العلاقات بين تونس وليبيا.. العسل المرّ

مسلسل «الزوابع» الإعلامية والسياسية.. والخيارات الصعبة

العلاقات بين تونس وليبيا.. العسل المرّ
TT

العلاقات بين تونس وليبيا.. العسل المرّ

العلاقات بين تونس وليبيا.. العسل المرّ

يزور تونس اليوم عبد الله الثني رئيس حكومة برلمان طبرق، شرق ليبيا، بعد الزوبعة الإعلامية والسياسية التي أثارتها تصريحات وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش عن «التعامل مع الأمر الواقع في ليبيا» بفتح قنصليتين تونسيتين في طرابلس وطبرق و«التزام الحياد في الخلافات الليبية- الليبية». تصريحات البكوش تلك أثارت ردود فعل متناقضة وغير مسبوقة في تونس وليبيا بين مُساند ومتحفظ ومنتقد، رغم نفي الحكومة لتلك التصريحات لاحقا.
وكان أكثر ردود الفعل إثارة على موقف رئيس الدبلوماسية التونسية تصريحات «وزير إعلام حكومة طبرق» عمر القويري الذي لوح بالاعتراف بحكومة في جبل الشعانبي على الحدود الجزائرية التونسية، إذ تقود بعض المجموعات الإرهابية منذ أعوام هجمات ضد قوات الجيش والأمن التونسيين. فإلي أين تسير العلاقات التونسية الليبية في أجواء التصعيد هذه ومسلسل «الزوابع» الإعلامية والسياسية؟
كشفت تصريحات السياسيين التونسيين والليبيين عن وجود تيار معارض بشدة لتصريحات وزير الخارجية التونسي الجديد داخل النخب السياسية في تونس وليبيا. وبلغ الأمر ببعض السياسيين في البلدين حد اتهام الطيب البكوش بـ«خرق ثوابت الدبلوماسية التونسية» التي التزمت منذ تأسيس الدولة الحديثة من قبل الزعيم الحبيب بورقيبة مبدأ الحياد ومنهج «الدبلوماسية الناعمة» على حد تعبير الكاتب والمحلل السياسي التونسي ياسين بن محمد في صحيفة «الفجر» القريبة من حزب حركة النهضة الإسلامي.
ورغم الصبغة «الإسلامية» لبعض وسائل الإعلام التونسية فقد انتقدت مواقف الطيب البكوش وذكرت بكونه «الأمين العام لحزب نداء تونس» العلماني، واعتبرت أنه «أساء التعبير عن موقف الحياد» وأنه «استفز بعض أطراف الصراع في ليبيا».

* انتقادات.. وشرعية
* وصدرت أكثر الانتقادات لمواقف الخارجية التونسية من قبل السياسيين الليبيين والتونسيين المعارضين سياسيا لتوجهات «التيارات السياسية الإسلامية التي تهيمن على المنطقتين الغربية والوسطى مدعومة بقوات (فجر ليبيا) و(غرف ثوار ليبيا) وميليشيات متهمة بالإرهاب، بعضها مرتبط بـ(القاعدة) وعصابات (داعش)»، حسب تعبير زهير مخلوف عضو البرلمان التونسي والقيادي في حزب الشعب ذي الميول القومية العربية الناصرية.
ويتهم المغزاوي وأنصاره وعدد من الساسة البارزين في المنطقة الشرقية بليبيا حكومة طرابلس بالتحالف مع «المتطرفين دينيا» وبخدمة أجندات بعض العواصم العربية والإقليمية، بينها أنقرة. ويطالب عدد من الساسة التونسيين والليبيين وزارة الخارجية التونسية بأن «تحترم قرارات الأمم المتحدة التي تعتبر برلمان طبرق «الممثل الشرعي الوحيد للشعب الليبي بعد الانتخابات الديمقراطية التي نظمت في صيف 2014.. على الرغم من ضعف نسبة المشاركة في تلك الانتخابات وقرار إحدى المحاكم الليبية الذي قضى بحله.

