الشعر طريقاً للاستشفاء وتحسين نوعية العيش

يوسف رخا يلجأ إلى المتنبي لمواجهة الإحباط الخاص والعام

الشعر طريقاً للاستشفاء وتحسين نوعية العيش
TT

الشعر طريقاً للاستشفاء وتحسين نوعية العيش

الشعر طريقاً للاستشفاء وتحسين نوعية العيش

«ولكنّ قلبي... متنبي الألفية الثالثة» تجربة جديدة ليوسف رخا الذي لا يفتأ يتنقل بين تجارب الكتابة المختلفة؛ شعراً، ورواية، ونصوصاً عابرة للأجناس الأدبية.
الكتاب الصادر حديثاً عن «دار التنوير» في 110 صفحات ينقسم إلى قسمين: «الديوان» و«الشرح»، معززاً برسوم للفنان وليد طاهر العابرة من غلاف الكتاب إلى الجزأين. يضم جزء الديوان عشرين قصيدة نثر كتبها رخا بتحفيز من عشرين بيتاً للمتنبي. يسبح بيت المتنبي في بياض الصفحة اليمين، وعلى الصفحة اليسار قصيدة يوسف رخا.
معارضة نثرية للمنظوم، أو كتابة على كتابة، حيث تتسلم القصيدة النثرية القول من البيت الشعري لتصنع مفاجأتها في كل مرة؛ فأحياناً تبدو استكمالاً للبيت القديم من جهة البناء اللغوي، لكنها تدفع بالسياق إلى جهة معنى آخر، ومثالاً على ذلك؛ نقرأ في البداية بيت المتنبي:
وبي ما يذود الشعرَ عني أقلُّه
ولكنّ قلبي يا ابنة القومِ قُلَّبُ
ونستأنف في نص رخا: «حيث يجب أن يكون عمودي الفقري ليس سوى قائم معدني يستقبل الإشارات، جسمي يتهالك من حوله». وفي بقية قصيدة الكتلة التي يجرها بيت المتنبي نرى خيالاً سوريالياً بصور تدل على زمانها الجديد، لكننا نعثر بداخلها كذلك على ما يعيد الارتباط مع لغة المتنبي الأصل: «الخطوب قبضات غيلان على قلبي».
وفي قصيدة ثانية نرى ألفة التشابه بين القديم والجديد. يقول المتنبي:
ذكرتُ به وصلاً كأن لم أفز به
وعيشاً كأني كنت أقطعه وثباً
وعلى الصفحة المقابلة يستأنف يوسف رخا: «لأن الهوى إما حنينٌ أو نجاة، وأنتِ دائماً على الطرف المقابل. كأنّ الحقب يا حبيبتي منازل».
وفي أحيان أخرى نرى بيت المتنبي ذاته استئنافاً:
فبعض الذي يبدو الذي أنا ذاكر
وبعض الذي يخفى علي الذي يبدو
وتقابله قصيدة الألفية الثالثة باستئناف آخر، لا يرتبط بسياق المتنبي الأول؛ بل بمسكوت عنه يخصها: «ثم انتصب العنق. تداخلت الوجوه. كانت الحركة منتظمة مثل دقة دف والقمر لمعة معدن في مفازة».
الأبيات العشرون والقصائد العشرون بكل ما بها من تناقض أو توافق أو تجاور في الصور وفي المعاني؛ بكل انعكاسات الزمنين، تذكِّرنا بتجربة الانبثاق المنعشة للشعر من اللغة كما يصفها باشلار، وتذكّرنا بأحد مهام الشعر لديه وهي تأكيد الطبيعة غير المتوقعة للكلام، بما يجعله تدريباً على الحرية.
خلال قراءة «ولكن قلبي» كانت أصداء قراءات باشلار للصورة تستيقظ في ذاكرتي، وتتضح لي معها العلاقة بين المتنبي شاعر نهاية الألفية الأولى (915 ـ 965م) وبين يوسف رخا شاعر بداية الألفية الثالثة وقد تماهى مع المتنبي؛ تماهياً لم يخل من مخاتلة بداية من العنوان «متنبي الألفية الثالثة» فهذا الوصف ينفتح معناه على احتمالية أن يكون رخا قد حجز لنفسه موقع المتنبي في الألفية الثالثة، مثلما ينفتح على اعتبار أن ما يقدمه هو قراءة للمتنبي في الألفية الثالثة.
يتحدث غاستون باشلار في «جماليات المكان»، ترجمة غالب هلسا، عن «الكبرياء البيتي» لدى القارئ الذي يغتذي بعزلة القراءة، حيث يكون الافتتان بالصورة الشعرية خفياً في داخل القارئ، ويجعله يعيش في عزلته إغراء أن يكون شاعراً. الصورة صنعها شاعر؛ لكن تفاعل القارئ معها يجعله موقناً بأنه كان يستطيع أن يصنعها «كل القراء المتحمسين يعيشون رغبة أن يكونوا كتاباً… كل قارئ يعيد قراءة عمل يحبه يعلم أن صفحاته تخصه». ويفرق باشلار بين هذا القارئ الذي يعدّه شبح الكاتب وبين الناقد الصارم الذي ينقد عملاً لا يستطيع خلقه، أو حتى لا يريد خلقه، إذا ما صدَّقنا مزاعم بعض النقاد.
ما كتبه باشلار عن الشعر طوال حياته كان منطلقه «الكبرياء البيتي» وهو يعترف بهذا بوضوح، وهذا الكبرياء هو الذي مكنه من رؤية الألياف العصبية التي يتدفق عبرها الخيال. نستطيع كذلك أن نرى الألياف العصبية التي يتدفق عبرها خيال قصائد يوسف رخا في اتصالها بأبيات المتنبي.
