نماذج من أفلام حول البحر على السطح وفي الأعماق

من هيتشكوك وفيلليني إلى كاميرون وشهد أمين

من فيلم فيلليني «والسفينة تمضي»
من فيلم فيلليني «والسفينة تمضي»
TT

نماذج من أفلام حول البحر على السطح وفي الأعماق

من فيلم فيلليني «والسفينة تمضي»
من فيلم فيلليني «والسفينة تمضي»

حكاية فيلم «عجوز» (النقد أدناه) تحتوي على شاطئ وبحر. تجوبهما الكاميرا وتقع الأحداث على الأول ثم تمضي صوب الآخر. لكنّ هذا لا يعني أن البحر في هذا الفيلم له شخصية دامغة أو حضور في التداعيات الذهنية أو إيحاءات من أي نوع.
على هذا النحو هناك الكثير من الأفلام التي دارت أحداثها في البحار أو عند نقاط التقائه بالبر. غالب أحداث «قراصنة الكاريبي» على سبيل المثال يقع في سفن تبحر أحياناً في أجواء هادئة وعلى سطح مياه ساكنة وأحياناً في وسط عواصف هوجاء. على ذلك الدور الذي يلعبه البحر في هذه السلسلة تكميلي ينبع من طبيعة الحكاية المرويّة.

مادة صالحة للحبكة
لكن للبحر مفاهيم واسعة ومدلولات مختلفة وبالتالي هويّة مهمّة في إطار الأفلام التي تعرف كيف تتجاوز حضوره الطبيعي والقصصي.
البحر هو الخلاص عند المخرج فديريكو فيلليني. عندما يحاول الصحافي مارشيللو ماستروياني في فيلم «لا دولتشي ڤيتا» (1960) إعادة اكتشاف موقعه من الحياة، يترك المدينة وراءه ويقصد البحر. البحر موجود في العديد من أفلام فيلليني الأخرى ودائماً كتطلع صوب أفق دافئ، كما الحال في «أماركورد» (1973) أو كملجأ لحياة جديدة كما الحال في «والسفينة ترحل» (1983). بدوره عالج المخرج محمد خان البحر على أكثر من وجه؛ في «أحلام هند وكاميليا» هو مستقبل يلغي الحياة الصعبة التي عاشتها بطلتا الفيلم، نجلاء فتحي وعايدة رياض ومعهما طفلة إحداهما أحلام. على شاطئ الإسكندرية تجد تلك الألفة والسعادة مجسّدة كنهاية رحلة وبداية أخرى.
وعلى الشاطئ ذاته اختار خان حكاية فيلمه الأخير «قبل زحمة الصيف». كان يمكن للأحداث ذاتها أن تقع، على نحو أو آخر، في المدينة أو في منتجع صحراوي أو في قرية سياحية، لكنه اختار البحر كانعكاس لمشاغل حفنة من الشخصيات التي كانت تحتاج إلى مساحة طبيعية حرّة (فضاء، بحر، ساحل غير معجوق) لكي تكشف الآخرين وتكتشف أشياء عن ذواتها.
ليس على البحر دوماً أن يكون ملاذاً؛ هو الخطر المحدق في أفلام، والبديل الخطر للحياة على اليابسة في أفلام أخرى. هو وديع هنا وغاضب هناك. مثار تساؤلات حول ما الذي سيحدث حيناً، وعمقٌّ لا متناهٍ حيناً آخر.
مرّة أخرى، لا تتوانى بعض الأفلام عن تصوير البحر كمادة صالحة للحبكة. كجزء من مغامرة من دون ذلك الحضور المدهم الذي يجعل المشاهد قادراً على تخيّل نفسه في الدوّامة فيما لو كان محل أحد الشخصيات. هذا نراه في «سبيد 2» لجان دي بونت (1997) و«الرحمة» لجيمس مارش (2017) و«سفينة شبح» لستيف بك. تحديد البحر بالمغامرة وحدها (كما حال هذه الأفلام) لا يعني تقييماً مُعيّناً لصالح الفيلم أو ضده، بل يعني أن الأحداث هي التي طغت حضوراً ولغاية تشويقية محدودة.
هذا يحدث في «قارب حياة» (Life Boat) لألفرد هيتشكوك (1944). في ذلك الفيلم يجد ناجون من سفينة غرقت بفعل قذيفة ألمانية في رحى الحرب العالمية الثانية، أنفسهم عالقين في قارب صغير يبحث عن شاطئ أو ربما عن سفينة أخرى عابرة. لمحات من الحضور المائي كخطر محدق على الجميع تسود في خلفية الصراع من أجل الحياة.
هذا ليس بعيداً عن فيلمين لاحقين هما «حياة باي» لآنغ لي (2012) و«كل شيء ضاع» (All is Lost) للمخرج ج. س. شاندور (2013). كلاهما عن رجل وحيد في غابة من الماء. لكن المعضلات تختلف. هي غرائبية إلى حد بعيد في الفيلم الأول وواقعية إلى حد بعيد كذلك في الفيلم الثاني. «حياة باي» كان الأسبق إلى الشاشات وألهم البعض رغم أنه لم يكن الفيلم الجيد على أكثر من وجه، بينها قدرته المفترضة على الإيحاء. هذا على عكس «كل شيء ضاع» الذي دخل في صميم حياة رجل منفرد فوق قارب معطّل. لا يمكن مع هذا الفيلم الرائع إلا قراءة تاريخ الرجل (من دون مشهد فلاشباك واحد) والوضع الاجتماعي والسياسي لأميركا ذاتها. بذلك البحر هنا مناسبة لاكتشاف واقع. نقلة ما بين فترة وأخرى وليس مجرد مكان لرحلة.