* استياء تونسي
* في المقابل انتقد وزير الشؤون الخارجية الطيب البكوش المعترضين على الموقف «الحيادي من النزاعات الليبية- الليبية»، الذي عبر عنه والذي أعاد فيه التعبير عن مواقف مماثلة سبق أن صدرت عن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وعن زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي وزعماء عدة أحزاب معارضة تونسية مثل أحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الجمهوري ومحمد عبو زعيم التيار الديمقراطي. وبرر رئيس الدبلوماسية موقف حكومته الحيادي بين الأطراف السياسية التي تتنازع الشرعيات في طرابلس وبنغازي بـ«الواقعية» و«البراغماتية» وواجب «التعامل مع الواقع في ليبيا كما هو، أي وجود حكومة في طبرق وأخرى في طرابلس».
وانتقد وزير الخارجية التونسي بقوة تصريحات وزير الإعلام «في حكومة طبرق» عمر القويري، التي أورد فيها أن حكومته ستكون على ذات المسافة مع حكومة قصر قرطاج و«حكومة الشعانبي». وقال البكوش: «إن تصريحات ما يسمى بالوزير الليبي غير مسؤولة»، وأضاف: «ما قاله كلام غير مسؤول، وهو من أسخف ما سمعت، وأمثال هؤلاء لن نقبلهم في بلادنا».
كما انتقد المختار الشواشي الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية التونسية «تهجم ممثل حكومة طبرق على تونس التي تستضيف منذ سنوات نحو مليونين من الأشقاء الليبيين بصرف النظر عن مواقفهم السياسية والحزبية». واستغرب الناطق باسم الخارجية التونسية «خلط المسؤول الليبي بين المجموعة الإرهابية في جبل الشعانبي وواقع ليبيا التي توجد فيها منذ أكثر من عام أكثر من حكومة وأكثر من برلمان وسلطات كثيرة».
في الأثناء صدرت في بعض وسائل الإعلام التونسية انتقادات حادة للمسؤول الليبي في حكومة طبرق وتساءلت عن الأسباب التي جعلت كبار المسؤولين في الحكومة التونسية لا يأمرون بطرده من تونس عندما تهجم عليها ولوح بالاعتراف بمجموعات صغيرة جدا من الإرهابيين في شكل «حكومة الشعانبي» و«قصر الرئاسة في الشعانبي» على غرار قصر قرطاج وحكومة تونس. كما أشار المختار الشواشي إلى أن وزير الخارجية التونسي لم يتحدث عن الاعتراف بحكومتين ليبيتين، ولكن عن التعامل مع الواقع الليبي كما هو، وعن إعادة فتح القنصليتين التونسيتين القديمتين في كل من طرابلس وبنغازي خدمة لمصالح عشرات آلاف التونسيين المستقرين في مختلف مدن ليبيا شرقا وغربا.

* اعتذار ليبي
* في الأثناء صدر «اعتذار» عن الناطق الرسمي باسم حكومة طبرق أبو بكر بعيرة عن «تصريحات عمر القويري»، وقيل إنه أسيء فهمهما.. ودعا المتحدث الليبي إلى عدم الإساءة إلى العلاقات الأخوية المميزة بين الشعبين التونسي والليبي، لكن «توضيحات الناطق باسم حكومة طبرق» لم تقلل الاحتقان بين الجانبين التونسي والليبي بسبب ما سماه البعض «تدخلا في شؤون تونس» وسماه الطرف المقابل «اعترافا من قبل تونس بحكومة وبرلمان غير شرعيين في طرابلس على الرغم من الاعتراف الأممي ببرلمان طبرق فقط»، كما أدلى وزير الإعلام في حكومة طبرق الليبية عمر القويري بتصريحات جديدة عبّر فيها عن رفض حكومته تصريحات وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش بخصوص «اعتراف» تونس بحكومتين في ليبيا، وقال: «الاعتراف بالحكومة غير الشرعية ومساواتها مع (الإرهابيين) لا يجوز، خصوصا وهو يعطي مؤشرات سلبية جدا للخارجين عن الشرعية». في إشارة إلى قوات «فجر ليبيا» و«غرف ثوار ليبيا» التي تسيطر على الأغلبية الساحقة من التراب الليبي برا، خصوصا في المناطق الغربية والوسطى، بينما تسيطر قوات «الكرامة» الموالية للواء خليفة حفتر على غالبية الأجواء الليبية وعلى مناطق في المنطقة الشرقية، بينها شرق مدينة بنغازي.
وتمادى «الوزير الليبي» في حوار مع صحيفة «آخر خبر» الجزائرية قائلا: «أبشركم بقيام إمارة إسلامية بجبل الشعانبي، وسنتعامل بحياد وسنكون على مسافة واحدة من حكومة قصر قرطاج ومع حكومة قصر الشعانبي». وانتقد عمر الغويري تصريحات الرسميين التونسيين التي أعلنوا فيها عن كون تونس «تقف على ذات المسافة مع حكومة عبد الله الثني شرق ليبيا وحكومة عمر الحاسي ومقرّها العاصمة طرابلس».

