هل اعتذر إدوارد سعيد؟

اتهمه ألبرت حوراني بأنه أهمل قيمة الدراسات والمؤلفات التي قدمها مستشرقون كبار

ألبرت حوراني - إدوارد سعيد - مكسيم رودنسون
ألبرت حوراني - إدوارد سعيد - مكسيم رودنسون
TT

هل اعتذر إدوارد سعيد؟

ألبرت حوراني - إدوارد سعيد - مكسيم رودنسون
ألبرت حوراني - إدوارد سعيد - مكسيم رودنسون

كنت قد ذكرت في مقالة سابقة أن إدوارد سعيد ندم بعد أن استشعر خطر استغلال الأصوليين لأطروحات كتابه الشهير التي فسروها على أساس أنها ليست معادية للاستشراق فقط وإنما معادية أيضاً للحضارة الغربية ككل. ولكي يستدرك هذا الخطر ويتحاشاه فإنه كتب «مؤخرة» مطولة بعد 15 سنة من صدور الكتاب. قلت مؤخرة لأنه وضعها في آخر الطبعة الجديدة. وفيها يقول ما نصه: «اسمحوا لي بدايةً أن أعبّر عن أكبر أسف لي وهو أن كتابي هذا فُهم على أساس أنه معادٍ للغرب بأكمله. فما إلى هذا قصدت. لقد اعتقد أصحاب هذا التفسير الخاطئ أني أعتبر الاستشراق صورة مصغرة عن الغرب كله. وانطلاقاً من ذلك استنتج هؤلاء أني أعتبر الغرب في كلّيته بمثابة عدو للعرب والمسلمين، إلخ... وأخيراً استنتج هؤلاء ما يلي: أن نقدي للاستشراق يعني دعم الإسلاموية أو الأصولية الإسلامية».
ماذا يعني هذا الاعتراف الواضح الصريح؟ ألا يعني أنه ندم على أن كتابه فُهم على هذا النحو؟ ألا يعني أنه يتبرأ من هذا التفسير الخاطئ الذي يجعل منه صديقاً للأصولية الظلامية وعدواً للحضارة التنويرية؟ وبالتالي فلا ينبغي أن نقوّله ما لم يقله أو أن نقدم صورة مغلوطة عنه.
بل لم يكتفِ إدوارد سعيد بذلك في مراجعاته وتصحيحاته وإنما انتقد الأصولية التي تحتمي به وتتخذ كتابه الشهير سلاحاً فعالاً ضد الغرب، حيث قال ما معناه: إن الخطأ الإبستمولوجي، أي المعرفي العميق، الذي ارتكبته الأصولية هو أنها اعتقدت أن الأصول عبارة عن مقولات لا تاريخية أو فوق تاريخية تعلو على كل تفحص نقدي.
نضيف من طرفنا قائلين: ولكن مَن الذي قام بهذا التفحص النقدي للأصول التراثية إن لم يكن الاستشراقي الأكاديمي الرفيع؟ مَن الذي حرَّر التراث من الصورة الغيبية القديمة التي صدئت وعلاها الغبار؟ مَن الذي كشف عن الصورة التاريخية –أي الحقيقية- للتراث؟ ثم أوغل إدوارد سعيد في نقده للأصولية في مقدمة هذه الطبعة الجديدة المذكورة. وهي مقدمة مدبّجة عام ،2003 أي قبيل رحيله، وهذا يعني أنها تشبه وصيته الأخيرة. وكان قد نشرها في مجلة «اللوموند ديبلوماتيك» أيضاً تحت عنوان: «النزعة الإنسانية كآخر متراس لنا ضد البربرية». وهنا يقول ما معناه: «إن الاختفاء التدريجي للاجتهاد من ساحة التراث الإسلامي كان إحدى الكوارث الثقافية العظمى لعصرنا. لماذا؟ لأن ذلك أدى إلى اختفاء كل فكر نقدي من ساحة الفكر العربي الإسلامي». هذا هو كلام إدوارد سعيد. هذا هو مضمون فكره العميق. وبالتالي فلنكفّ عن استخدام فكر إدوارد سعيد كسلاح فتاك ضد الحضارة، والأنوار، والنزعة الإنسانية. فقد كان على العكس من ذلك تماماً. بل كان يرى أن العداء بين الشرق والغرب شيء خاطئ وغير مرغوب فيه على الإطلاق. إنه مع النزعة الإنسانية الكونية التي تشمل الجميع. إنه ضد نظرية صدام الحضارات الخاطئة وقد أعلن ذلك مراراً وتكراراً. فالناس الأشرار موجودون في كلتا الجهتين، وكذلك الأخيار. ويمكن أن نضيف بأن الصدام واقع داخل الحضارة الواحدة قبل أن يكون واقعاً بين حضارتين مختلفتين. انظروا إلى الصراعات الدائرة داخل عالم الإسلام بين التقدميين والرجعيين، أو بين التنويريين والظلاميين. الصراع مع «داعش» أكثر خطورة من أي صراع آخر. إنه صراع الحضارة ضد البربرية. وانظروا أيضاً إلى الصراع الدائر داخل الحضارة الغربية بين الاتجاهات اليمينية واليسارية، أو بين التيارات العنصرية والتيارات التنويرية الإنسانية.
بل وصل الأمر بإدوارد سعيد إلى حد القول:
«طيلة السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة من عمري أمضيت قسماً كبيراً من حياتي في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. ولكني حاولت دائماً أن أفعل ذلك مع الأخذ الكامل بعين الاعتبار للشعب اليهودي وعذاباته على مدار التاريخ بدءاً من الاضطهادات السابقة حتى مجزرة الإبادة الكبرى على يد النازيين. وقد كان الشيء الأهم في نظري هو أن إقامة المساواة بين إسرائيل وفلسطين لا ينبغي أن يكون لها إلا هدف واحد هو الهدف الإنساني: أي التعايش السلمي المشترك وليس مواصلة الاستئصال والرفض المتبادل».
