الجائحة تعزز انجذاب جيل الألفية للشقق السكنية في بريطانيا

بيوت لندن المستقلة على وشك الاختفاء

TT

الجائحة تعزز انجذاب جيل الألفية للشقق السكنية في بريطانيا

لطالما اشتهرت لندن وباقي المدن في البلاد ببيوتها المستقلة وأسقف القرميد الأحمر الذي يعتمر أسطحها المدببة، وجدرانها الخارجية التي يكسوها الحجر القرمزي والأرضية الداخلية المصنوعة من الخشب، من دون أن ننسى الحديقة الخلفية التي تعتبر من أهم ما يبحث عنه الزبون عند شرائه منزلاً جديداً. هذا هو وضع العقار التقليدي في بريطانيا، ولكنه ليس الوضع الحالي؛ لأن المشهد العمراني اختلف اليوم عما كان عليه في السابق لأسباب عدة، على رأسها الاكتظاظ السكاني والجائحة التي أجبرت الملايين على العمل من المنزل وتحويلها إلى مكاتب دائمة، والطلب الزائد من قبل جيل الألفية على شقق سكنية كاملة متكاملة تتعدى فكرة السكن والنوم فيها إلى مكان يضم كل شيء يرغب فيه المشتري، مثل الأماكن العامة التي تساعد على الانخراط في مجتمعات صغيرة بعدما فرض فيروس كورونا التباعد الاجتماعي على الناس، وحوّل المجتمعات إلى فقاعات صغيرة آمنة تسمح بأعداد محدودة بالانخراط، وأصبحت الشقق السكنية العصرية تضم صالات الرياضة والسينما وتقدم الكثير منن الخدمات الأخرى مثل برك السباحة، وغيرها من التسهيلات المعيشية التي يتمناها كل مرء.
وعلى الرغم من الإغلاقات العديدة وتأزم الوضع الاقتصادي في بريطانيا، فإن سوق العقار لم تتأثر بشكل كبير، لا، بل زاد الطلب خاصة على الشقق السكنية التي تؤمّن السكن والعمل بالوقت نفسه.
وسعت شركات العقار إلى تأمين مثل تلك الشقق بميزانيات مختلفة لتتناسب مع الإمكانات الشرائية المتفاوتة لفئات عديدة ومختلفة من المجتمع.
الإقبال على الشقق السكنية الحديثة وليس على البيوت المستقلة له أبعاد صحية أيضاً، بحيث يرى الإخصائيون في علم النفس بأن الجائحة أدت إلى خلق نوع من الوحدة لدى الذين يعيشون وحيدين في منازلهم في غياب العمل في المكاتب والخروج من البيت بشكل يومي، وهذا ما جعل العيش في شقق سكنية في عمارة كبيرة تضم جميع الخدمات الضرورية التي تغنيك عن الخروج على رأس أولويات المستثمرين.
كما تعتبر الأماكن المفتوحة التي تقدمها الشقق السكنية مهمة جداً، خاصة أن شبح «كورونا» والفيروس المتحور لا يزال يخيم في الأفق؛ ولهذا السبب نرى بأن جميع الشقق تضم شرفات متوسطة وكبيرة الحجم لتحل مكان الحاجة للحدائق الخاصة.
وتقدم مشاريع الشقق السكنية الحديثة في لندن اليوم مساحات مخصصة للعمل يستطيع سكان العمارة الواحدة من العمل مع بعض للتخلص من مشكلة الوحدة والعمل في المنزل. وبحسب كريغ هيوز، وهو مهندس معماري بريطاني، فإن وجود ممرات وباحات خارجية في الأبنية السكنية أمر مهم جداً لتلاقي السكان والتسامر والتكلم مع بعضهم بعضاً، وهذه الفكرة تبنتها مشاريع سكنية جديدة عدة في لندن وضواحيها منذ أن بدأت الجائحة منذ أكثر من 18 شهراً.
اللافت في الأبنية الحديثة التي تحاكي الحياة الجديدة التي فرضت نفسها على المجتمعات بعد هيمنة «كورونا» تصميم الشرفات أو البلكونات التي تقع بالقرب من بعضها بعضاً، والغرض من ذلك هو إتاحة الفرصة أمام السكان لرؤية بعضهم بعضاً والتكلم.
جيل الألفية هو المستثمر المهم حالياً بعد التسهيلات التي بدأت الحكومة في تقديمها للمشترين الشباب الجدد، فانخفاض قيمة الفائدة وإلغاء رسوم التسجيل أدت إلى زيادة الطلب على الشقق السكنية وسوق العقار بشكل عام.
في الماضي، كان يفضل الشباب استئجار البيوت، لكن اليوم اختلف الأمر وانقلبت المعايير وأصبح العيش في شقق حديثة حاجة ملحة.
بعد تطور فيروس كورونا وتشديد العلماء بأنه يجب علينا التأقلم معه؛ لأنه سيكون جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، فكان لا بد من تطوير فكرة السكن أيضاً بعدما تحولت البيوت إلى مكاتب.
بالنسبة للفئة العمرية التي تفضل العيش في شقق سكنية فهي تراوح ما بين عمر العشرين والخمسين وتجذب من هم في سن الثلاثين بشكل كبير بسبب الخدمات التي تقدمها الأبنية ووجود المقاهي والمطاعم وصالات الرياضة فيها.
ففي عام 2019، افتتح مشروع في منطقة كاناري وورف إلى الشرق من لندن وأطلق عليه اسم «أفضل عنوان للعيش الراقي بالنسبة لجيل الألفية» لما يقدمه لهم من خدمات على رأسها بركة السباحة التي تصل عمارتين ببعضهما بعضاً وصالات الرياضة المخصصة لسكان البناية والسينما وبيعت الشقق بأسعار مناسبة جداً لا تتعدى الـ650 ألف جنيه إسترليني.
ومن بين المشاريع السكنية الشهيرة في لندن والتي تعتبر من أهم عناوين السكن حالياً مشروع «رقم 1 غروفنير سكوير» الواقع في منطقة مايفير بوسط لندن. وللتعرف على سبب إطلاق لقب «العنوان الأكثر رواجاً» على هذا العنوان زارت «الشرق الأوسط» المشروع الذي يتميز بموقع ممتاز بالقرب من شارع بوند ستريت وماونت ستريت وشارع أكسفورد للتسوق.يمكن الدخول إلى المبنى العصري من خلال المدخل الرئيسي، حيث يكون باستقبالك عامل التشريفات في المبنى أو من خلال مرآب السيارات الذي يكفي بأن تدخل سيارتك إليه لتقوم التكنولوجيا بركن السيارة دون حاجتك إلى القيام بذلك. يتألف المبنى من 44 شقة سكنية تطل جميعها على أكبر ساحة في وسط لندن.
جميع الشقق مفروشة ومصممة على يد أشهر مصممي الديكور التابعين لشركة «يابو بوشيلبيرغ»، ديكور كل شقة سكنية يختلف عن الآخر لمنح رونق خاص لكل منها وهوية مختلفة تناسب الزبون، ومن الممكن تغيير أي حيثية في الديكور لتتناسب مع ذوق الزبون وتحاكي رغباته. الصفة المشتركة التي تجمع ما بين الشقق هي المساحة الواسعة والشرفات الخارجية وغرف المكتب المخصصة للعمل من المنزل لترضي حاجيات العيش العصري.
من أهم ما يقدمه المشروع السكني الأماكن التي تؤمّن آلية عمل تضاهي تلك التي تقدمها المكاتب فتوجد غرف للاجتماعات مجهزة بجميع التقنيات والتكنولوجيا اللازمة، وتقع هذه الغرف في الطابق الأرضي لتجعل الوصول إليها أسهل في حين توزع الشقق في الطوابق العليا.
والقسم الأهم في المبنى هو المركز الصحي المخصص لأصحاب الشقق السكنية وفيه بركة سباحة تفتح أبوابها على مدار الساعة وفريق عمل مؤلف من خمسة أشخاص يؤمّن جميع الخدمات في السبا من جلسات تدليك إلى تدريب في النادي الرياضي الذي يضم ماكينات عالية التقنية تحفظ بيانات كل مستخدم وتساعده للوصول إلى غايته. وفي الطابق السفلي وبالقرب من المركز الصحي تقع قاعة السينما التي يمكن مشاركتها مع باقي سكان المبنى أو حجزها بالكامل وفيها تعرض أشهر أفلام هوليوود، وفي هذا المشروع تم التركيز على الأماكن التي تؤمن للمقيمين في المبنى فرصة التلاقي والتعارف فتوجد غرفة واسعة يطلق عليها اسم «درووينغ روم» وفيها شاشة تلفزيون عملاقة وأرائك مريحة للجلوس وتناول القهوة في هدوء.
إذا كنت قد زرت لندن في الماضي وعدت إليها اليوم سوف تجد تغيراً واضحاً في تصميم بيوتها، الأبنية الشاهقة تحتل سماء المدينة والبيوت التقليدية تهدم لتحتل مكانها الابنية الضخمة.