في القاع
هناك عدّة أفلام عن سفن وقوارب تغرق. «تايتانِك» لجيمس كاميرون (1997) أحدها. حضور البحر هنا متعدد الأوجه. هو المحيط الذي لا مهرب منه. الصراع من أجل النجاة. التضحية. بداية ونهاية قصّة حب. ثم تاريخ فعلي لباخرة وُصفت بأنها عصيّة على الغرق، لكن ها هي في رحلتها الأولى عبر المحيط تصطدم بجبل ثلجي. هو نجا وهي غرقت.
لكاميرون ثلاثة أفلام بحرية أخرى هي: «الهاوية» (The Abyss) أخرجه قبل «تايتانِك» بسبع سنوات، والثاني «أشباح الهاوية» (2003)، والثالث «غرباء العمق» (Aliens of the Deep) بعد عامين (2005). تعبر هذه الأفلام التسجيلية التي تذهب بالكاميرا إلى حيث لم تذهب السينما من قبل، لا عن حب المخرج للبحر كمفاد لغموض الحياة في بيئتها الأولى وداخل أعماقها الغريبة فقط، بل عن عالم مخيف وغريب استخدمته أفلام الوحوش المائية (مثل سلسلة «غودزيللا») للحديث عن مخاطر تنبع منه لتغزو اليابسة.
فيلم ستيفن سبيلبرغ «Jaws» لم يشأ أن يتحدّث عن وحوش خيالية. البحر في ذلك الفيلم الذي حققه سنة 1975 مع روي شايدر وروبرت شو ورتشارد دريفوس في البطولة يتعامل والبحر من دون تصوير أعماقه. سمكة القرش الكبيرة والفتّاكة التي تتغذى على أبدان الضحايا قرب الشاطئ، ليس عليها أن تغوص كثيراً. فيلم سبيلبرغ يستخدم البحر كديكور لكنه استخدام في مكانه وبُعده هو الخوف من الوجود. بذلك هو قريب من استخدام سبيلبرغ للشاحنة ذات السائق المجهول الذي يحاول قتل سائق سيارة صغيرة في «مبارزة» (1971). هذا الاستخدام قريب من طبيعة فيلم «موبي دِك» (Mobi Dick) لجون هيوستن (1956) حيث ينبري كابتن أهاب (غريغوري بِك) لصيد حوت كبير. أهاب صياد حيتان خسر ساقه في غمار هوسه بالصيد والمغامرة التي نراها مشدودة أمامنا هي الأصعب والأخطر بين كل مغامراته.

الصدّيق وشهد أمين
بعد عامين من ذلك الفيلم قام الأميركي جون ستيرجز بتحقيق رواية إرنست همنغواي «العجوز والبحر». العيش في قرية ساحلية بالنسبة للصياد العجوز (سبنسر ترايسي) لا يُغني شيئاً عن خوض الحياة في ذلك اليمّ الشاسع. واهن وضعيف والغلة لم تعد تكفي لبيع صيده في السوق. هذه المرّة، وبعد فترة طويلة من التجديف بعيداً يصطاد سمكة كبيرة يصارعها وتصارعه. كل منهما يريد البقاء حيّاً. كل منهما محقٌّ في صراعه.
عدّة أفلام خليجية تعاملت مع البحر. غالبيتها أفلام تسجيلية عن صيد السمك وصيد اللؤلؤ. لكن الروائي كان له حضوره أيضاً. في «بس يا بحر» للكويتي خالد الصدّيق، كل ما كان يلزم في زمن إنتاج الفيلم (1971) من بحث في حال مجتمع ما قبل النفط كخلفية لحكاية شاب سيغوص بحثاً عن اللؤلؤ كي يعيل أهله بعدما فقد والده الغطّاس ذراعه. في الوقت ذاته، هناك الفتاة التي يحب والتي سيتقرّب منها إذا ما عاد بالجواهر الثمينة.
في فيلم السعودية شهد أمين «سيدة البحر» (2019) جنوح مثير صوب الغرائبية: حياة، بطلة الفيلم، تعيش فوق جزيرة قاحلة. والدها مجبَر على التضحية بها لإرضاء حورية البحر حتى يرتفع منسوب صيد السمك لدى أهل القرية. حكاية خيالية لا تحديد لمكان حدوثها لكنها موحية بالأسطورة من ناحية وبالبحث عن حريّة المرأة واستعادتها للقرار الذاتي.



شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
TT

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)

RENDEZ‪-‬VOUS AVEC POL‪-‬POT ★★★

* إخراج: ريثي بَنه (فرنسا/ كمبوديا)

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.

لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.

الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.

في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟

هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

‪THE‬ WRESTLE‪R‬ ★★

* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).

يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.

«المصارع» (أبلبوكس فيلمز)

هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.

يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★

* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).

قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).

«أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» (مهرجان مراكش)

نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.

اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.

* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز