أكد الفيلسوف اليوناني أفلاطون على أن أفضل أنواع الحكام هو «الفيلسوف الملك»، لاعتقاده أن الفلسفة الهادفة والسامية هي أفضل وسيلة للرقي الذاتي، ومن خلالها يأتي الرقي المجتمعي، ومن ثم فإن هذه التركيبة الفكرية - السياسية لأي حاكم هي الضمان الحقيقي لرفاهية الشعب. ولم يكن هذا الرجل يعرف أن التاريخ قلما يجود بمثل هذه المعادلة، إلى أن تحققت بعد موته بقرابة خمسة قرون، فهي لم تتجسد إلا من خلال حكم الإمبراطور الروماني «ماركوس أوريليوس» (MARCUS AURELEIUS)، هذا الإمبراطور العظيم الذي ملك الحنكة السياسية، والقدرة العسكرية، والملكة الفلسفية، خلال فترة حكمه للإمبراطورية الرومانية من 161 وحتى 180 ميلاديا، فكان شخصية فريدة من نوعها في العالم الروماني، فالقيادات الرومانية على مر التاريخ كانت تملك إما ملكة الحكم الجيد الممزوج بالعسكرية، أو الرؤية الفلسفية، لكن هذا الشخص جمعهما، فكان طرازا فريدا من الحكام الزاهدين والمتمكنين أيضا، فجاء بمثابة نتوء عن قاعدة الحكام الرومانيين التقليديين.
لقد ولد «ماركوس أوريليوس» لعائلة من الأرستقراطية الرومانية ولكن ليس من سلالة الحكام، وتدرج في عدد من المناصب السياسية القيادية، منها عضو في مجلس السينيت الروماني، وهو ما منحه الكثير من الخبرة والحنكة السياسية، لكنه لم يتقلد أي مركز عسكري، فغاب البعد العسكري عن نشأته، وقد دفع ثمنا كبيرا لتخلفه عن الركب العسكري في ما بعد على الرغم من اكتسابه له وهو إمبراطور، لكن الرجل كان دائما يميل للعلم والفلسفة، وتعمق بشكل كبير فيهما، خاصة الفلسفة الإغريقية التي كانت تمثل في ذلك الوقت مصدر الثراء الثقافي والفكري في الدولة الرومانية، وقد استمر معه حب العلم والمعرفة حتى بعد تقلده الوظائف المختلفة، خاصة الفلسفة الأخلاقية والتي لعبت دورا كبيرا في منحه الكثير من السلوك الأخلاقي الحميد، بدءا من عدم اللهو أو الشرب أو التقرب للنساء، فتورد بعض المصادر التاريخية أن الرجل كان مثالا حقيقيا وفريدا لما لم يكن عليه بنو طبقته الاجتماعية.
استمر الرجل في تقلد المناصب المختلفة إلى أن تبناه الإمبراطور «أنطونينوس بيوس» هو وأخاه «لوسيوس فيروس» (LUCIUS VERUS)، ورتب لزواجه من ابنته «فاوستينا»، ومع مرور الوقت قام بتعيينهما وليين لعهده ليحكما معا بعد موته. وفي عام 161 ميلاديا مات الإمبراطور وتم تعيينهما إمبراطورين مشتركين للدولة الرومانية الشاسعة، ويلاحظ أن فترة حكمهما معا لم تشبها الصراعات التي كانت متوقعة في حالة تقاسم السلطة السياسية بين أخوين، فلقد كانا يدركان تمام الإدراك أن الدولة الرومانية تمر بمشاكل، وأن الخلافات من شأنها أن تفرق بينهما وتفتح المجال أمام أعدائهما للاستيلاء على حكمهما، وقد ساعد على ذلك اختلاف الاهتمامات الشخصية للإمبراطورين، فعلى حين اتخذ ماركوس أوريليوس سلوكا أخلاقيا حميدا مهتما فقط بأمور الدولة وتنظيمها بعيدا عن مُتع الحياة الحسية، كان أخوه منغمسا في اللهو والنساء والخمر.
