محمد سبيلا مشى على هدي سلفه الأندلسي ابن رشد

التنويري المغربي طرح مسألة العلاقة بين التراث والحداثة أفضل مما فعل غيره

المفكر الراحل محمد سبيلا
المفكر الراحل محمد سبيلا
TT

محمد سبيلا مشى على هدي سلفه الأندلسي ابن رشد

المفكر الراحل محمد سبيلا
المفكر الراحل محمد سبيلا

كنت قد التقيت محمد سبيلا، الباحث المغربي الذي رحل الأسبوع الماضي، على هامش عدة مؤتمرات فكرية حصلت في الدار البيضاء وفاس ومكناس والمحمدية والرباط، إلخ. وما أكثر المؤتمرات والندوات في المغرب، هذا البلد المثقف الجميل الذي يعد الوريث الشرعي للحضارة الأندلسية العظيمة.
وفي كل هذه اللقاءات كنت أشعر بأخوّته وصداقته الكبيرة، يضاف إلى ذلك أن الهموم الفكرية كانت مشتركة بيننا. فهو مشغول جداً بموضوع التراث والحداثة وأنا أيضاً. ومعلوم أنه كان أستاذاً كبيراً للفلسفة في جامعة محمد الخامس الشهيرة في الرباط وقبلها كان رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة فاس العريقة. أعتقد أنه لم يهتم مثقف مغربي ولا حتى عربي بموضوع التنوير والحداثة أكثر مما اهتم محمد سبيلا. لقد كان قدوة لنا جميعاً في هذا المجال. يكفي أن نعدّد عناوين كتبه مجرد تعداد لكي نتأكد من ذلك: مدارات الحداثة، المغرب في مواجهة الحداثة، الحداثة وما بعد الحداثة، دفاعاً عن العقل والحداثة، مخاضات الحداثة، الشرط الحداثي، إلخ.
أعتقد أن الدكتور محمد سبيلا عرف كيف يطرح مسألة العلاقة بين التراث والحداثة بشكل أنجع وأفضل مما فعل الجابري أو سواه من المثقفين العرب. فالجابري كان تراثياً أكثر منه. هذا لا يعني أن محمد سبيلا كان معادياً للتراث، أبداً أبداً... لقد كان مشبعاً بالتراث العربي الإسلامي وفخوراً به. ولكنه كان يعرف كيف يفرّق بين الجوانب المضيئة من التراث والجوانب المظلمة، الجوانب التقدمية والجوانب الرجعية. ولذلك فعندما يطرح عليك أحدهم هذا السؤال: هل أنت مع التراث أم ضده؟ لكي يحرجك رد عليه فوراً بسؤال آخر: أيُّ تراث تقصد؟ فله سفحان يا صديقي لا سفح واحد. لقد كان محمد سبيلا واضحاً كل الوضوح فيما يخص هذه النقطة. يقول لنا بهذا الصدد ما معناه: «للأسف لم يتم إحياء الجانب المستنير من التراث العقلاني والتنويري والاجتهادي الموجود في الثقافة العربية. على العكس لقد طمسوه وأشاعوا فقط الجانب المظلم المتشدد الداعي إلى العنف». هكذا نلاحظ أنه كان مدركاً تماماً لنوعية المشكلة التي نعاني منها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فالترويج للجوانب المظلمة من التراث على شاشات الفضائيات وفي برامج التعليم يمثّل مشكلة حقيقية. والأخطر من ذلك هو طمس الجوانب المضيئة. وبالتالي فنحن مع محمد سبيلا من الجنود المدافعين عن التراث ولكن ليس أي تراث أو ليس كل التراث. لن ندافع أبداً عن الجوانب الظلامية التكفيرية التي تحتقر كرامة الآخر أياً يكن. ولكن للأسف لا تزال هي السائدة والمسيطرة على الشارع العربي كما يقال. والسبب أنها امتداد لعصور الانحطاط الطويلة. وأنت لا تستطيع أن تناضل ضد ألف سنة من التحجر الفكري والتكلس والتحنط بسهولة. كل هذه الأشياء كان محمد سبيلا واعياً لها تماماً. وكان يعرف أن المعركة التنويرية مع الاتجاهات الظلامية غير متكافئة بل صعبة جداً وعسيرة.