يبدو متنبي الألفية الثالثة في إعجابه بالمتنبي الأصلي شبحاً له بتوصيف باشلار، لكنه شاعر وكاتب في النهاية؛ أي قارئ نشط، وهذا ما جعل تجربة القراءة تتحول إلى تجربة في الكتابة؛ فأنشأ قصيدته وصوره الشعرية المنبثقة ليس من قصيدة المتنبي الأول؛ بل من متعة القراءة ومن حيوية لغته التي تحققت في لغة وصور جديدة تماماً. أخذ من المتنبي حماسة وكبرياء القارئ، لكنه أنصت إلى أشياء الألفية الثالثة: مس الكهرباء، الإنترنت والحملات الإعلانية، حمام سباحة النادي، والقطارات والطائرات!
في قسم «الشرح» من كتاب «ولكن قلبي» نقف على مخاتلة أخرى، حيث لن يشرح رخا قصائده أو أبيات المتنبي، لكنه يشرح نفسه، ويحاول أن يفهم ماهية الشعر، في نص سيري غاية في العذوبة، نتعرف فيه على ملامح الكاتب الثقافية والحياتية وسيرة قراءاته، ونعرف أن قراءة المتنبي كانت في الأساس جزءاً من مواجهة مع أنواع مختلفة من الإحباط الخاص والعام، اختص فيها المتنبي بعلاج الإحباط من الشعر السائد. وضعه على هاتفه الجوال. يقرأه واقفاً في زحام المترو؛ آخر مكان نتصور أن يصلح لقراءة الشعر.
ومثلما كانت قراءة المتنبي طريقة للإقلاع عن قراءة نوعية من الشعر، كان ارتياد النادي وممارسة الرياضة طريقة للإقلاع عن نوعية خطرة من الحياة. أقلع عن التدخين الذي لم يتصور يوماً أن الحياة أو الكتابة ممكنة من دونه... «أشتغل وأسوق وألتقي بالناس والسيجارة في فمي. آكل وأنام وأصحو بإيعاز منها».
من أجل طفليه عاد لارتياد نادي طفولته، فإذا به يكتشف نوعية مختلفة من الحياة، يستعين بمدرب السباحة الذي يدربهما، وللمرة الأولى في حياته يتعلم العوم، وفي الطريق إلى النادي وإلى العمل يتعلم السباحة في اللغة ويقف على نوعية مختلفة من الشعر عبر المتنبي المدرب القادم من الألفية الأولى. لا يخفي رخا أنه عاش أربعة وأربعين عاماً قبل أن يعرف أن الديمة هي المطر الحنون الذي لا تصاحبه أصوات مفزعة.
وهكذا يتوازى التعافي الذي لمسه الكاتب في لياقته العامة وصحته مع التعافي اللغوي. يكتشف أن للشعر، ولشعر المتنبي خاصة ما دام هو المرجع هنا، القدرة على تجديد معناه من خلال انفصال الصورة عن مجالها الأصلي وحملها معنى جديداً؛ بل معاني جديدة لم تكن في حسبان الشاعر وقت الإبداع. وهكذا فجل شعر المتنبي الذي قيل في المديح ارتفع مع الوقت إلى ذرى أبعد للمعاني؛ فبيت مثل:
فبعض الذي يبدو الذي أنا ذاكر
وبعض الذي يخفى علي الذي يبدو
مجرد مبالغة في سرد مناقب الممدوح، لكنه يفتح أفقاً يستدعي انتقائية الذاكرة، عندما تُظهر أحداثاً وتخفي أخرى، وقد لا يكون ما تتذكره بوضوح حقيقياً، وقد تكون الدوافع الحقيقية في شيء أسقطته.
يروي السارد أنه تصالح مع النادي الذي رفضه صغيراً، لأنه لم يكن يقبل بفكرة أن يكون مكان ما مقصوراً على فئة معينة، بما يبدو في ذلك الوضع من استعلاء، ونلاحظ أن هذا القبول كان متزامناً مع قبول الانضمام إلى نادي الخاصة في اللغة التي يسميها عارف الحجاوي «اللغة العالية»... يكتب رخا: «أهرب من زمني الشعري ومن شروطه المضحكة. أهرب حتى من طموحي. أبحث عن كتابة لا تشبهني لكنها تستحق الاهتمام. أليس هكذا يكون الإنسان شاعراً بحق؟».
بين كل خمسة أو عشرة أبيات يجد رخا بيتاً مستغلقاً كأنه مكتوب بالصينية «وعلى عكس المتوقع؛ عندما لا أفهم أستثار»؛ هذه الاستثارة تجعله يلجأ إلى شرح عبد الرحمن البرقوقي لديوان المتنبي، وكتاب طه حسين «مع المتنبي»، ويحتفظ بمفكرة صغيرة لتدوين الملاحظات. هذا التفكيك ومن ثم الفهم لعمق بيت من الشعر له فرحة تشبه فرحة الطفل برؤية أحشاء اللعبة... فرحة امتلاك اللعبة والتماهي مع صانعها.
ويكتشف يوسف رخا من هذه التجربة في قراءة المتنبي أن خيانة الشعر ليست بالضرورة في التوقف عن كتابته؛ فربما الأسوأ هو التصميم على الكتابة عندما لا يكون لذلك معنى.