* دعوات لغلق الحدود
* في هذا المناخ المشحون وبعد تعاقب حالات الكشف عن مخازن أسلحة تهرب من ليبيا إلى تونس بواسطة «السياح الليبيين» - وبينها مخزن من الأسلحة المتطورة وقع الكشف عنه قبل أيام في مدينة بن قران الحدودية - تتوافد على تونس مجموعات عن مجالس الأعيان والأحزاب السياسية والمسؤولين الأمنيين والعسكريين لدعم مسار الحوار والتفاوض بين مختلف الفرقاء الليبيين.
وإذ رحب عدد من الساسة العلمانيين والإسلاميين التونسيين بجهود الحوار السياسي الليبي- الليبي في تونس والجزائر والمغرب، فإن مزيدا من الإعلاميين والمحللين السياسيين أصبحوا يطالبون سلطات بلدهم بـ«غلق الحدود التونسية الليبية برا وجوا، وبتشديد مراقبة مئات آلاف الليبيين المقيمين في تونس لأن الإرهاب يزحف على تونس وبقية الدول المغاربية عبر ليبيا»، على حد تعبير الكاتب والإعلامي سفيان بن فرحات والجامعي علية العلاني.

* محاولات الانقلاب على البكوش
* وإذ تتراوح العلاقات التونسية الليبية بين التصعيد والتهدئة وظفت أطراف سياسية في الحزب الحاكم في تونس - بزعامة الباجي قائد السبسي والطيب البكوش - الخلافات الليبية- الليبية لاتهام زعيم حزب الوطن الليبي الملياردير عبد الحكيم بالحاج بالتدخل في الشؤون السياسية التونسية، وبينها التطورات داخل حزب «نداء تونس»، إذ تتبادل مجموعتان من كبار مسؤوليه اتهامات بـ«الخيانة والتورط في الممارسات الانقلابية» تحت تأثير من أثرياء تونسيين لديهم علاقات مشبوهة مع بعض «أمراء الحرب في ليبيا».
وفي الوقت الذي نظم فيه عشرات من القياديين البارزين في الحزب الحاكم التونسي هجمات على الأمين العام للحزب الطيب البكوش ومقربين منه، بينهم المستشار السياسي لرئيس الجمهورية محسن مرزوق ورئيس ديوانه رضا بالحاج وعلى الوزير الأزهر العكرمي، شن الطرف المقابل في قنوات تلفزية ووسائل إعلام كبرى اتهامات لأثرياء تونسيين وشخصيات ليبيةـ بينها عبد الحكيم بالحاج بـ«الضلوع في محاولات التأثير في الشأن الداخلي التونسي وتنظيم انقلاب على قيادة حزب نداء تونس».