وماذا عن وضع الفلسفة؟ ما رأيه فيها؟ هنا أيضاً يضع محمد سبيلا يده على الجرح ويقول: «المشكلة هي أن العالم العربي الإسلامي ظل ينظر إلى الفلسفة على أساس أنها بضاعة غربية دخيلة علينا. لقد رأى فيها نبتة إغريقية غريبة على ثقافتنا. وبالإضافة إلى ذلك فقد اتهم فقهاؤنا الفلسفة بالزندقة والإلحاد. لماذا؟ لأن الخطاب الفلسفي هو خطاب يختلف في منطلقاته وبنيته الاستدلالية عن الخطاب الديني التقليدي. فهذا الأخير مع احترامنا له هو خطاب مليء بالمسلّمات واليقينيات القطعية الراسخة في النفوس والتي لا تقبل النقاش. أما الخطاب الفلسفي فمفتوح للنقاش والتساؤلات والأخذ والرد. الفلسفة تطرح تساؤلات مفتوحة ولا تجبرك بشكل مسبق على الإيمان بمعتقدات ويقينيات قطعية نهائية». ونضيف إلى قول المفكر المغربي الكبير ما يلي: كان نيتشه يقول هذه العبارة العميقة: ليس الشك وإنما اليقين هو الذي يقتل! بمعنى أنه لم يُقتل أحد باسم الفلسفة وإنما قُتل الكثيرون باسم اليقينيات الدوغمائية المتحجرة. ولذلك يقول لنا محمد سبيلا ما معناه: الفلسفة ليست علماً للحقائق وإنما مجرد تساؤلات مفتوحة. ولذلك ستظل هناك عداوات دائمة ومستحكمة بين الفلسفة من جهة، وجميع أشكال الاعتقاد الدوغمائي من جهة أخرى. وهذا شيء موجود في المجتمعات البشرية كافة. ولكنه اتخذ طابعاً حاداً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. ويرى الدكتور سبيلا أن تاريخنا العربي الإسلامي مليء بتحقير الفلاسفة ومحاولات الإجهاز على الفلسفة. وهناك وقائع تثبت أن السلاطين القدماء حرّموا تدريس الفلسفة في جامعة القرويين. لحُسن الحظ فإن هذا الوضع تغير كلياً مؤخراً. فالفلسفة أصبحت تُدرس في جامعات المغرب بل حتى في مدارسه الثانوية في ظل الملك المستنير محمد السادس.
بالطبع لا يجهل محمد سبيلا أن معاداة الفلسفة تعود إلى فقهاء عصر الانحطاط بالدرجة الأولى لا إلى النصوص الإسلامية التأسيسية. فهو يعرف أن القرآن الكريم حضّنا على ممارسة التعقل والتفكر والتدبر في آيات بينات عديدات. وهو هنا يلتقي مع ابن رشد الذي استشهد بهذه الآيات في بداية كتابه الشهير «فصل المقال» بغية خلع المشروعية على دراسة الفلسفة والاهتمام بها. وهو الكتاب الذي يقيم المصالحة بين الشريعة والحكمة، أو بين الدين والفلسفة. كل هذا يعرفه جيداً أستاذ الفلسفة الكبير محمد سبيلا. وعلى هدي سلفه الأندلسي العظيم كان يمشي. ولكن المشكلة هي في عصور الانحطاط الظلامية المتأخرة.
