وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن

اللواء مجدي عبد الغفار.. يؤمن بالتغيير عن طريق ذراع «المعلوماتية»

وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن
TT

وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن

وزير داخلية مصر.. أمام تحدي الوطن

ربما كانت الصدفة وحدها تقف شامخة حين قرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إجراء تعديل وزاري محدود في حكومة إبراهيم محلب، ليشمل التغيير إحدى الحقائب السيادية الدائمة في حكومات مصر منذ عهد بعيد؛ حقيبة الداخلية، فيختار السيسي رجلا أمنيا رفيعا، يعرف قدراته جيدا منذ سنوات، نتيجة تعاونهما معا في حمل مشقة حماية الأمن القومي المصري في فترة من أصعب فترات الاختلال الأمني في البلاد، وهو اللواء مجدي عبد الغفار.
يجيء تعيين اللواء مجدي عبد الغفار في منصب وزير الداخلية بينما تتطلع الدولة إلى تحقيق مناخ آمن وملائم لجذب استثمارات لشرايين الاقتصاد المنهك، خاصة قبيل المؤتمر الاقتصادي الهام في شرم الشيخ. وبينما ينتقي الرئيس المصري رجال الدولة بعين الخبرة والثقة والقدرة على تحقيق المطلوب؛ يتطلع المواطن المصري البسيط إلى حلم طال انتظاره ويتمنى أن يتحقق على يد الوزير الجديد، بالوصول إلى توازن دقيق بين وجود الأمن، وهيبة رجاله؛ دون أن ينال ذلك من كرامة المواطن أو حقوقه.
الصدفة تمثلت زمنيا في يوم الإعلان عن اسم وزير الداخلية الجديد اللواء عبد الغفار، الذي تزامن مع ذكرى يوم لن يغيب عن ذاكرة المصريين على مختلف انتماءاتهم، يوم 5 مارس (آذار)، حين اقتحم مئات من المواطنين المتحمسين المبنى الذي يمثل قلعة وقلب الداخلية؛ مبنى جهاز أمن الدولة في ضاحية مدينة نصر شرق العاصمة في مثل ذلك اليوم من عام 2011.
كانت الثورة المصرية آنذاك في أوجها، بعد تخلي رأس النظام نفسه الرئيس الأسبق حسني مبارك عن السلطة عقب تفاقم غضب شعبي عارم؛ تلك الغضبة التي بدأت بالأساس ضد ممارسات قمعية لأجهزة مبارك الأمنية.. فتوالت الدعوات مطلع عام 2011 للتظاهر ضد الانتهاكات في عيد الشرطة نفسه الذي يوافق 25 يناير (كانون الثاني).. لكن سوء تقدير النظام الحاكم وقتها أسفر عن تفاقم موجة السخط، لتنهار الشرطة مع غروب شمس يوم 28 يناير (جمعة الغضب)، ويحرق مقر الحزب الحاكم في الليلة نفسها، وتستبدل الحكومة يوم 29 يناير، قبل أن يرضخ مبارك ويتنحى بعد 18 يوما من الاحتجاجات العارمة ليلة 11 فبراير (شباط) 2011
وقبل أن يمر شهر واحد على تلك اللحظة التاريخية، اقتحم مئات المواطنين المقر الحصين لأمن الدولة في ليلة 5 مارس.. البعض قال إن ذلك يعود إلى «مؤامرة»، وآخرون قالوا إنه تتويج للانتقام الشعبي من أشرس أجهزة النظام.
لكن المحصلة كانت انهيار الجهاز الأمني الذي سبقته سمعة مثيرة للرعب على مدار سنوات طويلة.. ورغم سعادة البعض بالنصر الرمزي، فإن أغلبية الشعب المصري عانت على مدار السنوات التالية من رعب الغياب الأمني وانفلات الأمور بالشارع المصري لدرجة انتشار حوادث لم تكن معتادة من قبل في مصر، على غرار السرقة بالإكراه وباستخدام أسلحة آلية في قلب طرق رئيسية حيوية بالمدن الكبرى وعلى رأسها العاصمة القاهرة ذاتها.
وبحلول جماعة الإخوان في مقعد السلطة منتصف عام 2012 عقب انتخاب الرئيس الأسبق محمد مرسي، لم تتحسن الأوضاع الأمنية كثيرا، كما ظل هاجس التجاوزات موجودا.. لكن زوال السلطة سريعا عن الجماعة التي ظلت تحلم بها لأكثر من 80 عاما منذ تأسيسها، تسبب في انفجار جديد للأوضاع، ما زالت شواهده قائمة حتى اليوم.
الانفجار الثاني للوضع، بحسب مراقبين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، كان يتمثل في انتقام الجماعة من المجتمع عقب العزل، وذلك تزامنا مع وجود جهاز أمني محصور بين مطرقة البحث عن هيبة مهتزة، وسندان المصالحة مع شعب يبحث عن حقوقه في أمن بلا تنازل عن كرامته.
وفي ظل تلك الأوضاع الملتبسة والمرتبكة، توالى على حمل حقيبة الداخلية خلال السنوات الأربع الماضية خمسة من اللواءات قبل اللواء عبد الغفار، أغلبهم حضر إلى الوزارة من التقاعد. وهم اللواء محمود وجدي واللواء منصور العيسوي واللواء محمد إبراهيم يوسف في فترة تولي المجلس العسكري مقاليد الحكم. ثم أتى اللواء أحمد جمال الدين وتلاه اللواء محمد إبراهيم مصطفى في عهد مرسي، واستمر الأخير في عهد الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور وأول حكومات الرئيس السيسي، حتى تقرر التعديل الوزاري الأسبوع الماضي.
وقال مسؤول مصري بارز لـ«الشرق الأوسط» إن فكرة الاستعانة بـ«لواء سابق» على قمة جهاز الشرطة خلال الأعوام الماضية، وهو ما حدث مع كل الوزراء ماعدا في حالتي اللواء جمال الدين وخلفه محمد إبراهيم واللذين وصلا إلى المنصب «في الخدمة»، كان الغرض منها دائما الابتعاد عن شبهة مجاملة الجهاز الأمني بتصعيد قيادة بارزة بالخدمة إلى منصب الوزير؛ «ما قد يعني في رأي البعض أنه من الممكن أن يغض البصر عن تجاوزات زملائه الآخرين في الجهاز». موضحا أن استغلال ذلك الأسلوب خلال الأعوام الثلاثة الأولى نجح في تهدئة جزئية - إلى حد ما - للشارع المصري، بحسب رأيه.
لكن المسؤول نفسه يؤكد أن «مرحلة اختيار وزير ليعجب الشارع فقط من أجل التهدئة ولت.. المرحلة الانتقالية انتهت، والرئيس السيسي الآن يحكم الدولة بشكل مستقر، وكل رجال الدولة حاليا محسوبون عليه، ولذا فهو يشكل الحكومة بما يتماشى مع فكره، وملخصه الرجل المناسب في المكان المناسب». مشيدا باختيار اللواء عبد الغفار تحديدا للمنصب، لكونه يجمع بين الكفاءة والمهنية والفكر المتطور، إلى جانب قدر كبير من إعلاء قيمة «احترام المواطن».
وتشير المعلومات الشحيحة المتاحة عن اللواء عبد الغفار، بحكم وجوده أغلب فترات خدمته بداخل جهاز يعتمد على السرية، أنه كان أحد أكفأ ضباط جهاز الأمن في تاريخ خدمته. وأسند إليه في أحد المراحل منصبا حساسا للغاية، هو رئيس أمن جهاز الأمن الوطني، أي أنه كان الشخص المسؤول مباشرة عن حماية الجهاز نفسه من أي اختراق؛ الجهاز الشرطي الأبرز المكلف بحماية المصريين داخليا.
ووفقا لتلك المعلومة، أكد المسؤول المصري أن «من عمل بذلك الموقع تحديدا تكون لديه الخبرة الكافية لانتقاء رجاله أولا، لأن كل الأوراق تكون مكشوفة أمامه بحكم موقعه.. ثانيا، يكون من خلال خبرته في حماية قلب الجهاز الشرطي مؤهلا لحماية الجهاز ككل، والدولة بعد ذلك».
لكن الشغل الشاغل للمصريين يظل متعلقا بطبيعة ومهام وزير الداخلية الجديد.. ليس كاسم أو تاريخ، ولكن كشخصية وفكر وتعامل. خاصة أن مفارقة أخرى حملها تعيين اللواء عبد الغفار في منصب الوزير؛ كونه الوحيد من بين وزراء ما بعد 25 يناير الستة الذي جاء من رئاسة جهاز الداخلية القوي، الأمن الوطني حاليا، خليفة أمن الدولة السابق.
المفارقة دفعت إلى أذهان البعض التذكير بأن آخر من قاد الداخلية من «معبر» أمن الدولة كان العادلي نفسه، وأن أغلب وزراء داخلية مبارك مروا من نفس الطريق.. لكن ضباطا وشخصيات مصرية عامة، عرفوا عبد الغفار عن قرب، أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «اللواء عبد الغفار هو وجه نقيض للعادلي»، مشددين على أن اللواء عبد الغفار يمتاز بالحزم والصرامة حقا، لكنه حزم عملي ممزوج بالهدوء ودماثة الخلق وحسن المعاملة وإنسانية بالغة مع الآخرين، وأنه يقدر حقوق المواطن بنفس قدر اهتمامه بتوفير الأمن له.
ضابط سابق خرج من الخدمة قبل عام برتبة لواء قال لـ«الشرق الأوسط» إنه يتذكر «قمما» خلال فترة خدمته بالوزارة في عهد مبارك، «حيث وصلت الداخلية إلى أفضل مستوياتها توازنا بين واجبها الأمني واحترام المواطن في عهد الوزير الأسبق الراحل اللواء أحمد رشدي، بينما بلغت قمة هيبتها في عهد الراحل زكي بدر حين كان الجاني يرتعد قبل تنفيذ أية عملية خشية ما سيحدث له بعدها».. لكن الوزارة بلغت في رأيه أقصى درجات «الغشم» و«التجبر» و«البطش» في عهد الوزير حبيب العادلي، حين ظنت خطأ أن المواطن بلا ثمن، وتعاملت على هذا الأساس.
