حوارات عبر الثقافات... سياسيات الترجمة

الناشرون الأميركيون والبريطانيون هم من يقرر ماذا يترجم وكيف يترجم

فالتر بنيامين - غاياتري سبيفاك - هيثم الورداني
فالتر بنيامين - غاياتري سبيفاك - هيثم الورداني
TT

حوارات عبر الثقافات... سياسيات الترجمة

فالتر بنيامين - غاياتري سبيفاك - هيثم الورداني
فالتر بنيامين - غاياتري سبيفاك - هيثم الورداني

لو تخيلنا سيناريو يقرر فيه ناشرون من بريطانيا وأميركا وحدهم تقريباً ما يمكن ترجمته من كتب للعالم الثالث، فإن دار نشر سيغل (Seagull) في كلكتا ستقاوم ذلك السيناريو بإنجاز ترجمات للأسواق المحلية والعالمية.
سياسيات الترجمة مجال شهد في العقود الأخيرة حفريات رائعة أنجزها منظّرون عديدون منذ فالتر بنيامين وحتى غاياتري سبيفاك. كما أن هناك دراسات كمية تشير إلى تدفق الترجمة باتجاهات محددة: مثلاً، من الإنجليزية إلى اللغات الأخرى، وأحياناً من لغة إلى أخرى عبر الإنجليزية. وتلك تدفقات شديدة التفاوت في عالم يخيم عليه الافتقار إلى المساواة. عدد محدود من اللغات، تقف الإنجليزية على قمته، يحدد هذه التدفقات.
غير أن مجالاً واحداً ما يزال دون استكشاف كافٍ، هو اختيار النصوص التي تترجم من الإنجليزية. لقد ظل غائباً عن الانتباه وبصورة دائمة أن النصوص التي تترجم تمر عبر ناشرين في المناطق الرئيسية من بريطانيا والولايات المتحدة. يتضح ذلك عند النظر في معظم النصوص المكتوبة بلغات جنوب آسيا (بهاشا) والمترجمة إلى الإنجليزية في الهند: معظم تلك النصوص تنشر فقط في الهند، لا يختارها أحد للترجمة أو تجد اهتماماً نقدياً على مستوى العالم. لكن تلك النصوص التي تترجم غالباً لناشر غربي رئيسي تنشر مباشرة ويحتفى بها نقدياً في جنوب آسيا. إنني لا أتحدث هنا عن المستوى وإنما عن التدفق.
وأكثر تحيزاً من تلك هي الترجمة من لغات خارج الهند ليقرأها الجمهور الهندي. يحدث ذلك فقط بتدخل الناشرين الغربيين. يزعج ذلك اللغات الأوروبية الرئيسية الأخرى كالألمانية أو الفرنسية. القاعدة هي أن الكتب الألمانية والإسبانية والفرنسية تترجم بتكليف من دار نشر بريطانية أو أميركية، وتنشر لقراء بريطانيين وأميركيين وعندئذٍ يعاد طبعها أحياناً في الهند أو باكستان أو بنغلاديش.
هذا سيناريو «كومنويلثي»، «ما بعد استعماري»، و«عالم ثالثي»: الناشرون البريطانيون والأميركيون يتولون تقريباً كل الترجمات إلى الإنجليزية من اللغات «الوطنية» الأخرى التي يعاد طبعها في الهند ونيجيريا أو في جزر الكاريبي. هذه القناة تثبت مرة أخرى سلطة المراكز الثقافية الإمبريالية والتجارة الاقتصادية ودورها الوسيط: إن الناشرين الأميركيين والبريطانيين هم من يقرر ماذا يترجم، وكيف يترجم. تقديراتهم تقرر كيف يمكن تقديم المترجم وكيف تكون هوامشه.
إذا كان كل كتاب مترجم، كما يقال، نافذة على ثقافة أخرى، فإن الناشرين البريطانيين والأميركيين هم الذين يقررون في الغالب أي النوافذ يمكن أن تفتح على ألمانيا، أو كوريا أو البرازيل للقارئ الهندي أو النيجيري. هل تفتح هذه النافذة على الجنوب أم الشمال؟ هل هذه النافذة تفتح على يمين ذلك البيت المعيّن للثقافة أم على يساره؟ رؤية القارئ الهندي أو النيجيري رؤيته حتى لألمانيا وكوريا والبرازيل تتشكل على يد مراكز تجارة اقتصادية وثقافية كولونيالية أو إمبريالية سابقة.
على هذا الأساس يبدو من المدهش ألا يُلتفت بصورة عامة إلى ما تعمله دار نشر سيغل في كلكتا ليس على المستوى العالمي وإنما حتى في الهند. إنه بسبب أن دار نشر سيغل تجدف بقوة ضد التيار. لطالما عُرفت تلك الدار بوصفها إحدى الدور الهندية القليلة التي تتبنى وتنتج ترجمات جميلة من اللغات الهندية.
