وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن

اللواء مجدي عبد الغفار.. يؤمن بالتغيير عن طريق ذراع «المعلوماتية»

وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن
TT

وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن

وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن

ربما كانت الصدفة وحدها تقف شامخة حين قرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إجراء تعديل وزاري محدود في حكومة إبراهيم محلب، ليشمل التغيير إحدى الحقائب السيادية الدائمة في حكومات مصر منذ عهد بعيد؛ حقيبة الداخلية، فيختار السيسي رجلا أمنيا رفيعا، يعرف قدراته جيدا منذ سنوات، نتيجة تعاونهما معا في حمل مشقة حماية الأمن القومي المصري في فترة من أصعب فترات الاختلال الأمني في البلاد، وهو اللواء مجدي عبد الغفار.
يجيء تعيين اللواء مجدي عبد الغفار في منصب وزير الداخلية بينما تتطلع الدولة إلى تحقيق مناخ آمن وملائم لجذب استثمارات لشرايين الاقتصاد المنهك، خاصة قبيل المؤتمر الاقتصادي الهام في شرم الشيخ. وبينما ينتقي الرئيس المصري رجال الدولة بعين الخبرة والثقة والقدرة على تحقيق المطلوب؛ يتطلع المواطن المصري البسيط إلى حلم طال انتظاره ويتمنى أن يتحقق على يد الوزير الجديد، بالوصول إلى توازن دقيق بين وجود الأمن، وهيبة رجاله؛ دون أن ينال ذلك من كرامة المواطن أو حقوقه.
الصدفة تمثلت زمنيا في يوم الإعلان عن اسم وزير الداخلية الجديد اللواء عبد الغفار، الذي تزامن مع ذكرى يوم لن يغيب عن ذاكرة المصريين على مختلف انتماءاتهم، يوم 5 مارس (آذار)، حين اقتحم مئات من المواطنين المتحمسين المبنى الذي يمثل قلعة وقلب الداخلية؛ مبنى جهاز أمن الدولة في ضاحية مدينة نصر شرق العاصمة في مثل ذلك اليوم من عام 2011.
كانت الثورة المصرية آنذاك في أوجها، بعد تخلي رأس النظام نفسه الرئيس الأسبق حسني مبارك عن السلطة عقب تفاقم غضب شعبي عارم؛ تلك الغضبة التي بدأت بالأساس ضد ممارسات قمعية لأجهزة مبارك الأمنية.. فتوالت الدعوات مطلع عام 2011 للتظاهر ضد الانتهاكات في عيد الشرطة نفسه الذي يوافق 25 يناير (كانون الثاني).. لكن سوء تقدير النظام الحاكم وقتها أسفر عن تفاقم موجة السخط، لتنهار الشرطة مع غروب شمس يوم 28 يناير (جمعة الغضب)، ويحرق مقر الحزب الحاكم في الليلة نفسها، وتستبدل الحكومة يوم 29 يناير، قبل أن يرضخ مبارك ويتنحى بعد 18 يوما من الاحتجاجات العارمة ليلة 11 فبراير (شباط) 2011
وقبل أن يمر شهر واحد على تلك اللحظة التاريخية، اقتحم مئات المواطنين المقر الحصين لأمن الدولة في ليلة 5 مارس.. البعض قال إن ذلك يعود إلى «مؤامرة»، وآخرون قالوا إنه تتويج للانتقام الشعبي من أشرس أجهزة النظام.
لكن المحصلة كانت انهيار الجهاز الأمني الذي سبقته سمعة مثيرة للرعب على مدار سنوات طويلة.. ورغم سعادة البعض بالنصر الرمزي، فإن أغلبية الشعب المصري عانت على مدار السنوات التالية من رعب الغياب الأمني وانفلات الأمور بالشارع المصري لدرجة انتشار حوادث لم تكن معتادة من قبل في مصر، على غرار السرقة بالإكراه وباستخدام أسلحة آلية في قلب طرق رئيسية حيوية بالمدن الكبرى وعلى رأسها العاصمة القاهرة ذاتها.
وبحلول جماعة الإخوان في مقعد السلطة منتصف عام 2012 عقب انتخاب الرئيس الأسبق محمد مرسي، لم تتحسن الأوضاع الأمنية كثيرا، كما ظل هاجس التجاوزات موجودا.. لكن زوال السلطة سريعا عن الجماعة التي ظلت تحلم بها لأكثر من 80 عاما منذ تأسيسها، تسبب في انفجار جديد للأوضاع، ما زالت شواهده قائمة حتى اليوم.
الانفجار الثاني للوضع، بحسب مراقبين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، كان يتمثل في انتقام الجماعة من المجتمع عقب العزل، وذلك تزامنا مع وجود جهاز أمني محصور بين مطرقة البحث عن هيبة مهتزة، وسندان المصالحة مع شعب يبحث عن حقوقه في أمن بلا تنازل عن كرامته.
