ينس مارتن إريكسن لـ«الشرق الأوسط»: حاولت كشف التحولات التي تحدث للبشر أثناء الحروب

الكاتب الدنماركي يقول إنه يكتب ليعرف لا لكي يدّعي المعرفة

ينس مارتن إريكسن
ينس مارتن إريكسن
TT

ينس مارتن إريكسن لـ«الشرق الأوسط»: حاولت كشف التحولات التي تحدث للبشر أثناء الحروب

ينس مارتن إريكسن
ينس مارتن إريكسن

يزور القاهرة هذه الأيام الكاتب والروائي الدنماركي ينس مارتن إريكسن، لتوقيع نسخة روايته «شتاء عند الفجر» التي نشرتها دار ميريت، بترجمة الشاعر العراقي سليم العبدلي. وإريكسن هو من مواليد عام 1955، ونشر عدداً من الروايات منها «جريمة جوناتان سفيدت»، و«جسر الساعات»، وحصل على كثير من الجوائز، ومنحة من مؤسسة الفنون الدنماركية، وجائزة آدم أولينشلاغر للأدب، ومنحة جين وهنري ناثانسن التذكارية... هنا حوار معه حول أجواء الرواية.

> كيف تفسر التفاعل الذي لقيته «شتاء عند الفجر» بعد نشرها بالعربية؟
- نقل أجواء الرواية يحتاج إلى مترجم متمكن جداً، وقدير، وجزء كبير من نجاحها يكمن في أن القارئ العربي حين يقرأها يشعر كما لو كانت مكتوبة بالعربية في أصلها، وقد جاء اختياري للمترجم سليم العبدلي لأني أثق كثيراً في إمكاناته لمعرفته باللغة والأجواء الدنماركية، فضلاً عن معرفته وإتقانه للعربية، وقد جعله هذا يقدم «شتاء عند الفجر» للعربية بكفاءة كبيرة. هو يعيش في الدنمارك منذ ثلاثين عاماً، ولديه الجنسية الدنماركية، وقام من قبل بترجمة الشاعر السوري أدونيس.
> في الرواية جعلت من البطل دارس الأدب قاتلاً بعد انضمامه للميليشيات... أليس هذا غريباً بالنسبة لشخص يدرس الشعر والقصة والرواية؟
- فكرة التحول التي حصلت للراوي من شخص طبيعي تعلم في الجامعة ودرس الأدب، ولديه طموحات في الحياة يسعى لتحقيقها، ثم يتحول إلى شخص قاتل، ليست جديدة، فقد كتبها من قبل جوزيف كونراد في روايته «رحلة في الظلام»، هذا التحول حدث بالفعل للراوي، بطل روايتي «شتاء عند الفجر»، ما يجعله يخطف ويقتل، وقد حدثت أشياء على الشاكلة نفسها، وفي مستوى بشاعتها في الحرب الأهلية بالبوسنة، 1992، بالطبع تجاهلت ذكر أي أسماء في العمل حتى لا تتحول الأسماء إلى رموز لمضامين دينية، سواء كانت لمسيحيين، أو مسلمين، كان همي أن أجعل العمل ذا رؤى وأفكار ومضامين إنسانية، وهذه هي الرواية التي كنت أسعى لكتابتها، ولم أكن أفكر في كتابة سياسية، وقد انتهت الحرب، لكن الرواية ستظل موجودة استناداً لموضوعها الإنساني.
> لكن لماذا جعلت البطل من دارسي الأدب؟
- حين اخترت أن يكون بطل الرواية دارساً للأدب، كنت أريد منه أن ينتقد نفسه بعد نهاية رحلته مع القتل وانتظامه ضمن مجموعات الميليشيات التي تجند فيها، وخضع لمهامها، وقام بتنفيذ ما تم تكليفه به، كنت أريده أن يحلل ما جرى، والتحولات التي حدثت له أثناء الحرب.
> تركز الرواية على عمليات القتل في حرب أهلية غير محددة الزمان ولا المكان... لماذا؟