معظم معرفتي، مثلاً، بأعمال ماهاسويتا ديفي، التي لم تحقق ما تستحقه عالمياً رغم جهود سبيفاك وغيرها، جاءت عبر ترجمات مميزة تبنتها ونشرتها دار سيغل. إنه تقليد اتبعته سيغل: أحدث ما أنتجت أقصوصة نابارون بهاتاتشاريا «هربرت» الحاصلة على جائزة ساهيتيا أكاديمي في ترجمة جديدة أنجزتها سونانداني بانرجي.
ويدرك المرء أيضاً أن دار سيغل كانت أحياناً تنشر ترجمات من لغات العالم الأخرى، لكن المهم أن هذه الترجمات ليست إعادة طباعة لما نشر في بريطانيا أو أميركا، كما هو الحال مع كل الترجمات الأخرى إلى الإنجليزية تقريباً التي تنشر في العالم النامي. بينما يحاول بعض المترجمين الأفراد في هذه الشعوب أن ينجزوا ترجمات مباشرة، فإن هذه تظل في الغالب غير منشورة أو تنشر عشوائياً. الترجمات الاحترافية، كالتي تنتجها دار سيغل، تميل إلى أن تكون إعادة طبع لما نشر في بريطانيا وأميركا.
إن قائمة دار سيغل باعثة على الإعجاب. منشوراتها الحديثة تتضمن، مثلاً، كتاب إيلين سكسوس «نتحدى التنبؤ»، التي ترجمت عن الفرنسية على يد بيفرلي باي براهيك، و«على الطريق الملكي» لألفريد جيلينيك من الألمانية على يد غيتا هونيغر. سيكسوس واحدة من ألمع الكاتبات الفرنسيات اليوم، كاتبة وصفها جاك دريدا بأنها «أعظم كتاب اللغة الفرنسية». مسرحية الكاتب النمساوي جيلينيك، الفائز بجائزة نوبل، «على الطريق الملكي» نشرت بعد فوز دونالد ترمب مباشرة بالرئاسة الأميركية عام 2016. في هذه الدراما نلتقي «ملكاً» مصاباً بالعمى الذاتي، حقق ثروة من خلال العقار، وملاعب الغولف والكازينوهات، يتمكن فجأة من حكم الولايات المتحدة.
ثم هناك روايات مثل «العالة» للكاتب المجري المقيم في إندونيسيا، فيرينك بارناس التي ترجمها بول أولتشفاري، و«كتاب النوم» لهيثم الورداني، الذي ترجمه من العربية روبن موجير. في حين تضع رواية «العالة» أصبع الديستوبيا على نبض عصرنا بحكاية حول رجل عالة أساساً، يربط «كتاب النوم» الشعر بالفلسفة بالسرد لاستكشاف النوم - من حيث هو «فعل» أساسي وليس من زاوية أنه غير منتج - متكئاً على خلفية احتجاجات ربيع 2013 في مصر. وينسب للورداني قوله: «لم يكن ما يهمني إبداع عمل أدبي بالمعنى المتعارف عليه، وإنما أن أحاول توظيف الأدب ليكون منهجية للتفكير».
ولربما كان في تلك المقولة ما يلخص بصورة جيدة ما تفعله دار نشر سيغل بهذه المختارات الشجاعة - وفي تقديري، الثورية - من الترجمات. الكتب المختارة متنوعة: مسرحيات، روايات، قصص، مقالات فلسفية. وفي حين تميل بصورة واضحة باتجاه الجانب التقدمي من المنظور الأدبي، فإنها ليست محصورة بالتأكيد في أي ميول آيديولوجية جامدة. مما يوحدها بالضبط هو هذا: كلها توظف الأدب من حيث هو «منهجية للتفكير».
نيفين كيشور، الناشر في دار سيغل، يعي هذا تماماً. في تعليقه على مشروعه يقول: «إنها حوارات عبر الثقافات. استكشاف استقصائي مكثف. رغبة في المعرفة. لا يمكنك أن تسميه ببساطة مواجهة أو مقابلة. يبدو وقد اتخذ شكل محادثة بين متساوين. الموازين ترجح مرة أخرى لتجد نفسك مساعداً هنا ومعلماً هناك. أحياناً كلاهما في لحظة بالغة الرهافة من الوضوح. أي حرية هائلة. أي مسؤولية هائلة».
يقول كيشور إن دار سيغل امتلكت خلال الخمسة عشر عاماً الماضية نحو 600 عنوان دولي مع حقوق نشرها في العالم. هذه كتب مهمة لكتاب مهمين، بينهم حاصلون على نوبل. لكن هذه ليست الكتب التي يمكن العثور عليها على رفوف الأكثر مبيعاً في مكتبات المطارات. وذلك سبب وجيه آخر للحصول عليها.

* المصدر: صحيفة «ذا هندو» الإلكترونية (تاميل نادو، الهند)



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.