفلفل والكمون».

الباسطا حلوى سودانية (الشرق الاوسط)

وبالعودة إلى فداء، فإنها أيضاً كسودانية وقعت في حب المطبخ المصري، وتروي تجربتها بالقول: «أنا من عشاق محشي ورق العنب، والكرنب، والباذنجان بالدقة، أحب تناوله مع الفلافل السودانية. أيضاً معظم السودانيين يحبون المحشي والملوخية المصرية».

الأطباق السودانية لم تعرف طريقها إلى المصريين من خلال المطاعم التجارية فحسب، بينما ساهم في رواجها نساء سودانيات كنّ قبل النزوح ربات منزل، إلا أنهن، مثل كثير من نساء الشرق، يعتبرن الطهي مهارة أساسية. ومع وصولهن إلى مصر وبحثهن عن سبل لكسب العيش، تحول الطهي إلى مهنة تحت شعار «أكل بيتي سوداني».

التقت «الشرق الأوسط» بفاطمة (اسم مستعار)، التي نزحت بعد الحرب وجاءت إلى القاهرة بصحبة عدد من الأسر السودانية، وتقيم حالياً في مدينة «الرحاب» التي تعد من المناطق ذات الإيجارات المرتفعة، حيث تشارك السكن مع 4 أسر سودانية أخرى. منذ عام، بدأت فاطمة بتقديم خدمات «الأكل البيتي» من منزلها بمساعدة بعض السيدات المقيمات معها.

تقول «فاطمة»: «جاءت الفكرة عندما لاحظت انتشار مشروعات الأكل البيتي في مصر، خاصة في الأحياء الراقية. فأنشأت حساباً على (فيسبوك)، بدأت من خلاله تقديم خدمات الأكل السوداني». وأردفت: «المصريون يحبون المطبخ السوداني، خاصة تلك الوصفات القريبة من مطبخهم، على شاكلة المحشي، كذلك تحظى أصناف اللحم المبهر بإعجاب كبير».

وأوضحت فاطمة أنها سعت إلى تقديم مزيج من الأكلات السودانية والمصرية، قائلة: «أستهدف زبونات مصريات عاملات يبحثن عن بدائل للطهي المنزلي. لذلك، لم أكتفِ بالوصفات السودانية فقط، بل تعلمت إعداد الأكلات المصرية، وهو أمر لم يكن صعباً على سودانية تربطها بمصر أواصر ثقافية واجتماعية، إذ كانت مصر والسودان في مرحلة ما من التاريخ بلداً واحداً».

تمكنت فاطمة من تقديم تجربة طعام بيتي فريدة، تجمع بين نكهات المطبخين السوداني والمصري، مستقطبةً كثيراً من الأسر المصرية التي تبحث عن طعام منزلي بطابع خاص. ومن خلال تجربتها، كشفت فاطمة عن مدى التداخل الثقافي بين المطبخين، ما يمهد الطريق لمزيد من الاندماج وابتكار وصفات جديدة قد تظهر في المستقبل القريب.