- مجمل ما كنت أريد أن أقوله أن «شتاء عند الفجر» تعد رواية عن القتل، لكنها ليست من وجهة نظر الضحية، بل من وجهة نظر القاتل، من هنا كان سبب جعل الراوي دارساً للأدب، وقد جعلته انتهازياً، لا يريد أن يخضع لفترة تجنيد في الجيش، ويسعى لأن ينهي هذه المرحلة وهي الجندية بطريق أخرى، وقد كانت هذه الطريق هي الانتساب للميليشيات، التي لا تتجاوز فترة الوجود معهم أكثر من شهر، ومع ذلك فقد كانت تلك الفترة كافية لأن تحدث تدميراً كاملاً لهويته الإنسانية، والأخلاقية.
> يعد موضوع الرواية جديداً على القارئ العربي، ماذا عن ردة فعل قرائها في اللغات الأخرى؟
- نعم كان موضوع الرواية جديداً على القارئ العربي، لكنه لم يكن كذلك عند العرب فقط، فقد تشابهوا مع رد فعل القراء من ثقافات متعددة في أوروبا، حيث ترجمت الرواية لعدد من اللغات سواء الألمانية أو الفرنسية، أو الصربية، هناك أيضاً اعتبروها جديدة لأنها تتناول موضوع الحرب، من خلال شخص عادي يتحول ببساطة إلى قاتل، وهي تتابع ما جرى للراوي البطل وتفضح ما تعرض له من تحولات دمرت إنسانيته وأصابت روحه وعقله.
> هل هناك فكرة محددة كنت تسعى لإبرازها؟
- ما كنت أريد إجمالاً أن أقوله هو أن الرواية تدور حول فكرة الاختيار الإنساني، وأن ما نفعله من تصرفات هو ما يشكل ملامحنا وشخصيتنا، ولو كان هناك درس أو حكمة منها فيمكن أن نقول إنه يكمن في هذه الفكرة المركزية، التي تتمحور حول اختيارات الإنسان وتأثيرها على روحه وملامحه وحياته فيما بعد.
> لكن ما الصلة التي كنت تسعى لإيجادها وأنت تشير إلى أسماء بعض المدن من مدغشقر وزنجيبار وآلاسكا التي كانت مسرحاً لعمليات الميليشيات؟
- لا توجد علاقة مباشرة أو حقيقية بين المدن المختلفة في الرواية، وكل ما جاء من أسماء مثل مدغشقر أو زنجيبار، أو ألاسكا كان خاضعاً للصدفة فقط، كنت لا أريد أن أذكر أسماء المدن الحقيقية حتى لا يتم توظيف الرواية سياسياً، ويستخدمه البوسنيون ضد الصرب، أو الصربيون ضد البوسنة، وما قمت به من تجاهل للأماكن الحقيقية مفسر في الرواية وهو خاص بمجموعة القَسم، وهم الأشخاص الذين أقسموا على عدم التعرض لما قاموا به، والحديث عنه، ولو قاموا بذلك فإنهم يكونون قد خانوا العهد التي قطعوه على أنفسهم، من هنا حين أراد الراوي أن يحكي حكايته للشخص الذي التقاه في بداية أحداث القصة، كان الحل لديه ألا يحكي عن مدن حقيقية ولا يذكر أسماء أشخاص حقيقيين أيضاً، وقد راح يحكي دون أن يحدد أين جرت الأحداث، ولا من قام بعمليات القتل ومن كان مسؤولاً عنها.
في أوقات الحروب هناك أيضاً رموز وشيفرات عسكرية لاستخدام الأماكن حرصاً على السرية، وهذا ما يحدث دائماً، لكنني هنا لم أكن أريد أن يركز القارئ على هذه التفاصيل، بل على التحولات التي تحدث للراوي وتجعله يصبح إنساناً آخر يختلف تماماً عما كان قبل الانضمام للميليشيات.
أما عن البطل فلم أكن مهتماً بتصوير شخص متعصب أو سيكوباتي، كنت أسعى لتسجيل رحلة شخص عادي، شاب عمره 21 عاماً، وكان مهماً بالنسبة لي التركيز على نقطة محورية، لم أكن أريد أن أتخم الكتاب بمقولات أو حكم أدبية قديمة، وكان تركيزي على واقعة تحطيم روح الإنسان وتدمير هويته.
> ماذا كنت تريد من خلال مشهد الطفل في القطار الذي رآه الراوي أثناء عودته إلى دياره بعد انقضاء رحلة تجنيده؟
- هذه هي الإشارة الوحيدة وترد في نهاية الرواية، عندما يستقل الراوي القطار عائداً إلى مدينته، يلتقي طفلاً كفيفاً في العربة، يقرأ لجدته قصة جندي يعود من الحرب ويقابله في الطريق عازف كمان، وقد كان ينظر في زمن العصور الوسطى للكمان على أنها آلة الشيطان، وما كنت أريد أن أشير إليه هو أن أعكس صورة الفاجعة التي حدثت للجندي، وأجعله يرى صورته التي كانت، صورته الإنسانية وبراءته التي فقدها جراء اشتراكه في عمليات الميليشيات، القصة التي قرأها الطفل في الرواية تتحدث عن جندي قضى في الحرب عشر سنوات، وعندما عاد لم يجد شيئاً يشاركه مع أطفاله، فما كان لديه لا يصلح لأن يكون حكايات لأطفاله، وقد حدث هذا للجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية، فقد كان الأطفال الألمان يقولون عن آبائهم إنهم لا يتحدثون.
> لكن لماذا تأتي المدن في الرواية بلا ملامح ولا معالم؟
- حين يتحدث الراوي عن مدينة ما كان يقول فقط إنها ليست كبيرة، أو ليست قرية صغيرة، لأنه ليس مهماً أن نتحدث عن جمال المدن أو تفاصيلها في حالة مثل التطهير العرقي، لن تهتم بأن تذكر أوصاف الأماكن، فقط تعرف من معك ومن ضدك، كان تركيز الراوي هو الأشخاص من سوف يقتل ومن سوف يسير إلى جواره، وكيف أن القتل هو القضية الرئيسية للرواية.
> هل تعتقد أن العمل الروائي يصلح لتصدير رسالة أو حكمة للقراء؟
- في الحقيقة كتبت روايتي لا لأقول حكمة، بل لأفهم، كنت أسال الراوي عن أشياء أريد الكشف عنها، وعرفتها، وهذا هو تصوري عن الفن، فالكاتب يكتب لكي يعرف، لا لكي يدعي المعرفة ويقول حكماً للآخرين. ما دعاني لكتابة هذه الرواية هو أن كل أوروبا سألت نفسها عن أهم حدث جرى في عام 1992، وكان ما جرى هو الحرب الأهلية في يوغوسلافيا، وهذا كان بالنسبة لي كابوساً، وقد فوجئت باندلاع الحرب، ولم يكن هناك واحد من السياسيين قادراً على إيقافها أو منعها، وقد واجهت الحكومات ذلك بحالة كاملة من الصمت.
> في روايتك «جسر الساعات» تكتب عن بطل مختلف عن بطلك في «شتاء عند الفجر»...
- الرواية مستوحاة من قصيدة لشاعر دنماركي تحمل الاسم نفسه، وتتحدث عن رجل شارك في الثورة الكمبودية، وهي حسب رأيي كانت أكثر جنوناً من الثورة الصينية الماوية، وكان هذا الرجل وحيداً جداً، يتحدث أكثر من لغة، يحب الشعر، ويكلم القمر، ويحكي حكايات عن شكسبير، هو يسعى لأن تلتف الناس حوله حتى يأنس بهم ويتجاوز شعوره الدائم بالوحدة.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي