يوميات من داخل «الثقب الأسود»

هدى سويد تسرد وقائع التجربة المرعبة التي عاشتها إيطاليا تحت كابوس «كورونا»

يوميات من داخل «الثقب الأسود»
TT

يوميات من داخل «الثقب الأسود»

يوميات من داخل «الثقب الأسود»

«أنا أبقى في البيت» هو عنوان الكتاب الذي صدر مؤخراً في بيروت للكاتبة والصحافية اللبنانية هدى سويد (دار الفارابي، 247 صفحة)، والذي تسجل فيه وقائع ويوميات التجربة المرة والمرعبة التي عاشتها في إيطاليا، عندما ضربتها جائحة «كورونا» في أواخر عام 2019.
حمل الكتاب عنواناً فرعياً باللغة الإيطالية «Io resto a casa»، وهي العبارة - النداء التي أطلقها رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، داعياً مواطنيه إلى التزام بيوتهم، تفادياً للإصابة بذلك الفيروس الغامض، الذي ظلت هدى سويد تسميه لوقت طويل «المشتبه فيه»، لكثرة الغموض الذي أحاط به في بداية الجائحة التي ضربت العالم، ولا تزال.
هدى سويد، المقيمة في إيطاليا منذ عام 1998 والمتزوجة من إيطالي، وجدت نفسها، ككثيرين، مع اندلاع الجائحة، فيما يشبه الثقب الأسود، وسط شريط من الأحداث المرعبة والخوف الثقيل من المجهول، وعدم اليقين فيما تحمله الساعات والأيام المقبلة. إنها، بلا مبالغة، معركة الحياة مع الموت الذي يحمله ذلك «المشتبه فيه» الغامض. معركة غير متكافئة، العدو فيها مجهول لا يسفر عن وجهه أو مكانه، إذ يمكنه أن يهاجمك من طريق أقرب المقربين منك، ولذا فإنه يحوّل الآخرين، كل الآخرين، إلى «أعداء» محتملين، أو لِنَقُل إلى منصات لإطلاق الوباء باتجاهك، وإصابتك في مقتل.
كان الأمر، كما تشبّهه هدى سويد، أشبه بحفلات المصارعة الرومانية القديمة (غلادياتور)، التي يتواجه فيها مصارعان اثنان، وأحياناً أكثر، ويكون فيها مصير المهزوم متوقفاً على اتجاه إصبع الإمبراطور: «من سيفنى وكيف؟ ومن سيسلم؟ لكن من دون أن نلمح سيفاً أو إصبعاً إمبراطورياً، أو طبيباً يحسم أمر من هو كبش المحرقة».
هذا الثقب الأسود، والفراغ المرعب، لم تجد هدى سويد طريقة لتأثيثه والتعامل معه، سوى ما تجيده: الكتابة، مستعينة في ذلك بخبرة طويلة في الصحافة الاستقصائية التي احترفتها لسنوات طوال.
في كتاب هدى سويد جانبان: جانب استقصائي لوقائع الجائحة التي ضربت إيطاليا و«ركّعتها»، وجانب ذاتي حميم، هو أقرب إلى شذرات شعرية أحياناً، تسجل فيه ما اعتراها من خوف وحزن ويأس مرت به كما مر به كثيرون.
في جانبه الاستقصائي، ربما يكون كتاب هدى سويد أكمل وثيقة، مدعمة بالأرقام، عمّا عانته إيطاليا إبان محنة «كورونا»، بدءاً من أول أنباء الجائحة التي انطلقت من مدينة ووهان الصينية، وصولاً إلى تفشي الجائحة في إيطاليا، مروراً بالمصاب الإيطالي رقم واحد، وصولاً إلى مشهد الشاحنات العسكرية التابعة للجيش الإيطالي التي كانت تجوب الشوارع ليلاً، محمّلة بمئات الجثث في نعوشها، في اتجاه المحارق والمدافن، والتي كانت تضطر إلى تغيير وجهتها لأن المدافن لم تعد قادرة على استقبال مزيد من الجثث، كل ذلك «من دون أن يرافق الموتى أحد».
وتروي الكاتبة وقائع المأساة التي حصلت في دور المسنين، والتي لم تتكشف تفاصيلها كاملة، وأودت بحياة المئات منهم.
ولا يفوت الكاتبة في تسجيلها التطرق إلى حالة الارتباك، والفشل أحياناً، التي عاناها الجسم الطبي والوسط العلمي في التعامل مع الجائحة وتحديد أسبابها ووسائل مكافحتها.
باختصار، ترصد الكاتبة كيف «عاشت» إيطاليا الجائحة حتى الثمالة، وكيف «ركعت حتى الركبتين» قبل أن تبدأ بالتغلب عليها، مدفوعة في ذلك بحب الإيطاليين لبلادهم، وحس التضامن الذي عبروا عنه، مواطنين ومثقفين وفنانين وأطباء وعلماء واقتصاديين وسياسيين.
ولعل الجانب الأجمل في كتاب هدى سويد هو ذلك السفر الداخلي الذي أجبرتها الجائحة على القيام به في أثناء فترة الحجر الطويلة التي قضتها في منزلها: «تعرفت لأول مرة إلى لون جدرانه البيج المائل إلى الأبيض، الشبيه بلون منحوتة من رخام جبال كارارا المواجهة لسكني. تعرفت إلى شبابيكه الخشبية... كما تعرفت إلى عدد درجاته، سقفه وعليته، الحديقة، أشجارها وزهورها»، أو حين تكتب: «يدب الرعب، لا تعرف أين وصل وإلى أين رحل ومتى حل أو سيحل... لا وقع قدم، لا صوت».
في تلك «الصحراء المديدة» التي وجدت نفسها فيها، تتذكر هدى سويد أمها في بيروت: «أراها جميلة العمر، جميلة الصمت، وأتيقن في هذه اللحظة أنه يكفي النظر إليها كي أدري ماذا أفعل. ترحل وأنا على مقربة منها، وأحار أين وفي أي غيمة ألقاها؟ ساعية إلى فضّ الصمت قائلة: لو تعلمين كم أنا مشتاقة إليك يا أمي وليس بوسعي المجيء».
تتساءل هدى سويد في مكان من كتابها: «هل كتبت وصيتي؟ ومع أنني لم أقل نعم، لكنني أعترف بأني عبّرت عنها شفوياً للمقربين مني».
وتختم هدى سويد كتابها قائلة: «أعتقد على الأرجح أن كل ما رويته في هذا الكتاب كان عبارة عن كابوس نقلني ما بين الصين وإيطاليا، وإن وجدتم أن سردي كان رهيباً أو مخيفاً، فلأن الأحلام والكوابيس لا تكون مترابطة أحياناً في سياقها، فكيف إن استمر الكابوس هذا على مدى أكثر من عام؟».



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.