الشعر في عباءة المسرح

عن العلاقة بين المسرح والشعر، وما أنتجته من رؤى وأفكار جديدة يدور كتاب «استنطاق الصمت - في الشعر والرؤيا» الصادر عن هيئة الكتاب المصرية للمسرحي العراقي د. فاضل سوداني. ويتناول الكتاب بالنقد والتحليل بعض التجارب الشعرية الحديثة في قصيدة النثر من منظور بصري ودرامي يعتمد على الذائقة الشخصية والانفعال الذاتي للمؤلف كمخرج وكاتب مسرحي أكثر من اعتماده على مناهج نظرية محددة الملامح.

سركون بولص

يستهل الباحث دراسته التطبيقية بديوان «الحياة قرب الأكربول» للشاعر العراقي سركون بولص، مشيراً إلى أن «الأكربول» يبدو هنا وكأنه الموت، رغم أنه بالمعنى الحرفي يعني قلعة مبنية على هضبة مرتفعة للدفاع عن اليونان القديمة، إنه ناء وقريب جداً والشاعر الذي كان يبحث فيه عن مدينته كان يبحث عن أسباب فنائه، عن طفولته لأنها كانت فريدة يشوبها سحر الآباء الذين يسكنون دائماً قرب نهر الحياة، لكن خيطاً رفيعاً من الدم يفرق بينهما:
«هل وجدت نهر آبائك؟
أينما استدرت
والتقطت عشبة مجهولة عند ضفافه
فأكلتها، لا ماء فجأة ولا بيت إنما قدم تسعى
أصبحت قدماً لا تعرف طريقها
لقد قاتلت قليلاً، ثم نسيت»
ويذكر سوداني أن الشاعر نفى نفسه نفياً اختيارياً من أجل الفوز بنهر الخصب وعشبة الخلود، لكنه فجأة يكتشف أنه تحول إلى جواب للآفاق يسعى في طريق لا يعرفها لا يوجد فيها ماء ولا بيت ولا دفء ولا حنين، إنه منفى للاغتيال المعنوي والموت المبكر وليس لسقاية زهور الحياة.
ويخلص إلى أنه في هذا الديوان، تبدو المدينة بمثابة طفولة الشاعر لكن المأساة تتشكل عندما تصبح مدينة خاوية، يتوهج الوعي وينفض الشاعر روحه من ندى الإغفاءة محاولاً أن يستعيد براءة طفولته من جديد في مدينة توصد أبوابها أمام الغرباء، فيكتشف عمق الهوة التي يتحدر فيها لأنه يبحث عن طفولة ضائعة في مدن المنفى.

قاسم حداد

تحت عنوان «لغز قاسم حداد، ذاكرة بصرية وهذيان أسطوري» يتوقف سوداني عند قصيدة «طائر الحلم» للشاعر البحريني، التي يقول في مطلعها:
«طير في مكان الرأس
بين كتفين وسيعين مكتظين بالتجربة
وصنوف الفقد»
ويرى أن القصيدة تبدو للوهلة الأولى وكأنها حلم مفكك الصور، إلا أن النظرة المتعمقة تثبت أنها في حقيقة الأمر تعكس عالماً متكاملاً يتم رصده من لغة بصرية ورؤيا مرهفة، تكثر إشارات الحلم ورموز الفانتازيا وأجواء السيريالية في القصيدة، ومع ذلك هي شديدة التعبير عن الواقع حتى لتبدو واقعية أكثر من الواقع، فالمرأة بدل رأسها يحط طير قد ينقر في الحدقتين حتى تتحولا إلى كهفين صغيرين مظلمين.

بول شاؤول

يتوقف المؤلف عند قصيدة «المطر القديم» من ديوان «كشهر طويل من العشق» للشاعر بول شاؤول، لافتاً إلى أنها تبدو كمحاورة سرية مع ذاته أو مع الآخر أو مع ذلك الجسد الميت الذي يعترف أمام شاعره بعد أن يجعل له قيامة شعرية من جديد «لأن الموتى لا يأتون دائماً»، ولهذا تنطلق المحاورة الشعرية على نحو يبدو كأنه يفتقد للمنطق العادي مضمخماً بعبق العبث واللامعقول:
«كانت المرآة صبورة تلك الليلة
ثم لم تعرف فجأة
كنت أمامي كليلة سابقة
لكنك حضنتني وكدت تبكي
- لم يغلق أحد الأبواب خلفنا»

زاهر الغافري

ثم يتناول الكاتب الشاعر العماني زاهر الغافري، في ديوانه «عزلة تفيض عن الليل»، مستشهداً بأحد نصوصه:
«وعلى بعد خطوة مني
تلد الأساطير أزهاراً وحشية
أريد أن آكل ثمرة النسيان
ولكن أقسى الظلال
ما يترك طعنة في الظهر
أتيت أبقى كذئب في كهف
يحن إلى ماضيه»
ويوضح أنه بهذه اللغة التي تفرض علينا سماع هسيسها يقدم زاهر الغافري عالماً وحشياً، محاولاً أن يعيد تشكيله عندما يدخله في مرآته التي يرى فيها ذاته والآخر معاً لكنها سرعان ما تتهشم عندما يعي الشاعر عدم وجود أرض تؤويه بعد اليوم فهو الغريب الذي مرت حياته فوق سلالم نارية، وهو الذي ولد من ليل المغفرة، رغم أن المتاهة ما زالت هناك، لافتاً إلى أن الغافري يمتلك لغة متوهجة قادرة على شحن المفردة الأدبية بطاقة بصرية تستند إلى مكونات الصورة والفانتازيا الشعرية، فيظل واضحاً رغم ضوضاء العالم.