* حكومة وحدة وطنية
* لكن لئن تطور ملف العلاقات المميزة بين تونس وليبيا من «ورقة رابحة جدا اقتصاديا وأمنيا» إلى «عبء ثقيل» فإن مؤشرات جديدة ترجح سيناريو «احتواء الأزمة الليبية بمساعٍ تونسية».
في هذا السياق صرح أبو بكر مصطفى بعيرة الناطق الرسمي باسم برلمان طبرق لـ«الشرق الأوسط» بأن «أغلب الأطراف السياسية في ليبيا أصبحت مقتنعة بضرورة التوافق وحقن الدماء وتكوين حكومة وطنية جديدة ترأسها شخصية وطنية يقع التوافق حولها بمساعدة نائبي رئيس حكومة، على أن ينتمي المسؤولون الأُوَل الثلاثة إلى الأقاليم الليبية الثلاثة: الشرق والغرب والجنوب.. كما يشترط في المسؤولين الثلاثة أن لا يكونوا من بين الذين تحملوا مسؤوليات في الحكومات والبرلمانات السابقة التي ثبت فشلها».
هذا المنعرج السياسي الليبي- الليبي وتعاقب توافد ممثلي مجالس الأعيان والبلديات والقبائل والأحزاب الليبية على تونس قد يرجح حسب بعض الخبراء في العلاقات الدولية - مثل السفير التونسي في طرابلس سابقا صلاح الدين الجمالي - سيناريو تحسين العلاقات الليبية التونسية مجددا.. «لأن تونس محكومة بإكراهات كثيرة»، من بينها إقامة توازنات في علاقاتها بين الدول الشقيقة والصديقة التي تدعو إلى التدخل العسكري في ليبيا - مثل إيطاليا ومصر والإمارات - وتلك التي تعارضه مثل الجزائر وفرنسا.
في المقابل يعتقد الخبير في العلاقات الدولية والوزير التونسي السابق حاتم بن سالم أن «ملف العلاقات مع ليبيا دقيق جدا بالنسبة إلى تونس في ظل استفحال الجماعات الإرهابية في ليبيا وتونس وتزايد التنسيق بينها وتعاقب الاكتشافات لأسلحة قادمة لتونس من ليبيا». لكن بن سالم والجمالي وثلة من الخبراء الاقتصاديين التونسيين يحذرون في نفس الوقت من التضحية بمصالح ملايين التونسيين والتونسيات الذين يستفيدون منذ عقود من الشراكة الاقتصادية والتجارية والمالية المميزة بين تونس وليبيا.. وهي شراكة كانت توفر لتونس نحو ثلث مواردها السنوية من العملات الأجنبية إلى جانب مساهمتها في إدخال ديناميكية كبيرة جدا على قطاعات السياحة والخدمات الطبية والتجارية.
وسواء تمكن الجانبان التونسي والليبي خلال محادثات الفرقاء الليبيين وزيارة رئيس حكومة طبرق عبد الله الثني من «احتواء الأزمة والخلافات الثنائية» أو لا، فإن قدر البلدين البحث عن «توافق جديد» لأن تونس هي المنفذ الرئيسي لغالبية الليبيين بحكم وجود ثلاثة أرباع السكان غرب ليبيا وجنوبها.. أي أن الجانبين محكومان بالتمادي في تناول الإنتاج المشترك لعسل الجنوب التونسي والغرب الليبي.. وإن كان «العسل المر».. و«الخيار الذي لا بديل عنه».



ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة
TT

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس أعراف جديدة متصلة بحصريّة تخصيص حقائب وزارية لطوائف وقوى سياسية»، ولم تطل شخص جابر الذي شارك في وزارات عدة منذ عام 1995، وشغل مقعداً نيابياً منذ 1996 وحتى 2022، وعُرف خلال السنوات الماضية بـ«التكنوقراطي المنفتح»، و«صلة مجلس النواب مع الخارج». جابر الذي يصفه عارفوه بـ«مهندس القوانين الإصلاحية» في البرلمان اللبناني، يحمل «حقيبة التحديات» التي تواجه الحكومة اللبنانية، وأكبرها السؤال: «كيف نغيّر الصورة؟ وكيف نكسب تحدي الإصلاح؟»، كما يقول لـ«الشرق الأوسط». وإذ يشدد على أن «نية العمل الجدي قائمة»، يؤكد أن البداية ستكون «من إعادة هيكلة الدولة وملء الشواغر» فيها.

كما في بدايات ياسين جابر السياسية، كذلك في مهمته الحالية. كان الوضع في عام 2000 صعباً، لجهة تعامل السلطات اللبنانية مع مطالب المجتمع الدولي بالإصلاح، وإقرار القوانين الإصلاحية وتنفيذها، وفي مقدمتها تعيين الهيئات الناظمة لقطاعات حيوية مثل الكهرباء والنفط والطيران المدني والاتصالات وغيرها... وذلك للحصول على حزمات المساعدات المتعاقبة في مؤتمرات دولية، بينها «باريس 1» و«باريس 2». وتشبه المرحلة الحالية المرحلةَ السابقة، ويُضاف إليها الآن نهوض لبنان من ركام الحرب، وإعادة الإعمار، بعد سنوات من المراوحة والوعود أفضت إلى نهاية فترة السماح الدولية، ووضعت لبنان أمام تحديات جِسام.

بطاقة شخصية

يتحدّر ياسين جابر من إحدى أكبر عائلات مدينة النبطية، في جنوب لبنان. ولقد وُلد في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، يوم 15 يناير (كانون الثاني) 1951. أما والده فهو رجل الأعمال المغترب في أفريقيا كامل جابر.

أنهى جابر دراسته الثانوية في مدرسة الإنترناشونال كوليدج (الآي سي) في بيروت. وتخرّج في الجامعة الأميركية ببيروت، حاملاً درجة بكالوريوس آداب في الاقتصاد. وهو متزوّج من وفاء محمد العلي، وأب لأربعة أولاد هم: كامل وسارة وتمارا ونائل.

عام 1979 هاجر إلى بريطانيا، وأقام فيها حيث أدار أعمال عائلته. إلا أنه دخل العمل السياسي رسمياً في عام 1995 حين تولى حقيبة وزارة الاقتصاد والتجارة في حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري، ثم عُيّن وزيراً للأشغال العامة والنقل في حكومة الرئيس عمر كرامي عام 2004. ومنذ دخوله العمل النيابي في 1996، وانضمامه إلى «كتلة التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه برّي، شغل موقعه بفاعلية في لجنة المال والموازنة، وتنقل إلى لجان أخرى، وكان آخرها رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان في 2018.

وبعدما اتخذ قراراً شخصياً بألا يترشح للانتخابات النيابية في دورة 2022، عُيّن وزيراً للمالية في حكومة الرئيس نوّاف سلام خلال فبراير (شباط) 2025.

تحدّيات وزارة المالية

تختصر تحديات جابر في وزارة المالية تحديات كل لبنان الذي يعمل جاهداً للتعامل مع السؤال الأساسي: «هل يستطيع لبنان التقاط الفرصة المتاحة له دولياً وعربياً أو لا؟». وإذا كانت الحكومات تضع جدولاً بأولوياتها، فإن كل الملفات اليوم في لبنان تحتل الأولوية نفسها؛ كونها تضطلع بالأهمية ذاتها، وتبدأ من الإصلاحات الداخلية، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإيجاد حل لأزمة المودعين، مروراً بإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، واستعادة ثقة المؤسسات الدولية، وتفعيل قطاع الجمارك والدوائر العقارية، ولا تنتهي الأولويات بملفات الكهرباء، والاتصالات، والمطار، وتعيين الهيئات الناظمة، ومخاطبة المؤسسات الدولية مثل «البنك الدولي» وصندوق النقد، وغيرها من الملفات.

تتراكم هذه الملفات دفعة واحدة في وجه الحكومة، ويوزّع الوزراء أوقاتهم على مستوى العمل الحكومي ومستوى وزاراتهم. وتبدو نهاراتهم «مزدحمة باللقاءات والعمل الدؤوب لمعالجة مختلف الملفات»، كما يقول جابر الذي يضطلع بأبرز ملفات العمل الحكومي في الوقت الراهن، إلى جانب رئيس الحكومة نوّاف سلام؛ ذلك أن الوزارة، بطبيعتها التكوينية، معنية بقسم كبير من خطط الإصلاح تلك...

يُضاف ذلك إلى أن وزير المال، إلى جانب وزيرين آخرين يحيطان بشكل أساسي برئيس الحكومة، هما وزير الثقافة غسان سلامة، ونائب رئيس الحكومة طارق متري، يُعدّون من الوزراء الذين يمتلكون تجربة سياسية.

ويقول جابر إن أعضاء الحكومة يخوضون في ورشة الإصلاح، ولا يحصر هذا الجهد بالوزراء السابقي الذكر؛ «فنحن الوزراء الثلاثة سبق لنا أن تعاطينا السياسة، وبالتالي فإننا نمتلك خبرات في هذا المجال، ومتآلفون مع الإدارة والسياسة. لكن إلى جانب الرئيس سلام، هناك شخصيات مهمة جداً أيضاً، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، الوزير عامر البساط الآتي من خلفية إدارية ومالية، إضافة إلى الوزيرة حنين السيد الآتية من تجربة في البنك الدولي، والوزير جو صدّي، وغيرهم».

العمل النيابي

ساهمت تجربة ياسين جابر في العملين الحكومي والنيابي لنحو 30 سنة في القفز خطوات كبيرة باتجاه الإسراع في الإصلاحات والإنجازات. طوال تلك السنوات كان جابر يخيط القوانين ويدفع لإقرارها في البرلمان، ثم يضغط على الحكومات المتعاقبة لإصدار المراسيم التنفيذية لها. وحقاً استفاد من تجربته التي بدأت عام 1995 في أول حكومة شارك فيها.

يومذاك، كان وجوده يشبه وجود وزراء كثيرين يحتاجون إلى مراكمة الخبرات في الإدارة والسياسة. وبعد أن تراكمت خبراته، باتت خلفيته القانونية الآن تساعده على تحقيق «انطلاقة جيدة»، تبدأ من معرفته بالقوانين.

الآن، حين وضعت حكومة سلام جدول أعمالها الذي يُفترض أنه يحتاج إلى إقرار قوانين إصلاحية، أحضر جابر جدولاً بعشرات القوانين التي سبق إقرارها في الماضي، وتحتاج فقط إلى مراسيم تطبيقية. ووضع الجدول بعهدة الرئيس سلام، فأصدر الأخير تعميماً على الوزارات المعنية طالب فيه بأن تكون المراسيم جاهزة سريعاً للتطبيق. وبالمثل، عمّم وزير المال على المؤسسات العامة إجراء تدقيق خارجي بحساباتها، بهدف زيادة الشفافية... كما أعرب الوزراء عن «جدية بتعيين الهيئات الناظمة ضمن آلية تعيين شفافة، تستعين بالكفاءات».

جابر قال إن تعيين الهيئات الناظمة لمختلف القطاعات، هو مفتاح الإصلاح في لبنان. ويذكر هنا تفاصيل من لقائه «الإيجابي جداً» مع نائب رئيس البنك الدولي عثمان ديون؛ إذ ناقش المجتمعون برنامج المساعدة الطارئة للبنان (LEAP)، وهو مبادرة متقدمة لإعادة الإعمار بقيمة مليار دولار، يساهم البنك الدولي فيها بـ250 مليون دولار، ويؤمّن الباقي من قبل الشركاء المانحين وأصدقاء لبنان.

ويشير جابر إلى أن البنك الدولي خصص دعماً لتأهيل البنى التحتية وإزالة الردم الناتج عن الحرب بقيمة 250 مليون دولار، و200 مليون لدعم القطاع الزراعي، و250 مليوناً لشبكات المياه، و30 مليوناً للتأهيل المرتبط بالمعلوماتية. وإثر سؤاله من قبل البنك الدولي عن إصلاح قطاع الكهرباء، وقلة التزام لبنان في السابق بهذا المجال، أبلغ عثمان سائليه بأن الحكومة اللبنانية هذه المرة جدية، بدليل تقديم وعود بتعيين الهيئة الناظمة للكهرباء.

مؤسسات دولية

غير أن بناء الثقة مع المؤسسات الدولية الهادفة إلى طمأنة المستثمرين وتحسين بيئة الأعمال، لا يقتصر على «البنك الدولي» الذي يشارك جابر في اجتماعاته بالربيع في واشنطن، بل يشمل أيضاً مخاطبة صندوق النقد الدولي. وهنا يشير وزير المالية إلى أنه بعد مباحثات مع الممثل المقيم للصندوق في لبنان، فريدريكو ليما، كشف خلالها الالتزام بتطبيق الإصلاحات، لم تمضِ ساعات قليلة حتى صدر بيان من واشنطن يرحب بتعهدات الحكومة. وأفاد جابر بأن وفد الصندوق سيزور بيروت يوم الثلاثاء المقبل للانطلاق في المفاوضات مع الصندوق، وهي خطوة رئيسة لتحقيق الإصلاح.

