الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن

مقتل 6 منهن في 2013.. والنيات الحسنة لا تكفي.. وتهديدات طالبان فوق رؤوس الجميع

الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن
TT

الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن

الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن

كادت بارفينا أن تنجو، لقد كانت في طريقها إلى منزلها بعد زيارتها وأطفالها لوالديها في شرق أفغانستان، وكانت بصحبة بعض النساء حين اقترب منهن رجلان ملثمان يستقلان دراجة نارية وسأل أحدهما وهو يتطلع في النساء المخبئة وجوههن خلف البراقع الزرقاء: «من هي بارفينا ابنة ساردار؟». لم يجب أحد، فاستخدم أحد الرجلين سلاحه في رفع البرقع الذي يغطي وجه أقرب النساء إليه، وبالنسبة إلى المجتمع الأفغاني المحافظ يعد هذا الفعل أشبه بفعل تجريدها من ملابسها علنًا. وردت بارفينا متسائلة: «من الذي يسأل؟»، وذلك بحسب رواية والدها وشقيقها. ورأى المسلحان وجهها وأطلقوا عليها 11 رصاصة.
قصة بارفينا، وهي واحدة من 6 شرطيات قُتلن عام 2013، حالة تمثل أسوأ ما يمكن أن يحدث، لكنها تكشف عن الأخطار والصعوبات التي تواجهها الشرطيات الأفغانيات، ومحاولات الغرب الحثيثة لتحقيق المساواة بين الجنسين في أفغانستان. وعلقت مأساة النساء تحت حكم حركة طالبان في مخيلة الغرب، وبات تحريرهن مثل صرخة لحشد الجهود. وتم ضخّ أموال وتقديم برامج في أفغانستان من أجل توفير فرص التعليم للفتيات، والمأوى للنساء، وإنتاج برامج تلفزيونية، وكل ذلك من أجل رفع مكانة المرأة في المجتمع.
مع ذلك اصطدمت تلك النيات الحسنة بالنهج المحافظ في أفغانستان. وكما توضح قصة المرأة، التي تعمل في صفوف الشرطة الأفغانية، لم تكن النظرة القمعية للمرأة لعنة تختص بحركة طالبان فحسب، بل هي جزء راسخ من المجتمع الأفغاني.
والآن بعد سحب الأموال والقوات الغربية من أفغانستان، السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى نجح اللقاء بالغرب وما يمثله من قيم في تغيير البلاد، وما إذا كان للأفكار الغربية الخاصة بوضع المرأة أي تأثير.
في عام 2001، عندما سقط نظام طالبان، كان وضع المرأة في أفغانستان هو الأسوأ على وجه الأرض، إذ لم يكنّ يحصلن على أي فرص للتعليم أو الصحة وكان ضربهن في الأماكن العامة أمرا مقبولا في المجتمع. ونادرا ما كانت المرأة تخرج من المنزل، وعندما كانت تفعل ذلك كان من الضروري أن يصاحبها رجل، وتكون مغطاة من رأسها إلى أخمص قدميها بالبرقع.
وبعد مرور 14 عاما، هناك أمل ملموس أمام المرأة، خصوصا في المناطق الحضرية، إذ تذهب الفتيات إلى المدارس على الأقل حتى سن الحادية عشرة، وتحسنت الخدمات الصحية المقدمة للمرأة حتى في بعض المناطق النائية في البلاد. مع ذلك في المناطق الريفية والنائية، وفي المناطق التي تسكنها قبائل البشتون، في شرق وجنوب البلاد، لا تزال النساء يعشن حياة خانقة، إذ يتم إجبارهن على الزواج، وتتزوج الفتيات في سن صغيرة، وتتعرض النساء للضرب، وأحيانا للقتل في ما يعرف بجرائم الشرف.
وكان تعيين نساء في صفوف الشرطة من أولويات الحكومات وجهات التمويل الغربية، إذ كانوا يرون أن النساء والفتيات الأفغانيات اللاتي يتعرضن للعنف، أحيانا بشكل يومي، سيتشجعن على الإبلاغ عن أي انتهاك يتعرضن له، أو يطلبن المساعدة، إذا كان هناك نساء في الشرطة يمكنهن اللجوء إليهن. مع ذلك تلك الآمال تتصادم مع المحرمات الجنسية التي تسيطر على كل أشكال التعامل بين الرجال والنساء في أفغانستان. وتم وصف الشرطيات بالعاهرات اللائي يجلبن العار لأُسرهن. ويعني هذا الموقف العدائي أن النساء اليائسات واللائي يكنّ عادة فقراء وغير متعلمات هنّ من يعملن مع الشرطة.
وفي مجتمع يستخدم فيه الجنس كوسيلة ضغط وإخضاع، تتحمل كثيرات من الأفغانيات التحرش الجنسي خوفا على وظائفهن. تواجه الشرطيات الأفغانيات اللاتي يناضلن من أجل الحفاظ على سمعتهن مجموعة من المشكلات على أرض الواقع لا يفهمها المتبرعون الغربيون، مثل الحاجة إلى غرف تغيير ملابس منفصلة في أقسام الشرطة نظرا لخوف النساء من الذهاب إلى العمل وهنّ مرتديات الزي الرسمي. وبعد مرور 10 سنوات، وإنفاق ملايين الدولارات، لا يزال هذا الهدف المتواضع المتمثل في تعيين 5 آلاف شرطية محض سراب، إذ تم تعيين 2,700 شرطية فقط، أي أقل من 2 في المائة من أفراد الشرطة البالغ عددهم 169 ألفا، وذلك بحسب مكتب الأمم المتحدة في كابل الذي اعتمد على إحصاءات وزارة الداخلية الأفغانية.
يقول الخبراء في الشأن الأفغاني: «لم يتم تهيئة الموقف في أفغانستان للنساء للعمل مع الرجال، ومجتمعنا ليس مستعدا للشرطة النسائية للعمل هنا»، قال ذلك العقيد علي عزيز ميراكاي، الذي يرأس التوظيف بمحافظة مقاطعة نانغرهار، حيث عملت بارفيينا.
ويضيف العقيد ميراكاي بإقليم نانغرهار المحافظ، حيث كانت تعمل بارفينا: «الوضع في أفغانستان لا يسمح باختلاط النساء بالرجال في العمل، ومجتمعنا غير مستعد لتقبل نساء في جهاز الشرطة هنا». وأضاف ميراكاي الذي يدعم تعيين مزيد من النساء في صفوف الشرطة قائلا: «يقول قادة الشرطة الذين أعمل معهم إنهم لا يحتاجون إلى نساء يعملن معهم حتى الظهيرة ثم يذهبن إلى المنزل، بل يريدون تزويدهم برجال في سلك الشرطة». ويتنهد العقيد ميراكاي، الذي يدعم وجود المزيد من الشرطيات، مشيرا إلى أن قادة الشرطة بعمله قالوا: «نحن لسنا بحاجة إليهن للعمل معنا حتى الظهر والعودة إلى المنزل، فبدلا من الشرطة النسائية أرسل لنا الشرطة الذكور»، لافتا إلى حقيقة أن كثيرا من النساء يتركن العمل في وقت مبكر لرعاية أسرهن.
وفي محاولة للحصول على صورة شاملة تلخص تجربة المرأة في العمل داخل جهاز الشرطة، أجرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقابلات مع أكثر من 60 شرطية، وقادة شرطة من الذكور، ومسؤولين في وزارة الداخلية، ومسؤولين عسكريين غربيين، فضلا عن أعضاء في منظمات غير حكومية. وبحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، تم تقديمه إلى الوزارة عام 2013 لكن لم يُنشر، تعرضت 70 في المائة من الشرطيات، اللاتي تم إجراء مقابلات معهن والبالغ عددهن 130، لتحرش جنسي، وأبلغ عدد قليل من الشرطيات عن تعرضهن للاغتصاب، أو ضغوط واضحة لممارسة الجنس.
وقالت جورجيت غانيو، رئيسة قسم حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أفغانستان: «بوجه عام لا تزال النظرة السلبية للشرطيات التي تتبناها وزارة الداخلية والمجتمع الأفغاني، وغياب آلية سرية لتقديم الشكاوى، والفساد، والافتقار إلى المرافق، والتمييز، والتحرش الجنسي، هي العراقيل الرئيسية».
ويعني الصدام بين القيم الغربية والواقع في أفغانستان أن البرنامج الذي كان يهدف إلى دعم المرأة قد أتى بنتائج عكسية، حيث عرّض النساء لانتهاكات وعقوبات. مع ذلك يمكن رؤية الإنجازات الحقيقية القليلة في بعض وحدات الأسرة التي تمنح الضحايا من النساء الفرصة للحديث إلى شرطيات والحصول على محاميات.
وقالت دبلوماسية غربية عملت لسنوات طويلة في أفغانستان، وتحدثت شريطة عدم ذكر اسمها نظرا لحساسية الموضوع بالنسبة إلى الحكومات التي استثمرت في برامج تدريب النساء للعمل في قوات الأمن: «من الغباء فرض قيمنا الليبرالية الغربية. ومن السهل علينا فتح الطريقة أمام هؤلاء النساء هناك، والتباهي بإنجازاتهن، ثم نغادر ونتخلى عنهن. وما الذي يحدث لهن؟». والصدام بين المثل الغربية والحقائق الأفغانية يكشف البرنامج الذي أنشئ لتعزيز دور المرأة في كثير من الأحيان عن نتائج عكسية للغاية، وخضوع المجندات أنفسهن لسوء المعاملة والعقاب.
وكانت الإنجازات ضئيلة ولكنها حقيقية في بعض وحدات الاستجابة للعائلة، التي تعطي الضحايا من النساء فرصة لإجراء محادثات مع شرطية والوصول إلى المحاميات.
وقال دبلوماسي غربي، أمضى سنوات كثيرة في أفغانستان، وطلب عدم نشر اسمه بسبب حساسية الموضوع بالنسبة إلى الحكومات التي استثمرت بكثافة في تدريب النساء الأفغانيات لقوات الأمن: «إن من العبث فرض معتقداتنا الغربية الليبرالية، فمن السهل بالنسبة لنا وضع هؤلاء النساء هناك واحترافهن للتجنيد لتحقيق إنجازات، ولكن بعد أن نغادر، سننهي حريتهن، وماذا يحدث لهن؟».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.