وبينما يؤكد الضابط السابق، الذي خدم لوقت طويل في جهاز «أمن الدولة المنحل»، أن «لكل شخصية طباعها الخاصة، واللواء عبد الغفار شخصية متوازنة.. لكني آمل أن تكون وزارته أقرب لوزارة رشدي».. كما لا يرى الضابط السابق أن هناك صدفة ما في اختيار الرئيس السيسي للواء عبد الغفار لحقيبة الوزارة، موضحا أن «تأجيل إجراء الانتخابات البرلمانية دفع للتعجيل بالأمور.. فالرئيس كان ينتظر حتى يلتئم مجلس النواب لتشكل الأغلبية الحكومة بحسب الدستور، لكن التأجيل الذي قد يصل إلى نهاية الصيف يعني أن التغيير أصبح وجوبيا الآن لأن الحكومة محسوبة على الرئيس».
ويتابع اللواء أن «فكرة تأمين مصر عامة، وشرم الشيخ على وجه الخصوص، خلال استضافة مصر لمؤتمرها الاقتصادي، دفعت إلى التعجيل بالتغيير الوزاري، نظرا لأن الأمن والأمان في هذه الفترة هو أمر لا يقبل النقاش؛ ولا يمكن المقامرة أو المغامرة به.. وهو سبب آخر لاختيار اللواء عبد الغفار تحديدا للمنصب لأنه الأقدر والأجدر على تحقيق مبدأ الأمن الوقائي».
أيضا، لا يعتقد اللواء في فكرة «صدفة» التزامن بين تعيين الوزير الجديد وذكرى اقتحام أمن الدولة، لكنه يرى أنها ربما تكون رسالة ذكية من الرئيس، الذي يعلم بالتأكيد ما سيتبع ذلك من ربط الشعب الفطن للأمور والتواريخ، فأراد أن يقول للشعب إنه «ليس كل رجال الداخلية ولا رجال أمن الدولة أشرارا.. بل كانت طبيعة مرحلة وانقضت».
وبحسب هذه الشخصيات، فإن اللواء عبد الغفار يؤمن بضرورة «تغيير سياسات في عصب الوزارة، تعتمد على فكرة أن الأمن مرادف لممارسة السطوة؛ بل هو يؤمن أن الذراع المعلوماتية هي أهم عوامل الأمن الحقيقية.. وبدا ذلك جليا في تنفيذ اللواء عبد الغفار لحركة تنقلات وتبديلات واسعة لقيادات الداخلية من أجل خدمة وتنفيذ استراتيجيته».
وزير الداخلية الجديد اللواء عبد الغفار، اعترف صراحة وعلنا في منتصف عام 2011 بتجاوزات «العهد السابق» في حق الشعب المصري، مؤكدا أن «الممارسات الخاطئة كانت مؤسسية»، وذلك بعد 3 أشهر فقط من توليه منصب وكيل جهاز الأمن الوطني، الذي خلف جهاز أمن الدولة «سيئ السمعة» عقب حله في 15 مارس 2011.
وقال اللواء عبد الغفار، في ظهور تلفزيوني نادر له آنذاك، إن «جهاز الأمن الوطني هو أحد مكتسبات ثورة 25 يناير، وهو جهاز خاص بحماية المواطن وليس لحماية النظام.. ولن يكون أبدًا مثل أمن الدولة سابقًا»، مؤكدا إعداد مشروع قانون يضمن الرقابة القضائية على أداء الجهاز، وكذلك استبعاد بعض الإدارات «سيئة السمعة» من الجهاز، كانت تتدخل في شؤون المواطنين بشكل غير لائق.
مصادر إعلامية مصرية أشارت خلال الأيام السابقة إلى ملاحظة أخرى هامة، حيث إن وجود اللواء عبد الغفار على رأس جهاز الأمن الوطني في فترة ما بعد التفكك الأمني خلال عام 2011، تزامنت مع وجود الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي على رأس جهاز المخابرات الحربية، وهي المرحلة التي فرضت تعاونا وثيقا بين الجهازين، ومعرفة عميقة بين الرجلين، لحماية الأمن المصري داخليا وخارجيا في فترة مضطربة من تاريخ مصر الحديث.
وأوضحت المصادر أن تلك «المعرفة القديمة» نجمت عنها ثقة من الرئيس المصري في رجل الأمن الوطني، مما سمح باتصال الرئيس به قبل الإعلان عن التعديل الوزاري بنحو أسبوع، ليطلب من عبد الغفار إعداد ملف شامل برؤيته لتطوير عمل الداخلية.. وهو ما أثبته قيام عبد الغفار بـ«أسرع حركة تنقلات» وتغييرات للقيادات في تاريخ وزارة الداخلية في اليوم التالي مباشرة بعد حمل الحقيبة.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.