مقالات ذات صلة

عضو في «بنك كوريا»: تأجيل خفض الفائدة ضروري لمنع ارتفاع أسعار العقارات

الاقتصاد مبنى «بنك كوريا» في سيول (رويترز)

عضو في «بنك كوريا»: تأجيل خفض الفائدة ضروري لمنع ارتفاع أسعار العقارات

أكد عضو مجلس إدارة «بنك كوريا»، تشانغ يونغ سونغ، أنه يجب تأجيل أي تخفيض في أسعار الفائدة؛ لمنع مزيد من الارتفاع في أسعار العقارات.

«الشرق الأوسط» (سيول)
الاقتصاد جناح «رتال» في معرض «سيتي سكيب ‬⁩العالمي 2023» في الرياض (موقع الشركة الإلكتروني)

«رتال» العقارية توقع اتفاقيتين مع «الوطنية للإسكان» بـ252 مليون دولار

وقعت شركة «رتال للتطوير العمراني» السعودية، اتفاقيات مشروطة ﻣﻊ «الشركة الوطنية للإسكان»، التي تعد الذراع الاستثماري لمبادرات وبرامج وزارة الشؤون البلدية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد أحد المشاريع السكنية التابعة لوزارة البلديات والإسكان (الشرق الأوسط)

النمو السكاني يدفع أسعار العقارات السعودية إلى الارتفاع الربعي الخامس عشر منذ 2021

واصلت أسعار العقارات في السعودية سلسلة ارتفاعاتها للربع الخامس عشر على التوالي، منذ مطلع 2021.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد أحد المشاريع السكنية التابعة لوزارة البلديات والإسكان (الشرق الأوسط)

النمو السكاني يدفع أسعار العقارات السعودية إلى الارتفاع الربعي الخامس عشر منذ 2021

واصلت أسعار العقارات في السعودية سلسلة ارتفاعاتها للربع الخامس عشر على التوالي، منذ مطلع 2021.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد جانب من «القمة العالمية للبروبتك» في الرياض (الهيئة العامة للعقار)

الهيئة العامة للعقار تطلق «مركز بروبتك السعودية» لتعزيز التحول الرقمي

يُتوقع أن يكون «مركز بروبتك السعودية» الذي أطلقته الهيئة العامة للعقار، قناة أساسية للابتكار في التقنيات العقارية ومحركاً رئيسياً يدفع عجلة الابتكار.

زينب علي (الرياض)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)