وفي ظل تلك الأوضاع الملتبسة والمرتبكة، توالى على حمل حقيبة الداخلية خلال السنوات الأربع الماضية خمسة من اللواءات قبل اللواء عبد الغفار، أغلبهم حضر إلى الوزارة من التقاعد. وهم اللواء محمود وجدي واللواء منصور العيسوي واللواء محمد إبراهيم يوسف في فترة تولي المجلس العسكري مقاليد الحكم. ثم أتى اللواء أحمد جمال الدين وتلاه اللواء محمد إبراهيم مصطفى في عهد مرسي، واستمر الأخير في عهد الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور وأول حكومات الرئيس السيسي، حتى تقرر التعديل الوزاري الأسبوع الماضي.
وقال مسؤول مصري بارز لـ«الشرق الأوسط» إن فكرة الاستعانة بـ«لواء سابق» على قمة جهاز الشرطة خلال الأعوام الماضية، وهو ما حدث مع كل الوزراء ماعدا في حالتي اللواء جمال الدين وخلفه محمد إبراهيم واللذين وصلا إلى المنصب «في الخدمة»، كان الغرض منها دائما الابتعاد عن شبهة مجاملة الجهاز الأمني بتصعيد قيادة بارزة بالخدمة إلى منصب الوزير؛ «ما قد يعني في رأي البعض أنه من الممكن أن يغض البصر عن تجاوزات زملائه الآخرين في الجهاز». موضحا أن استغلال ذلك الأسلوب خلال الأعوام الثلاثة الأولى نجح في تهدئة جزئية - إلى حد ما - للشارع المصري، بحسب رأيه.
لكن المسؤول نفسه يؤكد أن «مرحلة اختيار وزير ليعجب الشارع فقط من أجل التهدئة ولت.. المرحلة الانتقالية انتهت، والرئيس السيسي الآن يحكم الدولة بشكل مستقر، وكل رجال الدولة حاليا محسوبون عليه، ولذا فهو يشكل الحكومة بما يتماشى مع فكره، وملخصه الرجل المناسب في المكان المناسب». مشيدا باختيار اللواء عبد الغفار تحديدا للمنصب، لكونه يجمع بين الكفاءة والمهنية والفكر المتطور، إلى جانب قدر كبير من إعلاء قيمة «احترام المواطن».
وتشير المعلومات الشحيحة المتاحة عن اللواء عبد الغفار، بحكم وجوده أغلب فترات خدمته بداخل جهاز يعتمد على السرية، أنه كان أحد أكفأ ضباط جهاز الأمن في تاريخ خدمته. وأسند إليه في أحد المراحل منصبا حساسا للغاية، هو رئيس أمن جهاز الأمن الوطني، أي أنه كان الشخص المسؤول مباشرة عن حماية الجهاز نفسه من أي اختراق؛ الجهاز الشرطي الأبرز المكلف بحماية المصريين داخليا.
ووفقا لتلك المعلومة، أكد المسؤول المصري أن «من عمل بذلك الموقع تحديدا تكون لديه الخبرة الكافية لانتقاء رجاله أولا، لأن كل الأوراق تكون مكشوفة أمامه بحكم موقعه.. ثانيا، يكون من خلال خبرته في حماية قلب الجهاز الشرطي مؤهلا لحماية الجهاز ككل، والدولة بعد ذلك».
لكن الشغل الشاغل للمصريين يظل متعلقا بطبيعة ومهام وزير الداخلية الجديد.. ليس كاسم أو تاريخ، ولكن كشخصية وفكر وتعامل. خاصة أن مفارقة أخرى حملها تعيين اللواء عبد الغفار في منصب الوزير؛ كونه الوحيد من بين وزراء ما بعد 25 يناير الستة الذي جاء من رئاسة جهاز الداخلية القوي، الأمن الوطني حاليا، خليفة أمن الدولة السابق.
المفارقة دفعت إلى أذهان البعض التذكير بأن آخر من قاد الداخلية من «معبر» أمن الدولة كان العادلي نفسه، وأن أغلب وزراء داخلية مبارك مروا من نفس الطريق.. لكن ضباطا وشخصيات مصرية عامة، عرفوا عبد الغفار عن قرب، أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «اللواء عبد الغفار هو وجه نقيض للعادلي»، مشددين على أن اللواء عبد الغفار يمتاز بالحزم والصرامة حقا، لكنه حزم عملي ممزوج بالهدوء ودماثة الخلق وحسن المعاملة وإنسانية بالغة مع الآخرين، وأنه يقدر حقوق المواطن بنفس قدر اهتمامه بتوفير الأمن له.
ضابط سابق خرج من الخدمة قبل عام برتبة لواء قال لـ«الشرق الأوسط» إنه يتذكر «قمما» خلال فترة خدمته بالوزارة في عهد مبارك، «حيث وصلت الداخلية إلى أفضل مستوياتها توازنا بين واجبها الأمني واحترام المواطن في عهد الوزير الأسبق الراحل اللواء أحمد رشدي، بينما بلغت قمة هيبتها في عهد الراحل زكي بدر حين كان الجاني يرتعد قبل تنفيذ أية عملية خشية ما سيحدث له بعدها».. لكن الوزارة بلغت في رأيه أقصى درجات «الغشم» و«التجبر» و«البطش» في عهد الوزير حبيب العادلي، حين ظنت خطأ أن المواطن بلا ثمن، وتعاملت على هذا الأساس.
وبينما يؤكد الضابط السابق، الذي خدم لوقت طويل في جهاز «أمن الدولة المنحل»، أن «لكل شخصية طباعها الخاصة، واللواء عبد الغفار شخصية متوازنة.. لكني آمل أن تكون وزارته أقرب لوزارة رشدي».. كما لا يرى الضابط السابق أن هناك صدفة ما في اختيار الرئيس السيسي للواء عبد الغفار لحقيبة الوزارة، موضحا أن «تأجيل إجراء الانتخابات البرلمانية دفع للتعجيل بالأمور.. فالرئيس كان ينتظر حتى يلتئم مجلس النواب لتشكل الأغلبية الحكومة بحسب الدستور، لكن التأجيل الذي قد يصل إلى نهاية الصيف يعني أن التغيير أصبح وجوبيا الآن لأن الحكومة محسوبة على الرئيس».
ويتابع اللواء أن «فكرة تأمين مصر عامة، وشرم الشيخ على وجه الخصوص، خلال استضافة مصر لمؤتمرها الاقتصادي، دفعت إلى التعجيل بالتغيير الوزاري، نظرا لأن الأمن والأمان في هذه الفترة هو أمر لا يقبل النقاش؛ ولا يمكن المقامرة أو المغامرة به.. وهو سبب آخر لاختيار اللواء عبد الغفار تحديدا للمنصب لأنه الأقدر والأجدر على تحقيق مبدأ الأمن الوقائي».
أيضا، لا يعتقد اللواء في فكرة «صدفة» التزامن بين تعيين الوزير الجديد وذكرى اقتحام أمن الدولة، لكنه يرى أنها ربما تكون رسالة ذكية من الرئيس، الذي يعلم بالتأكيد ما سيتبع ذلك من ربط الشعب الفطن للأمور والتواريخ، فأراد أن يقول للشعب إنه «ليس كل رجال الداخلية ولا رجال أمن الدولة أشرارا.. بل كانت طبيعة مرحلة وانقضت».
وبحسب هذه الشخصيات، فإن اللواء عبد الغفار يؤمن بضرورة «تغيير سياسات في عصب الوزارة، تعتمد على فكرة أن الأمن مرادف لممارسة السطوة؛ بل هو يؤمن أن الذراع المعلوماتية هي أهم عوامل الأمن الحقيقية.. وبدا ذلك جليا في تنفيذ اللواء عبد الغفار لحركة تنقلات وتبديلات واسعة لقيادات الداخلية من أجل خدمة وتنفيذ استراتيجيته».
وزير الداخلية الجديد اللواء عبد الغفار، اعترف صراحة وعلنا في منتصف عام 2011 بتجاوزات «العهد السابق» في حق الشعب المصري، مؤكدا أن «الممارسات الخاطئة كانت مؤسسية»، وذلك بعد 3 أشهر فقط من توليه منصب وكيل جهاز الأمن الوطني، الذي خلف جهاز أمن الدولة «سيئ السمعة» عقب حله في 15 مارس 2011.
وقال اللواء عبد الغفار، في ظهور تلفزيوني نادر له آنذاك، إن «جهاز الأمن الوطني هو أحد مكتسبات ثورة 25 يناير، وهو جهاز خاص بحماية المواطن وليس لحماية النظام.. ولن يكون أبدًا مثل أمن الدولة سابقًا»، مؤكدا إعداد مشروع قانون يضمن الرقابة القضائية على أداء الجهاز، وكذلك استبعاد بعض الإدارات «سيئة السمعة» من الجهاز، كانت تتدخل في شؤون المواطنين بشكل غير لائق.
مصادر إعلامية مصرية أشارت خلال الأيام السابقة إلى ملاحظة أخرى هامة، حيث إن وجود اللواء عبد الغفار على رأس جهاز الأمن الوطني في فترة ما بعد التفكك الأمني خلال عام 2011، تزامنت مع وجود الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي على رأس جهاز المخابرات الحربية، وهي المرحلة التي فرضت تعاونا وثيقا بين الجهازين، ومعرفة عميقة بين الرجلين، لحماية الأمن المصري داخليا وخارجيا في فترة مضطربة من تاريخ مصر الحديث.
وأوضحت المصادر أن تلك «المعرفة القديمة» نجمت عنها ثقة من الرئيس المصري في رجل الأمن الوطني، مما سمح باتصال الرئيس به قبل الإعلان عن التعديل الوزاري بنحو أسبوع، ليطلب من عبد الغفار إعداد ملف شامل برؤيته لتطوير عمل الداخلية.. وهو ما أثبته قيام عبد الغفار بـ«أسرع حركة تنقلات» وتغييرات للقيادات في تاريخ وزارة الداخلية في اليوم التالي مباشرة بعد حمل الحقيبة.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.