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«الطريق» لنجيب محفوظ في عيد ميلادها الستين

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

«الطريق» لنجيب محفوظ في عيد ميلادها الستين

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان عقد الستينات من القرن الماضي فاتحة عهد جديد في التطور الفني لدى نجيب محفوظ. كان قد كلل جهوده في الرواية الواقعية بنشر «الثلاثية» (1956 - 57) التي كان أتم كتابتها في 1952، ثم انقطع عن الكتابة لسنوات عدة قضاها في محاولة لاستيعاب التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي جاءت بها حركة الضباط الأحرار في 1952 بين ليلة وضحاها، قبل أن يعود للكتابة مسلسِلاً في جريدة «الأهرام» سنة 1959 رواية «أولاد حارتنا»، تلك الرواية الكنائية التي أقامت الدنيا وأقعدتها بناءً على تهمة زائفة أنها تتعدى على الأديان، وهو ما حاد بالأنظار عن حقيقة كونها أول عمل روائي في مصر ينتقد النظام الناصري نقداً مبكراً بينما كان النظام ما زال في مرحلة النشوة بالانتصارات والإنجازات تفصله سنوات عن عصر الهزائم والانكسارات. كانت الرواية من وراء قناع الأمثولة الشفاف تندد بالحكم الظالم القائم على البطش والاستعانة بالفتوات لقمع المطالبين بالحقوق والباحثين عن الحرية والعدل. كانت صرخة في وجه الدولة البوليسية التي كانت معالمها قد تشكّلت بوضوح في ذلك الوقت.

وهكذا، ما إن أهَّل عقد الستينات حتى كانت عقدة لسان محفوظ، أو على الأصح قلمه، كانت قد انحلّت، وتوالت روايات تلك المرحلة الواحدة تلو الأخرى بدءاً «باللص والكلاب» 1961، «فالسمان والخريف» ثم «الطريق» وبعدها «الشحّاذ» و«ثرثرة فوق النيل» وانتهاءً «بميرامار» في 1967. جاءت هذه الأعمال لتمثل نقلة فنية كبرى لدى محفوظ. فنراه قد تخلى عن السرد الواقعي التفصيلي والإسهاب الوصفي، وتخلى عن السرد من وجهة نظر الروائي العليم، مستعيضاً عن ذلك بوجهة النظر المُقيَّدة التي نرى فيها كل شيء من خلال واعية الشخصية الرئيسية، حيث لا يسمح الروائي لنفسه بالتنقل بين وجدانات سائر الشخصيات، ونرى فيها استخدام تيار الوعي أو تداعي الأفكار لإطلاعنا على ذهنية الشخصية وعالمها الداخلي في الوقت نفسه الذي نراقب فيه أفعالها وأقوالها وتفاعلاتها مع غيرها من الشخصيات. ونرى اللغة قد تكثفت ومالت إلى الغنائية في بعض الأحيان كما كثرت فيها الصور والأخيلة وزاد استخدام الرمزية والإحالات.

إذا كان محفوظ قد لجأ إلى الحكاية الأمثولية في «أولاد حارتنا» لنقد النظام الناصري من خلف حجاب، فهو في روايات الستينات قد أسقط كل ساتر وكل قناع في نقده. فرأينا «اللص والكلاب» تدور حول خيانة المبادئ الثورية والتحول من المثالية الثورية إلى التنعُّم البورجوازي. ونرى في «السمّان والخريف» كيف أن النظام الجديد يرث مع السلطة التي استولى عليها مزايا الطبقة الحاكمة البائدة. أما «الشحّاّذ» فتدور أيضاً حول التحول البورجوازي في منتصف العمر والركون إلى الدعة والرخاء بعد فورة المثل العليا والأفكار الثورية في مقتبل العمر. فإذا ما انتقلنا إلى «ثرثرة فوق النيل»، رأينا الانحدار البورجوازي في أسوأ صوره من انغماس في المخدرات والجنس والانفصال عن المجتمع وقضاياه في ظل تهميش المواطن والحرمان من المشاركة في الحياة السياسية تحت النظام المنفرد بالرأي، وصولاً إلى آخر روايات المرحلة «ميرامار» (1967) التي تبدو فيها مصر (في شخص خادمة البنسيون «زهرة») حائرة بين الأنظمة والعهود، بائدها ومعاصرها، حيث الجميع يسعى لاستغلالها ولا أحد تهمه مصلحتها وإن كانت هي ترتفع فوق الجميع.

تميزت روايات هذه المرحلة إلى جانب نقدها السياسي والاجتماعي، بمعالجتها أموراً فلسفية وبالمزج بين الفردي والاجتماعي والفلسفي في بوتقة واحدة. فنرى محفوظ مشغولاً بقضايا وجودية وميتافيزيقية، متأملاً في الدين والإيمان والموت والصوفية والعلاقة بين الفرد والمجتمع ومعنى الالتزام وقيمة العمل وسبل الخلاص وتحقيق الذات في ظل مجتمع قاسٍّ وحكم قاهر وكونٍ هائل الأبعاد لا تعنيه كثيراً مصائر الأفراد.

إلى هذا الزخم الروائي والفكري تنتمي رواية «الطريق» التي أتمت هذا العام ستين عاماً منذ صدورها الأول في 1964. وإن كان العام الستون لدى البشر يرتبط في الأذهان بسن التقاعد من الخدمة العامة أو الإحالة إلى المعاش، فليس كذلك الأمر مع «الطريق» التي تبقى اليوم رواية معاصرة مُشغِفَة في سردها وقضاياها، وذلك خلافَ أغلب زميلاتها من الستينات التي كادت أن تصبح اليوم روايات تاريخية شديدة الارتباط بعصرها ومناخه السياسي. الذي يعطي «الطريق» هذه المكانة الخاصة هو تحررها من وطأة البيئة السياسية المعاصرة لزمنها وانصرافها إلى قضية فلسفية كبرى مما يشغل الإنسان في كل عصر وكل بيئة. قضية البحث عن المُطْلَق. عن الماورائي. عن الميتافيزيقي. هل خلاص الفرد يكمن في هذا العالم أم في قوة خارجة عليه؟ هل نقضي وقتنا على الأرض في البحث عن هذا الشيء الماورائي الغامض أم نقضيه في العمل الدائب من أجل الذات والآخرين والتقدّم البشري العام؟ أين تكون «طريق» الخلاص؟

للإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى كتب محفوظ رواية تشويقية مثيرة. رواية حب وجنس وعنف وجريمة وقصاص. لكن محفوظ يعرف كيف يكتب على مستويين. أحدهما سطحي خارجي مثير فلا تريد أن تضع الرواية من يدك من شدة التشويق، والآخر عميق باطني يرمز إلى معانٍ أبعد منالاً مما نرى على السطح. صابر سيد سيد الرحيمي بطل الرواية هو شاب يسعى إلى «الحرية والكرامة والسلام»، وهو في مسعاه هذا الذي يفشل فيه فشلاً ذريعاً، لا يختلف عن معاصريه من شباب مصر، ومن هنا فإن فشله هو رؤية متشائمة للوضع المجتمعي والأحلام الوطنية المجهضة. لكن القراءة السياسية ينبغي أن تتوقف عند هذا الحد، فهذه رواية اختار محفوظ فيها أن يرتاح مع عناء القضايا السياسية والاجتماعية الملحة ليتأمل فيما هو أبعد. ومن هنا، فإن بحث صابر عن أبيه الثري المجهول بعد وفاة أمه لأجل أن يخلّصه من العوز يتحول في المستوى الرمزي للقراءة إلى بحث الإنسان عن الإله، عن الحقيقة الماورائية المطلقة. وعلى النسق نفسه، فإن انقسام صابر بين انجذابه الشهواني إلى «كريمة» الزوجة الشابة للعجوز صاحب الفندق وبين حبه العذري لإلهام الفتاة العاملة المجاهدة للعلو على مشاكل حياتها يصبح تجسيداً للفصام البشري الأبدي بين دواعي الروح ودواعي الجسد، بين نداء الأرض ونداء السماء. وعلى امتداد الرواية يتعايش مستويا المعنى في وئام كامل؛ ما يشهد لمحفوظ ببراعة في السرد لم تكن جديدة على قارئيه حتى في ذلك الوقت المبكر نسبياً. فأنت تستطيع أن تقرأ قصة الإثارة والتشويق من الأول إلى الآخر وتخرج قانعاً راضياً. إلا أنك تخسر الكثير إن اكتفيت بذلك وغابت عنك الرموز والإشارات والأحلام والأخيلة والخواطر المُعاودة leitmotifs والمواقف المنثورة بسخاء في ثنايا النص، والتي تقودك إلى المستوى الأعلى للمعنى.

على أن محفوظ يعيد علينا في «الطريق» درساً فهمناه منه مراراً فيما قبلها وكذلك فيما بعدها. ليس ثمة حلول ميتافيزيقية لمشاكل الإنسان على الأرض. «الحرية والكرامة والسلام» لا تتنزل هدية من السماء، وإنما تُكتسب على الأرض. وهي لا تُكتسب إلا بالعمل، بالجهد البشري. القلق الوجودي لا علاج له إلا بالانغماس في الجهد البشري وليس بالهروب إلى التصورات الصوفية كما اكتشف عمر الحمزاوي في «الشحّاذ» ولا بالسعي وراء أبٍ وهمي كما يفعل صابر في «الطريق». قيمة الإنسان لا تنبع من التعلق بما وراء الطبيعة ولكن من «العمل». العمل في مفهومه الواسع، مفهوم «الالتزام» أو الاشتباك الإيجابي مع محيطنا المعاش، كما عند سارتر. بهذا وحده يتحقق الثالوث المقدس الذي يسعى إليه صابر وكل البشر: «الحرية والكرامة والسلام».

على المستوى الواقعي للرواية يقدم لنا محفوظ شخصية «إلهام» نموذجاً نقيضاً لصابر. هي أيضاً أنكرها أبوها طفلةً، لكنها لم تُضع حياتها في طلب الاعتراف منه، بل أدركت أن خلاصها لا يكون إلا بالعمل والاعتماد على الذات. لكن ليس هذا النموذج الذي اختاره صابر، فلا يقوده سعيه إلى مبتغاه، وإنما في بحثه العقيم وفي خواء حياته من العمل والقيمة يضل «الطريق» إلى الجريمة والسجن، وبينما ينتظر تنفيذ حكم الإعدام، يبقى متعلقاً بالوهم، منتظراً أن يأتي أبوه في اللحظة الحرجة لينقذه بنفوذه من حبل المشنقة.