قصة قصيرة: الطين والكافور

قصة قصيرة: الطين والكافور
TT

قصة قصيرة: الطين والكافور

قصة قصيرة: الطين والكافور

تحت شجرة الكافور العتيقة، في طرف بعيد عن الدار كان قد أشعل شمعته تلك الليلة أيضاً، ليتم صناعته الطينية التي بدأها متأخراً.
جسد طويل بتفاصيل وروح، كان في تحدٍ واضح لموهبته المتأخرة، في جعل شكله تاماً بما يكفي، بتفاصيل حقيقية كاملة، سيفخر الطين لاحقاً في الفرن، يحتاج إلى يومين، وإلى درجات حرارة مجنونة، يؤججها في جب أرضي عميق، ليتغير لون الطين إلى أبيض مثقل بصلابة النار.
تعلم ذلك من فخار أوان التقى به في صغره ذات مرة، لم تعن له هذه المعلومة حتى نطت من رأسه أخيراً، لتتحول إلى طين مفخور ملأ عالمه بحياة جديدة.
يعلم الجميع بأنه لم ينم منذ سنوات، ليالٍ طويلة وكثيرة، امتدت لأشهر ومن ثم سنوات لم يلتفت لعدها، منذ أن أصبح الظلام طقس تعذيب متواتر، وهو يصارع ذكرى تلك الليلة، تظلم صفحة السماء، فيبدو كمستذئب جريح، يحوم ويجول في الدار، صامتاً يصارع وجعه، جريحاً ينوء بحمل الألم وحيداً، كان يريد مواجهة الفقد، يتحداه بسهر دائم يجتر الذكرى، ويربي الوجع، وكلما كبر كائن الوجع زادت حجة البعاد عن البشر. لليالٍ كثيرة حاولت زوجته مرافقته في طقوسه، في صمته وسهره، سهرت معه، حاولت جره إلى بكاء يخلصه من ثقل المأساة على قلبه، لكنها في النهاية بكت كثيراً، وناحت طويلاً، وونت حتى تعبت واستسلمت أخيراً للنوم.
في ليلة ماطرة، بدت له سماؤها باكية بدلاً من عينيه، فكر في أنه الآن خلافاً لما كان اعتاده طوال حياته، قد أصبح ابناً لليل دون النهار، تذكر فكرة ولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل، في الآية القرآنية، لكنه لم يتذكرها بالفعل، لم يهمه ما إذا كان في مرحلة ثانية أو أولى منها، في ليل أو في نهار. عادت له تفاصيل تلك الرحلة وهو يضع جثة ابنه في تابوت مسود بدماء متراكمة على خشباته، يربطه فوق سيارة حديثة الموديل، وعده ابنه الممدد فوقها بامتلاكها مثيلتها ذات يوم، ليلة بدأت بإنزال الجثة من حبل تدلى من أعلى الجسر، لم يتخيل بأن للجسد هذه القدرة على الاستطالة، وأن للرقبة هذه المرونة في رفع جسد بهذا الوزن، استطال كل شيء حتى اللسان المتدلي، فكر طويلاً في سبب لهذه الاستطالة، تفكك العظام، تخلخل في تلك العضلات الفتية، محاولة يائسة للجسد في تمدد أخير على أفق الحياة.
لم يغسّله، ودفن الجسد الممطوط دون كفن، بحبله حول الرقبة، مد يده في طين أرضه وحفر هناك، تحت شجرة الكافور التي ظللت لياليهما معاً للأبد.
منذ تلك الليلة المختنقة، ترك الأرض والفلاحة والزراعة لابنه البكر، ولم تعرف عيناه بعدها النوم أبداً.
قال له ابنه البكر بعد سنوات، وبينما هو يصنع دراجة هوائية من الطين، ليضعها أمام القبر، تلبية لرغبة طفولية قديمة لصاحبه: تستطيع أن تتذكر أدق تفاصيل واهتمامات ميت، لكنك تنساني في لهيب الأرض والسماء دون شربة ماء...
في ليلة الطين تلك، وتحت المطر، وبينما تظللهما شجرة الكافور، كانت أصابعه تمتد في قلب الأرض، يغرسها فيحس بنسغ دافئ يفجر عرق الحياة بين يديه، كانت دماء طينية حية تراوغ رجفته، جلس وهو يحمل الطين بيديه، يشكله، يلطخ وجهه ودشداشته به، لينتهي به إلى جسد طيني ممطوط بحبل ملتف حول الرقبة. كانت تلك الليلة هي التي انكمش فيها الذئب في داخله أمام الطين في يديه، وتغير لون الطين في عينيه إلى أبيض مفخور بنار مجنونة.
في الليلة التالية، كان قد وجد بين يديه وجهاً معدوماً بلسان متدل طويل، فكر بأن لا يجب أن يراه أحد، لكنه وفي النهاية وضعه في النار ليجده بعد أيام وقد انتصب شاهدة للقبر تحت شجرة الكافور.
لم يترك شيئاً مما هواه المعدوم وتمناه، إلا صنعه له بيديه، ليلة بعد ليلة، كان الطين يتشكل أمنيات ميتة حول القبر، صنع له الدراجة والكرة والحذاء الرياضي، لعباً صغيرة مثل عمره المدفون في الطين، صنع شهادة تخرج لم تمتد أيام المعدوم لتسلمها بيديه، كذلك أعطاه السيارة حديثة الموديل التي طالما تمناها، ومؤخراً فخر له حبيبة يافعة، بوجه أبيض كالقمر وعيون من خرز سماوية.
الأرض كائن يانع، وجه مرتجف بالشمس مترعرع بفرحة الزرع، يدير نظره فيها فيفكر به في بطنها كجنين مرتبط بحبله السري، يتغذى بنسغها مطراً أبيض، فلاح ابن فلاح يستولدها ينبت حلمه فيها، ولا يخطئ الحياة منها، يخلقها وينبئ بخصبها.
ملأته تلك الفكرة بسعادة غريبة، لم يجدها مجنونة أو شاذة، الأرض حياة جديدة، فكرة جامحة، يقرر بأن عمره وبعد خمس سنوات من الحياة الجنينية الأرضية، قد أصبح اثنين وعشرين عاماً، يسوي خامته الطينية، ينقيها، يحدد طولاً حديثاً لجسد ولده الطيني، يبتكر ملامح أكثر سعادة مما تركها على وجه الشاب تلك الليلة، يعيش تفاصيل الجسد بكل تقاسيمه المتناسقة، يمنحه نفخة النار السماوية، خلق جديد يتوهج شاخصاً أمامه، ابناً للأرض، ابناً لحياة جديدة، يقف على قبر حي.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.