هل يصلح الجواهري شاعراً في البلدان الديمقراطية السعيدة؟

وزارة الثقافة العراقية تطبع أعماله الكاملة تحت إشراف لجنة مختصة

الشاعر محمد مهدي الجواهري
الشاعر محمد مهدي الجواهري
TT

هل يصلح الجواهري شاعراً في البلدان الديمقراطية السعيدة؟

الشاعر محمد مهدي الجواهري
الشاعر محمد مهدي الجواهري

في هذه الأيام تمر الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، وهي فرصة ليست فقط للاستذكار، قدر ما هي محطة للمراجعة ولزرع أكبر عدد من بذور الأسئلة التي تخص ميداننا الثقافي والأدبي على وجه التحديد.
أولى هذه الأسئلة، كم سيبقى الجواهري حياً في وجدان الذاكرة الثقافية العربية والعراقية؟ هل يستطيع أن يقاوم صدأ الأزمنة التي تأكل كل شيء؟
ما هي مقومات البقاء والخلود للجواهري؟ هل الأمر مرتبط بشعره وقوته؟ أم أن الأمر مرتبطٌ بحياة الناس والسياسة وتقلباتها؟
هل البقاء والخلود النسبي للشاعر له علاقة بالشكل الكلاسيكي أم لا؟ بمعنى هل يمتلك الشعر العمودي سطوة البقاء أكثر من غيره من الأشكال الشعرية؟ أم أن المقارنة ليست في محلها؟
يأتي الحديث عن الجواهري، حيث استعادت وزارة الثقافة العراقية من جديد حضوره الكبير، حين شرعت في طباعة أعماله الشعرية الكاملة فخرج ديوان الجواهري بطبعة جديدة مزيدة ومنقحة وتحت إشراف عدد من أساتذة الأدب المعروفين (حسن ناظم، سعيد الزبيدي، سعيد عدنان، نادية العزاوي، رهبة أسودي). هذا يعني أن الجواهري يحضر بين مدة وأخرى في الوسط الثقافي والاجتماعي؛ مما يعني أيضاً أنَّ حديثاً جديداً سيدور عن الجواهري، وبالفعل كلما رأوا الديوان بدأت الأسئلة تُطرح حول شعره، وهل وجدتم جديداً له؟ وكم قصيدة وجدتم؟ ولماذا أضفتم قصائد لا يرغب فيها؟ ومن هذه الأسئلة الكثير الكثير، وهي في الواقع أسئلة تُسهم في إعادة الجواهري بقوة للوسط الثقافي والاجتماعي وحتى السياسي، ذلك أن طباعة ديوان الجواهري أغرت رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح في أن يكتب تغريدة عن طبعة الديوان الجديدة، وهذا يعني أن الجواهري يحضر سياسياً وبقوة، فما هي أسباب القوة التي يمتلكها الجواهري لكي يحضر بهذا الشكل؟
البعض يعزوها للعمر الطويل الذي عاشه، وهو عبارة عن قرن من الزمن، رافق فيه ولادة الدولة العراقية ونمو المجتمعات، وشاهد الانقلابات والصراعات، وكتب عن كل شيء مر بهذا البلد، فضلاً عن مشاركاته الوجدانية في معظم الأحداث العربية والعالمية، فهو دائم ودائب الحضور في كل مناسبة، ولكن هل يستطيع شعر المناسبات أن يكون حائطاً قوياً يستند إليه صاحبه؟ لا أظن أن لشعر المناسبات طاقة كبيرة تمنح صاحبها خلوداً كبيراً، فهي في العادة مرتبطة بالحدث، فبمجرد زوال الحدث ستزول القصائد معه؛ لذلك نحن لا نتذكر الجواهري كثيراً في تنويمة الجياع، أو قصائده في جمال الدين الأفغاني، أو في عبد الكريم قاسم، أو جمال عبد الناصر أو أو أو أو، هذا يعني أن شعر المناسبات سبب رئيسي لنسيان الشاعر لا خلوده، وكلما كان الشاعر مرتبطاً بالأحداث والمناسبات والشخوص ستقل كثيراً أيامه في ذاكرة الزمن، إلى أنْ يختفي اسمه نهائياً.
البعض الآخر ينظر للجواهري مؤرخاً للأحداث التي مر بها العراق، وقد درسه أحد الباحثين، ولكن في قسم التاريخ وليس في الأدب، مستعيناً بقصائد الجواهري في تحليل الظاهرة التاريخية، من مظاهرات أو تحالفات مع الإنجليز أو أحداث كبرى مرَّ بها البلد، فكتب الجواهري فيها قصائد، ولكن نسأل أيضاً... هل الجواهري مؤرخ؟ ما الذي سيبقى من القصائد لو قُرئت على أنها أحداث تاريخية؟ قطعاً ستذبل أوراق القصائد تلك، وستكون أداة بيد المؤرخين بوصف القصيدة شاهداً على حادثة ما يُستشهد بها فقط لتأكيد الحادثة لا غير، وهنا سيكون الشعر عاملاً مساعداً للمؤرخ، في حين أن مكان القصيدة في الأمام، ولا يليق بالشعر أن يكون شاهداً في محكمة الحياة، إنما هو محرك للأحداث وصانع لها.
عددٌ آخر ممن رأى الجواهري وسمعه يتحدث عن عنفوان شخصيته وتمردها ومزاجها الحاد، وهي مواصفات شعرية تمنح صاحبها هيبة ورهبة بالنسبة للآخرين؛ وبهذا حين يتحدث من شاهد الجواهري بهذه الصفات فإنه يمنحه طاقة أخرى مضافة إلى قصائده، ولكن أيضاً لنا أن نتساءل كم سيبقى ذلك الحديث طرياً عن شخصية الجواهري؟ وها هم شهوده الذين رأوه بدأوا يغادرون واحداً تلو الآخر، وإلى متى ستكون شخصيته جزءاً من بناء قصيدته ليلتف بكل هذه الهالة من الكبرياء والخلود؟ لا أظن أن الحديث عن شخصية الشاعر سيعيش طويلاً، لأنني ازعم أن الشخصية ذات الصفات الشعرية من حدة المزاج، أو عصبيته، أو عنفوانه، لن تُسهم هذه الصفات بعد رحيل صاحبها بحقن النصوص بها؛ لأن النص سيبقى عارياً أمام متلقٍ لم ير الجواهري، وحتى لم يسمع عن شخصيته الكثير، ولن يهمه هذا الأمر إن كان الجواهري عصبياً أو بارد الأعصاب، لاهياً أو جاداً، مؤدلجأ أو مستقلاً، صادقاً أو كاذباً، ستختفي كل هذه الصفات لتبقى قصيدته بين يدي شاب ولد بعد مائة عام من ولادة الجواهري، أي بعد عامٍ من وفاته، شاب خال من كل هذه الالتباسات التي تسهم بتلقي القصيدة، وظروفها، وظروف صاحبها.
فما الذي يبقي الجواهري نابضاً بعد حركة الشعر الحر «التفعيلة» حركة الحداثة الأولى، ومن ثم حركة الحداثة الثانية «قصيدة النثر» ومئات الشعراء الذين أغرتهم فكرة التجريب في الشعر، فجرّبوا عشرات الأشكال، وبطرق مختلفة في التعبير والأداء في القصيدة العربية، وربما كُتبت مئات وآلاف البحوث والدراسات عن الفتوحات في الشعر العربي على أيدي شعراء الحداثة أكثر بمئات المرات مما كتب عن الجواهري، ولكن في النهاية حين يذكر الجواهري سنكون بإزاء صمت مطبق على بقية الأسماء.
إذن، ما الذي يبقي الجواهري متقد الحضور بيننا ونحن في بعض المرات نقرأ له نصوصاً ننقدها بوصفها نصوصاً كلاسيكية والبعض منها تقليدي، والبعض الآخر منها نصوص لغوية فقط خالية من الصورة، ولكننا نتذكر له إضاءات مهمة فيعود الجواهري للواجهة.
وهذا السؤال هو سؤال يصلح لكل الشعراء الذين خلدوا في الوجدان العربي وقاوموا الأزمنة التي مرت عليهم من امرئ القيس مروراً بأبي نواس وأبي تمام والبحتري، حتى نصل إلى الأهم وهو المتنبي ومن ثم المعري والشريف الرضي وصولاً إلى الجواهري، الذي يرتبط بخيط خفي وظاهر مع هذه المسبحة الذهبية، التي يسبِّح بها العالم العربي، فكيف استطاع الجواهري أن يكون خرزة ذهبية تضاف للخرز الموجودة في مسبحة الشعر العربي؟
بصراحة، أنا لا أملك إجابات محددة لهذا الموضوع؛ لأنه واسع ومتشعب ولا يمكن أنْ تستوعبه مقالة واحدة؛ لأن مثل هذا الحديث يجب أنْ يكون علمياً وغير خاضع للأمزجة والتكهنات فقط؛ فالجواهري لحد هذه اللحظة هو مؤثر وفاعل، وحاضر حضوراً قوياً في المشهد الشعري العربي، وكأن كل موجات الحداثة لم تؤثر عليه، ولم تستطع أن تغير المتلقي نحوه، فما زال حاضراً حتى في السوشيال ميديا، حيث تحولت العديد من مقاطعه الصوتية وقصائده إلى فيديوهات محفوظة في أجهزة «الآي فون» بيد الشباب، قصائد كلاسيكية في فيديوهات مصورة محفوظة في أحدث تقنيات التواصل الاجتماعي، في حين عجزت نصوص الحداثة من أن تكون جملة واحدة في التقنيات الحديثة، لماذا؟ أسئلة عديدة يمكن أن نطرحها على تجربة الجواهري الكبيرة، رغم أني ذكرتُ مرة أن الجواهري سيبقى منه القليل من الشعر، وستذهب نصوصه في السياسة ومعتركها دون ذكر، سيحتفظ التاريخ بنصوصه النافرة والمتمردة التي كُتبت للشعر فقط، ولا وظيفة لها غير الشعر، ستبقى «يا نديمي، والراعي، وأم عوف، وبائعة السمك في براغ» وقصائد آخر بهذه الطريقة نفسها التي تكون القصيدة مكتوبة للشعر فقط، ولا غرض من ورائها إلا الشعر، ستبقى نصوص الرؤيا التي يتمتع بها الجواهري والتي يعبّر فيها عما سيكون في المستقبل؛ إذ إن مثل هذه النصوص ستعيش طويلاً معنا ومع همومنا، ولكن إذا تغير الحال، وأصبحت بغداد مثل باريس أو سويسرا أو استوكهولم هل سنجد شباباً يقرأون أبياتاً تقول:
«سينهض من صميم اليأس جيلٌ» أو لنفترض أننا في المستقبل سنكون إزاء حكّام عرب ديمقراطيين هل سنردد قول الجواهري:
«باقٍ وأعمار الطغاة قصار» أو حين يكون الوطن جنة للجميع ولا مغترب في أي بلدٍ هل سنردد «حييت سفحك عن بعدٍ فحييني»
هل الشعر كما يقول أبو عمرو بن العلاء «نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير فسد ولان»؟ هل يصلح الجواهري شاعراً في البلدان الديمقراطية السعيدة؟ أم إنه موكولٌ بنا نحن الأمم المنكسرة التي لا تملك غير الصوت العالي؟



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.