وللعلم، جابر كان أبلغ ليما في الشهر الماضي بأن «الحكومة، ووزارة المالية تحديداً، تولي اهتماماً كبيراً لتحقيق اتفاق مع صندوق النقد الدولي، انطلاقاً من إدراكهما لأهمية دوره في السير على طريق الإصلاح، وإعادة استقطاب المجتمع الدولي وتحفيزه على مساعدة لبنان في هذا المضمار».

لقاءات دولية مكثفة

مروحة اللقاءات تتسع لتشمل سفراء الدول الصديقة للبنان، وممثلي مؤسسات مالية أجنبية رائدة. وبجانب ذلك، فتحت وزارة المال خطاً مع «مؤسسة التمويل الدولية» (IFC) للانطلاق في مشاريع وتمويلها، وتستفيد من القانون الجاهز الذي أنجزه في عام 2017، وهو تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإنشاء «المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة»، وذلك لتسهيل النهوض بالمؤسسات، وجذب المستثمرين من القطاع الخاص، «وخصوصاً أن مشاريع كثيرة تنتظرنا، مثل تأهيل مطار القليعات (شمال لبنان)، وتأهيل المدينة الرياضية على سبيل المثال لا الحصر، وهي تحتاج إلى تعاون وشراكة بين القطاعين العام والخاص»، وتسعى جميعها إلى جذب الاستثمارات الخارجية، وتشجيع المغتربين اللّبنانيين على الاستثمار في البلاد، في ظل الجهود الحكومية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي.

هذه الورشة تبعث بإشارات حول «بداية جديدة» في لبنان. ووفق جابر، فإن هذا الجهد «يبعث برسائل حول جدية الإصلاح، ما دامت المساعدات مشروطة به».

ساهمت تجربته في العملين الحكومي والنيابي لنحو 30 سنة في القفز خطوات كبيرة باتجاه الإسراع في الإصلاحات

القطاع المصرفي

إصلاح القطاع المصرفي يتصدر فعلياً مهام وزارة المال، والبداية من تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان. وهنا يقول جابر: «هذه الخطوة ملحة، وتهيئ الأرضية لإصلاح القطاع المالي والمصرفي، بالنظر إلى أن مصرف لبنان المركزي، قانوناً، هو الهيئة الناظمة للقطاع».

أيضاً يعمل جابر على تعيين مستشارين متخصصين في قطاع البنوك، إلى جانب آخرين متخصصين بملفات الضرائب والتعامل مع الشركات المالية والمؤسسات المالية الدولية. ويشير إلى ضرورة «إحياء القطاع المصرفي، والخروج من الاقتصاد النقدي. وهي مهمة لا يمكن أن تتحقق من دون قطاع مصرفي فاعل ونشط»، لافتاً إلى «أننا وضعنا مع رئيس الحكومة قواعد مهمة للإصلاح، وبعثنا برسائل واضحة إلى المؤسسات الدولية تتضمن إظهار الجدية في العمل لتحقيق الإصلاح، وهو ما شجّع الخارج على مخاطبتنا والتعامل مع الحكومة».

ويؤكد الوزير أن لبنان «ليس الطرف الذي يشطب الودائع، بل يعيد للناس حقوقها؛ لأن تسديد الودائع سيبعث برسالة ثقة لأي مستثمر محلي وخارجي في المستقبل»، موضحاً أنه «أساس خطة العمل التي تنسجم مع مطالب صندوق النقد الدولي، وسيبدأ تنفيذ الخطة بصرف ودائع صغار المودعين، وننتقل تدريجياً لتسديد جميع الودائع العالقة على مراحل».أخيراً، يولي جابر ملف الجمارك والدوائر العقارية أهمية بالغة، وهو من أبرز القطاعات التي تدرّ المداخيل على الخزينة، موضحاً: «أحاول تغيير نظام العمل وترشيقه، بهدف تسهيل معاملات المواطنين، وحماية مصادر دخل الدولة وحفظها»، فضلاً عن مشاريع حماية المستهلك وتشجيع الاستثمار، ومن بينها تخصيص مناطق صناعية على ممتلكات الدولة في مختلف المناطق اللّبنانية لدعم القطاع الإنتاجي، وتعزيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة تساهم في التنمية الاجتماعية.