حقيقة الأمر أن عبء الحكم كان شديدا للغاية على ماركوس أوريليوس، فلقد كانت الإمبراطورية تواجه مشاكل مالية كبيرة للغاية، كما أن الثورات على الحكم بدأت تمتد وتنتشر في أواصر الإمبراطورية، فكانت بدايتها بالقرب من بلاد فارس التي بدأت تهدد ولاية سوريا التابعة لها، فجرد لها حملة كبيرة تحت إمرة أحد أبرع قادته «أوفيدوس كاسوس» ووضع على رأسها أخاه الإمبراطور لضمان إخلاص الحملة خاصة أن الفيالق الرومانية كانت في حالة مضطربة للغاية ومتناثرة بسبب وسع الإمبراطورية وصعوبة السيطرة عليها، وعلى الرغم من نجاح الحملة خلال السنوات التالية فإن ثمنها السياسي والمالي كان باهظا، ناهيك عن أنها أتت بالطاعون معها إلى عقر دار الإمبراطورية وهو البلاء الذي امتد لسنوات يحصد الأرواح والأموال من الخزانة الرومانية الخاوية. ولم تكن هذه هي المشاكل الوحيدة التي واجهت الإمبراطورية، فسرعان ما بدأت المناوشات العسكرية التي كانت تقوم بها القبائل الجيرمانية تتطور إلى الحد الذي جعلها مصدر تهديد حقيقي للحدود الشمالية الرومانية، ووصل الأمر إلى حد استيلائها على بعض الولايات الشمالية بعبور نهر الدانوب، وهو ما دفع ماركوس أوريليوس إلى تجريد حملة جديدة قادها بنفسه مع أخيه لتأديب هذه القبائل والقضاء على خطرها، لكن أخاه «لوسيوس» مات أثناءها بالطاعون، فآل الحكم لماركوس أوريليوس وحده في عام 167 ميلاديا، مما اضطره إلى تأجيل الحملة والعودة إلى روما، وبدأ يسعى لتحسين أوضاع الخزانة المنهارة، وكان من ضمن ما قام به تشجيع الأرستقراطية الرومانية للمساهمة بقوة في تحسينها من خلال بيع ممتلكاته في المزادات ليحصل على الأموال، وبدأ ينظم الأوضاع تدريجيا في الدولة ويعد الجيش لمحاربة القبائل الجيرمانية مرة أخرى بعدما وصل تهديدها لأقصى مدى، واضطر للاستعانة بالعبيد في الجيش بسبب انخفاض أعداد الفيالق الرومانية. وقد قاد الرجل الجيش بنفسه لسنوات ممتدة تعلم خلالها فنون القتال والحروب خاصة مواجهة حروب العصابات والتي لم تكن القوات الرومانية تتقنها، ومع مرور السنوات بدأت جهوده تؤتي ثمارها بقوة، وقد انتفضت بعض الولايات الرومانية الأخرى خاصة في مصر، فصدر لها قائده «كاسوس»، وبعدما استطاع الرجل كبتها بدأت تشرئب نفسه وتزداد مطامعه تدريجيا، وقد تزامن مع ذلك إصابة الإمبراطور في بلاد جيرمانيا بمرض شديد توقع معه الجميع موته، وهو ما دفع زوجته إلى السعي لحماية نفسها من خلال إيجاد راع سياسي لها خوفا من فتك الرومان بها بعد وفاة زوجها، فاتفقت على الزواج من القائد «كاسوس» وزوجها على فراش الموت، لكن القدر أخرج ماركوس أوريليوس من مرضه وعاد مرة أخرى ليمتلك زمام الأمور، ولم يقم الرجل بالانتقام من زوجته ولا تورد كتب التاريخ ما إذا كان سامحها من عدمه، لكنه قام بتجهيز فيالقه لمواجهة فيالق قائده كاسوس، لكن القدر لطف به فتمردت بعض القوات على غريمه وقطعت رأسه وأهدته لماركوس أوريليوس، وعقب إخماد بوادر الحرب الأهلية عين ابنه «كومودوس» حاكما معه ووريثه، ثم عاد ماركوس أوريليوس مرة أخرى لمحاربة القبائل الجيرمانية وكاد يقضي عليها تماما لولا أنه مات في 180 ميلاديا، فانتقل الحكم لابنه كومودوس، الذي لم يكن على استعداد لمواصلة الحروب والإدارة الحكيمة التي اتبعها والده، وهنا كانت بداية النهاية للإمبراطورية الرومانية التي سقط قسمها الغربي على أيدي القبائل الجيرمانية في القرن الخامس الميلادي.
واقع الأمر أن ماركوس أوريليوس تسلم إمبراطورية متهالكة، لكنه تركها إمبراطورية قوية بجيوش قادرة، ولكن هذه لم تكن وحدها تركته للتاريخ، فلقد خلف القائد العظيم المتحلي بخلق أعظم كتابه الشهير «التأملات» (MEDITATIONS)، فكان تعبيرا حقيقيا عن المعدن الأخلاقي الرفيع لهذا الرجل، وهو سلسلة من الحِكم والمواعظ للحياة الكريمة بعيدة كل البعد عن المتع الحسية، فلقد كان الرجل مؤمنا إيمانا شديدا بالروح وقوتها وسلطانها على الجسد الضعيف، فوضع مبادئه العامة للحياة الروحية السليمة بعيدا عن المتع الحسية، فكان من أقواله المأثورة «لن يجد الإنسان أي ملجأ أهدأ وأقل اضطرابا من روحه»، كما أنه صاحب المقولة الشهيرة «حياتنا هي ما تضعه أفكارنا» و«كل ما نسميه رأي فهو ليس واقعا، وكل ما نراه وجهة نظر ليس حقيقة»، وقد كتب الرجل كثيرا عن الموت والذي اعتبره مدخلا لحياة أخرى أقل تعبا وأكثر شفافية.
حقيقة الأمر أن الإمبراطورية الرومانية لم تنجب إمبراطورا أكثر ورعا من هذا الشخص، ولعل أهم ما ميزه هو قدرته على التوفيق بين متناقضين أساسيين، السمو الروحي والأخلاقي على المستوى الشخصي من ناحية، ومقتضيات الحكم وإدارة الدولة من ناحية أخرى. فأغلبية الحكام في شتى المجالات لم تستطع أن تحسم هذا التناقض أو تتعايش معه، لكن تقديري أن ماركوس أوريليوس استطاع أن يوائم المتناقضات من خلال اقتناعه الكامل بأن تقوية الدولة الرومانية هي في حد ذاتها هدف أخلاقي وروحي عظيم، حتى وإن لم يكن المجتمع الروماني يمثل الخُلق المنشود، بينما استطاع في الوقت نفسه أن يهذب روحه وجسده على المستوى الشخصي ليحافظ على أخلاقياته الفردية، وهو ما يجعلنا على ثقة بأن الدولة التي تحكمها شخصية من أمثال ماركوس أوريليوس سيساندها القدر حتى وإن لم تدرك الشعوب قيمتها.
7:57 دقيقة
من التاريخ: الإمبراطور ماركوس أوريليوس
https://aawsat.com/home/article/308696/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1-%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%83%D9%88%D8%B3-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%B3
من التاريخ: الإمبراطور ماركوس أوريليوس
من التاريخ: الإمبراطور ماركوس أوريليوس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة