صلاح فضل: الريادة مسؤولية وليست كلمة «جوفاء» نتغنى بها

صاحب «الكتابات التأسيسية» يقول إنه تعلّم من العقاد احترام الذات

د. صلاح فضل
د. صلاح فضل
TT

صلاح فضل: الريادة مسؤولية وليست كلمة «جوفاء» نتغنى بها

د. صلاح فضل
د. صلاح فضل

تولى د. صلاح فضل مؤخراً مهمة القائم بأعمال رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كمسؤولية جديدة تضاف إلى مسؤولياته الأخرى في الحقول الأكاديمية وفي الشأن الثقافي على نحو خاص.
هنا حوار معه حول مشواره وإسهاماته النقدية العديدة في مختلف الفروع الأدبية، الذي احتل من خلالها منذ مرحلة مبكرة موقعاً متميزاً في المشهد الثقافي العربي، وتم التطرق في الحوار معه إلى كتابه الذي صدر مؤخراً، ومهمته العلمية واللغوية الجديدة:

> يرى البعض أن كتابك الأخير «شغف الرواية» يأتي في سياق هيمنة نوع أدبي هو الفن الروائي على بقية الأنواع الأخرى؟
- هذا العمل هو في الواقع المجلد الرابع الذي يضم كتاباتي النقدية حول الرواية العربية الراهنة في السنوات العشر الأخيرة، وهو يضم ما يربو على مائتي مقال تتناول ما يربو على مائتي كاتب، وتجمع بين أمرين حرصت كل الحرص على أن أوفق بينهما: الهيكل المنهجي الصارم الذي يخضع الكتابة النقدية لجهاز معرفي علمي دقيق ثم الغطاء الشعري الناعم الذي يجعل قراءة النقد دعوة إلى المتعة الجمالية في استكشاف السرد، ودعوة إلى إطالة العمر عبر قراءة الأعمال الأدبية حسب مقولة شيخي الدكتور محمد مندور حين قال إن قراءة الأدب تطيل العمر؛ لأنها تضيف تجارب إنسانية وخبرات حياتية إلى عمر القارئ.
> اهتمامك الشديد بالرواية، ألم يأت على حساب أنواع أخرى مثل الشعر على سبيل المثال؟
- لي عشرات المقالات والدراسات التي تنصب على الشعر تنظيراً وتطبيقاً، كما أن عندي ما يربو على العشرين كتاباً في هذا السياق مثل «أساليب الشعرية المعاصرة». وأذكر أنني حين كنت منتظماً في كتابة المقالات بصحيفة «الأهرام» كنت أتعامل كمن يوزع اهتمامه بالعدل بين زوجتين، فأسبوع أكتب عن الرواية وفي الأسبوع الذي يليه أكتب عن الشعر. استمر الحال على هذا النحو حتى وجدت أن الشعر الفاتن القوي الذي يستحق أن أكتب عنه نادر في الحياة المعاصرة فعدت إلى الأزمنة الماضية أبحث عن جماليات القصيدة فيها، وتجلى ذلك في عدد من المؤلفات مثل «شعرية التوهج الحسي». واعتبر أن مشاركتي في برنامج «أمير الشعراء» عبر 15 عاماً واكتشافي لعشرات المواهب من النابغين في الشعر على امتداد الوطن العربي من المغرب إلى اليمن هي الضريبة التي أدفعها بحب إلى هذا الفن القريب إلى قلبي.
> لكن لو نظرنا إلى ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، لوجدنا أن الرواية أفضل حظاً من الشعر، كيف ترى واقع الترجمة إذن؟
- المشكلة أن ما يُترجم عن العربية حتى الآن ليس هو أفضل ما في حياتنا الأدبية، وإنما يخضع الأمر في جزء كبير منه للمصادفة، فضلاً عن تحايل بعض الأدباء في الترويج لأعمالهم وكثيراً ما نجد أن أسوأ ما لدينا هو ما يتم ترجمته.
> وما العمل لحل هذا المأزق برأيك؟
- لا بد من ترجمة إنتاجنا النقدي التطبيقي في الرواية والشعر إلى اللغات الأخرى حتى يتسنى للآخر تكوين صورة دقيقة وصادقة عن واقع الإنتاج العربي الإبداعي الحالي. هنا سيعرف هذا الآخر أن لدينا العديد من الأسماء التي تستحق جائزة نوبل التي لم يحصدها العرب في الآداب منذ ثلاثين عاماً حين حصل عليها نجيب محفوظ.
> رغم انشغالك الكبير وازدحام جدولك بالعديد من المهام والمسؤوليات، فإنك أحد أكثر النقاد العرب متابعة لكتابات الأجيال الجديدة. كيف استطعت تحقيق هذه المعادلة؟
- كان الأمر توجهاً مقصوداً منذ البداية ثم أصبح ما يشبه رسالة، فعندما عدت من المكسيك بعد رحلة علمية وأكاديمية في منتصف السبعينيات أردت أن أبحث عن الأدباء الشبان والكتابات الجديدة وأتناولها بالنقد والتحليل وفق أسلوب حداثي عصري. وأذكر أنني ذهبت للدكتور لويس عوض في «الأهرام» وفاتحته في الأمر فقال لي إنه يتم التضييق عليه بسبب أن ثروت أباظة، الأديب الكبير الذي يتولى الإشراف على الثقافة في الجريدة آنذاك، لا يحبذ كتابات الأدباء الجدد! ذهبت للدكتور حسين مؤنس، رئيس تحرير مجلة «الهلال»الثقافية المتخصصة فقال لي: دعك من الأدباء الشبان واكتب لنا مقالاً عن الربيع والزهور والجمال!
لم أستسلم. أعددت مقالاً وافياً عن أحدث أعمال نجيب محفوظ آنذاك وكانت رواية «الحرافيش»، وبعثت به إلى مجلة «العربي» الكوميدية التي كان يترأسها في ذلك الوقت الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين. ولأن المجلة إصدار شهري، توقعت نشر المقال بعد أشهر عدة، لكن ما حدث هو أن النشر تم بعد أقل من أسبوعين، فقد سحب أحمد بهاء الدين مقاله الافتتاحي من المطبعة ونشر مقالي بدلاً منه دون أن يعرفني شخصياً! أما رد فعل نجيب محفوظ فقد وصلني من أحد حضور ندوته الأسبوعية والتي تم تخصيصها لمناقشة مقالي، حيث قال محفوظ بإيجاز شديد وفي عبارة بسيطة، لكنها شديدة الدلالة: الواحد لم يقرأ مقالاً حلواً بهذا الشكل منذ زمن طويل!
الكتابة عن الأدباء الشبان إذن رسالة واعية مقصودة منذ البداية وآليت على نفسي ألا أقتصر فيها على الإبداعات المصرية فقط، بل أعطي الإنتاج العربي نصيباً مماثلاً.
> في هذا السياق، كيف تفهم «الريادة المصرية» في فضاء الثقافة العربية؟
- أرفض أن تكون تلك الريادة كلمة «جوفاء» نتغنى بها ونعتبرها سبباً للتعالي، فالريادة الحقيقية في تقديري مسؤولية مستمرة. في الماضي، كان شباب العرب يمرون بمصر ليتشربوا منها الأدب والإبداع والمعرفة، أما في الوقت الراهن فمن واجب المثقفين على اختلاف مشاربهم التوجه إلى المراكز المعرفية والجامعات في هذا البلد أو ذاك ليكونوا هم أيضاً من روادها جنباً إلى جنب مع أبناء هذه البلدان. وعلى المستوى الشخصي، اعتبرت دوماً أن مسؤوليتي كمصري وكعربي التبشير بأي موهبة إبداعية غير مصرية والانحياز لها بقوة، تماماً كما أفعل مع المواهب المصرية.
> ما سر المصداقية الكبيرة التي تملكها كناقد حتى أن كثيرين من المبدعين الجدد يعتبرون أن كتابتك عن أحدهم تعد بمثابة شهادة ميلاد أدبي له؟
- قديماً طرحت على الدكتور لويس عوض سؤالاً مشابهاً يتعلق بسر الهيمنة النقدية التي يملكها، فسألني: إذا كان بحوزتك قطعة من المعدن الأصفر وتريد أن تعرف إذا ما كانت زائفة أم ذهباً حقيقياً، ماذا تفعل؟ أجبته بأنني سأبحث عن «خاتم» مصلحة الدمغة والموازيين: هل يوجد على المعدن أم لا؟ قال لي الدكتور: أنا أملك هذا الخاتم نقدياً. فلو كتبت عن شاعر صار شاعراً، ولو كتبت عن روائي صار روائياً!
قلت له متحدياً: سوف أستعير منك هذا الخاتم! اندهش وسألني كيف، قلت عبر مبادئ عدة أطبقها بصرامة، فلن أضعه على نص أدبي زائف وأزعم أنه أصيل. وإذا كان النص أصيلاً فسوف أجتهد في معرفة درجة أصالته عبر معايير ومناهج علمية تبتعد عن المجاملة، تماماً كما يحدد الخاتم درجة نقاء الذهب. أيضاً لن أخطئ أو أجامل مرة حتى لا أفقد مصداقيتي إلى الأبد. ابتسم الدكتور لويس وقال: إذا فعلت ذلك، ربما ترث الخاتم مني!
> كبرياؤك كمثقف استطعت الحفاظ عليه، وعلى «مسافة آمنة» في علاقتك بالسلطة؟
- هناك موقف تاريخي لا أنساه اتخذته نبراساً وهادياً في حياتي وتعلمت منه كيف يكون كبرياء المثقف في مواجهة السلطة بعيداً عن النفاق واحتراماً للذات.
كنت أحد المكرمين من الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم وأحتفظ بصورتي معه وأنا أتسلم شهادة الليسانس باعتباري أحد المتفوقين على مستوى الجمهورية. وكان في الاحتفالية نفسها، عباس العقاد يتسلم شهادة الدولة التقديرية، فرأيت يوسف السباعي، باعتباره المسؤول رسمياً عن تنظيم الاحتفالية، ممتقع الوجه من شده خوفه مما سيقوله العقاد الذي كان معروفاً بمعارضته لتوجهات وسياسات الحكم الناصري، كما أنه لا يمكن أن يملي عليه أحد ما يقول. تسلم العقاد الشهادة ثم قال «أشكر هذا البلد الذي يعرف كيف يقدر أبناءه فارتفعت قامته بمقدار قاماتهم»، فهو لا يشكر الرئيس ولم يأت على ذكره، بل يشكر وطناً ارتفعت قامته لتصبح بمحاذاة قامة العقاد! تحولت بسبب هذا الموقف من «ناصري متعصب» إلى ناقد للنظام الناصري وما تلاه من أنظمة سياسية.
> أنت شاهد عيان على تحولات ثقافية شاملة في المنطقة العربية على مدار عقود، هل ظاهرة الجوائز الأدبية تساهم إيجاباً أم سلباً في المشهد العام؟
- في تقديري، أن المؤلفين حين يكتبون والعلماء حين يعكفون على تجاربهم، لا بد من أن تتوفر لهم حوافز مالية وأدبية وقوة دفع مجتمعي عبر مؤسسات، مدنية أم رسمية. على سبيل المثال، كانت أول جائزة حصل عليها نجيب محفوظ هي جائزة مجمع اللغة العربية.
وقيمة الجوائز مرهونة بأن يكون تحكيمها علمياً وموضوعياً وعادلاً ودقيقاً، كما يجب أن تكون ذات طابع تقدمي حضاري تبتعد عن المعايير السلفية التقليدية العتيقة. هذا هو السبب في احتفاظ جائزة مثل «نوبل» بقيمتها رغم مرور كل هذه السنوات على تأسيسها. بعض جوائزنا يراعي ذلك أم البعض الآخر فينكفئ على ذاته ويخضع لمعايير غير موضوعية.
> على ذِكر مجمع اللغة العربية الذي توليت مهمته مؤخراً، ما هي طموحاتك للنهوض بهذا الصرح الكبير؟
- أنا عضو قديم بالمجمع وأعرف عن قرب مدى حاجته إلى التحديث والتطوير، لا سيما على صعيد التحول الرقمي. هذا الصرح يشمل في عضويته كوكبة من خيرة علماء اللغة وخبراءها العظام، لكن ينقصه قادة الأدب والفكر والرأي العام وبعض عشاق اللغة وممثلو النسيج الوطني من المصريين، حيث كان من مؤسسيه الأوائل على سبيل المثال الأب كرملي والحاخام اليهودي. تغيير بنية المجمع يحتاج إلى جهد حقيقي لأن العضوية بالانتخاب وبالإجماع ومدى الحياة.
أيضاً لا بد للمجمع من بذل المزيد من الجهد للتواصل مع الأوساط التعليمية والإعلامية واختيار نصوص أدبية شيقة ليتم تدريسها في المراحل الدراسية المختلفة. وللأسف المجمع يقوم بصناعة ثقيلة في تعريب المصطلحات لكنها تطبع في كتيبات ثم توضع في الأدراج دون أن يستفيد منها المجتمع. أيضا الجهد الهائل الذي يبذله المجمع في إنتاج القواميس الرصينة الراسخة لا تصل للجمهور. الطموحات كثيرة لكن التحديات أيضاً غير هينة.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.