هناك فكرة أساسية أخرى يركز عليها محمد سبيلا أيضاً. وتتلخص في مصطلح واحد: الفوات المعرفي أو الفوات التاريخي. ويقصد به التفاوت التاريخي بين العرب والغرب. فهو يرى أنه ينبغي علينا أن نستدرك ما فاتنا في مجال الفلسفة. ينبغي استدراك الفوات التاريخي القديم والفوات التاريخي الحديث. ماذا يقصد بذلك؟ إنه يقصد أن العرب القدماء لم يترجموا جميع أعمال أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة الإغريق. ونحن في العصور الحديثة لم نترجم جميع أعمال ديكارت وكانط وهيغل مثلاً. فهذه جبال شامخة من الأفكار البشرية العامة، هذه جبال وغابات لم تستكشفها بعد ثقافتنا العربية المعاصرة. وهذا يشكل نقصاً كبيراً فيها أو لديها. هذا شيء لا يغتفر. هذا شيء لا يمكن أن يستمر. ثم يقول سبيلا متألماً ومستنكراً: «هل تعلمون أننا لا نمتلك المتن الكامل لديكارت، ولا المتن الكامل لكانط وهيغل ونيتشه وهيدغر وبيرغسون وعشرات غيرهم؟ لهذا السبب فنحن مطالبون باستدراك ما فات. وسوف يمر وقت طويل قبل أن نتمكن من ترجمة وهضم كل ما سبقنا وفاتنا».
لقد أعجبتني هذه الفكرة كثيراً عند محمد سبيلا وأعتقد أنها صحيحة مائة في المائة. هناك نقص في ثقافتنا، هناك فجوة كبيرة ينبغي سدها أو ردمها. فما دمنا لم نستوعب كل المراحل الكبرى السابقة من تاريخ الفكر الفلسفي فسوف نظل نشعر بنوع من الخواء والفراغ الداخلي. سوف نظل نشعر بأن هناك شيئاً ما ينقصنا ويجعل ثقافتنا هشة وسطحية ومؤدلجة أو قابلة للاختراق الآيديولوجي الديماغوجي. ما هذا الشيء الخطير الذي ينقصنا؟ إنه يتلخص في التساؤل البسيط التالي: ما الفتوحات الفلسفية الكبرى التي حصلت في تاريخ البشرية منذ القرن السادس عشر حتى اليوم؟ بل ما الفتوحات العلمية أيضاً أو الثورات العلمية؟ هل يُعقل أن يبقى المثقف العربي جاهلاً المدلول العميق لكل هذه اللحظات الحاسمة في تاريخ الفكر البشري؟ بل هل يستحق أن يُدعى مثقفاً بعد كل ذلك؟
لقد تأكدتُ أكثر من صحة هذه الأطروحة بعد أن اطّلعت مؤخراً على كتاب ضخم يستعرض تاريخ الفلسفة من أولها إلى آخرها. لأول مرة أصبحت أعرف معنى اللحظة الأفلاطونية في تاريخ الفكر، واللحظة الأرسطوطاليسية، واللحظة الرواقية، واللحظة الأبيقورية، واللحظة المسيحية، ولحظة عصر النهضة، ولحظة ديكارت... والحبل على الجرار. ولا أنسى لحظة لايبنتز وسبيوزا، والفلسفة الأنغلوساكسونية، ولحظة كانط والأنوار، ولحظة روسو وتوكفيل، ولحظة هيغل والفلسفة المثالية الألمانية، ولحظة شوبنهاور، ولحظة تلميذه نيتشه، ولحظة ماركس، ولحظة فرويد، إلخ... وقسْ على ذلك حتى وقتنا الراهن. بعد أن نطّلع جيداً على كل هذه اللحظات الأساسية أو التأسيسية ونهضمها ونستوعبها يمكن للثقافة العربية أن تواجه الثقافة الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية مواجهة الندّ للند. هذا هو جوهر أطروحة محمد سبيلا، هذا هو الدرس الكبير الذي خلّفه لنا سبيلا الذي كان غيوراً جداً على مصلحة الثقافة العربية ومستقبلها. وكان يحزّ في نفسه هذا الفوات التاريخي الذي يفصل بين الفكر العربي والفكر الأوروبي. كان يريد بأي شكل ردم هذه الهوّة الفلسفية السحيقة التي لا تزال تفصل بيننا وبين الأمم المتطورة. فتحيةً إذن إلى محمد سبيلا أستاذاً جامعياً، ومثالاً أخلاقياً، ومنارة للأجيال.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