هذا ما قاله إدوارد سعيد حرفياً. أتحدى أي مثقف عربي أن يتجرأ على لفظ مثل هذه الكلمات وإلا فسوف يُتهم فوراً بالخيانة العظمى! ولا أعرف لماذا يشتمون الإمارات والبحرين ولا يقولون كلمة واحدة عن تصريح إدوارد سعيد هذا الأكثر من تطبيعي؟ مجرد تساؤلات...
ثم يتوقف سعيد مطولاً عند ردود الفعل على الكتاب في العالم العربي لأنه المعنيّ الأول بالموضوع ويقول لنا ما معناه: لقد بدا لهم الكتاب كأول رد فعل جاد على الغرب الذي لم يستمع أبداً إلى صوت الإنسان الشرقي بل والذي لم يغفر له أنه شرقي. لا أزال أتذكر أحد أوائل العروض لكتابي في اللغة العربية. وهو عرض يصفني كأني بطل العروبة، إنه يصوّرني كمدافع عن الضعفاء والمظلومين أو المقموعين. وبالتالي فقد أصبحت طبقاً لهذا التصور بطلاً يخوض المعركة وجهاً لوجه ضد الغرب والسلطات الغربية بطريقة ملحمية ورومانطيقية. ثم يضيف سعيد: على الرغم من كل هذه المبالغات والشطحات فإن هذا العرض يعكس جزئياً مشاعر العرب الذين يعتقدون أن الغرب يعاديهم ويكرههم. وبدا أيضاً أن جزءاً كبيراً من النخب العربية تعتبر الكتاب رداً مناسباً على غطرسة الغرب. ونضيف من عندنا ولهذا السبب نجح الكتاب نجاحاً هائلاً، وأكاد أقول أسطورياً في العالم العربي.
ولكن بالطبع الشيء الذي كان يهمّ إدوارد سعيد هو رد المستشرقين عليه لأنه وضعهم في قفص الاتهام ما عدا قلة منهم. في الواقع، إن معظم المستشرقين عدّوا الكتاب ديماغوجياً غوغائياً يلعب على وتر الغرائز والعواطف لإلهاب مشاعر العرب والمسلمين ضد الاستشراق والغرب. وبالتالي فلا قيمة له من الناحية العلمية ولا يستحق حتى مجرد الرد. ولكن بعضهم رأوا أنه يحتوي على وجهة نظر تستحق الاهتمام الشديد حتى ولو كانت صادرة عن شخص غير مختص بالدراسات العربية والإسلامية. من بين هؤلاء مكسيم رودنسون وآخرون. نقول ذلك على الرغم من أن رودنسون انتقده بحدة وحذّر من مخاطر أطروحاته على البحث العلمي الاستكشافي الحر بعد أن أثنى على الجوانب الإيجابية لديه. وكذلك فعل المؤرخ الكبير ألبرت حوراني الذي عاب عليه أنه هاجم مصطلح الاستشراق إلى درجة أن الكلمة لم تعد حيادية وإنما أصبحت عاراً أو شتيمة. بل لم تعد قابلة للاستخدام. وبالتالي فعلى الرغم من مزايا الكتاب وقوة محاجّته إلا أنه ترك آثاراً سلبية وراءه. فالاستشراق طبقاً لألبرت حوراني ليس كله إمبريالية واستعماراً وغطرسة وإنما هو بالدرجة الأولى علم متخصص بدراسة موضوع محدد: هو الدراسات العربية الإسلامية. وهذا العلم حقق نجاحات لا يستهان بها. وبالتالي فيعيب عليه ألبرت حوراني أنه أهمل هذا الجانب من الدراسات الاستشراقية. وهذا ظلم للاستشراق. فلا يمكن إهمال قيمة الدراسات والمؤلفات التي قدمها مستشرقون كبار من أمثال مارشال هودغسون، وكلود كاهين، وأندريه ريمون، وكذلك إنجازات المستشرقين الألمان الكبار. فهذه البحوث قدمت مساهمات كبيرة من أجل المعرفة والنزعة الإنسانية والعلم. ولا ينبغي احتقارها أو مهاجمتها بحجة أنها استشراق!
كيف يرد إدوارد سعيد على هذا النقد المهم الذي وجهه إليه عالم كبير مثل ألبرت حوراني؟ إنه يقول ما فحواه: في أي مكان من كتابي هذا لم أقل إن الاستشراق شرير أو سيئ النية أو سطحي أو متماثل لدى جميع المستشرقين، ولكني قلت إن معظم الاستشراق كان متواطئاً مع السلطات الإمبراطورية، وقد انعكس ذلك على أعمال المستشرقين ومؤلفاتهم.
أخيراً ينبغي الاعتراف بأن الاستشراق أنتج بحوثاً علمية استكشافية ضخمة عن التراث العربي الإسلامي. وقد أصبح استيعابها أو هضمها أمراً ضرورياً جداً لتغذية الثقافة العربية وإخراجها من مستنقع التكرار والاجترار. وينبغي تأسيس مركز ترجمة كبير في المشرق أو المغرب فقط لترجمتها ومناقشتها. أتحدى أي مثقف عربي أن يعرف ما هو التراث بالضبط إن لم يكن مطلعاً على أمهات الكتب الاستشراقية الكبرى. أضيف أن المثقفين العرب عاجزون، بإمكانياتهم الخاصة وحدها، عن حل المشكلة التراثية. القصة أكبر مما نتصور وأشد عمقاً وخطورة.



عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي
TT

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة، وإسهامه على مدى أربعين عاماً في المشهد الشعري العراقي.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

> أنت شاعر مكرس، ولك حضور مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيراً فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟

- الشعر، أتوقع الشعرَ وليس سواه، هو ما دفع بي إلى الرواية، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكان سرداً روائياً. للشعر فضائل كثيرة على مَن يقيم فيه، والكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر حين فتح لي أفقاً آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية.

منذ أكثر من عشرين عاماً كان الشعر يستدعي مني، من خلال ما كتبت من دواوين، اعتماد تقنيات «السرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الدواوين، حتى تكرّس هذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديوان مكرس تماماً لرؤية الحياة في ظروف الحرب والعنف التي عاشها العراقيون، ثم ما تلاه من دواوين.

لكن الشعر، في جانبٍ مهم من صيانيته، عادة ما يحصّن نفسه من الانسحاق، ومن مواراة هويته، وذلك كلما كان بصدد الانفتاح على السرد وسواه، بهذا كنت أميّز بين السرد، كما هو في مواطنه بالرواية والقصة القصيرة وسواهما من فنون السرد النثري، وبين الطابع الخاص، التقني والبلاغي والتخييلي، لما سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري».

بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد السرد في الشعر، كانت كتابتي في النثر تنمّي قدراتها حتى صار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي المقالة، وحتى بعد ذلك حين أنجزت كتاب «واقف في الظلام»، وهو كتاب أقرب إلى السيرة الشخصية ممتزجة بسيرة مجتمع خلال سنوات أواخر القرن الماضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طريق لا يسع إلا فرداً»، وهذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كلا الكتابين كانا يعتمدان بشكل أساس على الإفادة من السرد. لقد عدّ بعض النقاد والقراء كتاب «واقف في الظلام» رواية سيرية، وهذا ما لم أكن مخططاً له، لكني كنت خلال العشرين عاماً الأخيرة أروي الأفكار والرؤى والوقائع، والقصائد أيضاً كحكايا، كوقائع سيرة للأفكار والأحداث.

> لم تشر، في هذا السياق والاستذكار، إلى كتابك الأخير «في نبض العالم»، وهو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امتزج فيه السرد بالشعر بشكل حاد، أعتقد أنه حمل عنواناً فرعياً تصف به نصوصه على أنها «سيرة الأعمى، وقد رأى كل شيء»...

- نعم، هذا الكتاب ما كدت أكمله، وقد استغرق مني عاماً، حتى وجدته يسلمني مباشرة إلى كتابة الرواية، «غريزة الطير».

> تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي من هذا الكتاب؟

- لا، أبداً... لكن كتاب «في نبض العالم» كان قد مضى بي إلى السرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خرجت منه وأنا مشبع بروح السرد وطاقته.

في الحقيقة بقيت سنوات طويلة كنت آملاً خلالها أن أكتب رواية، ولم أستطع ذلك، لم أجرب، لم أحاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بلا انقطاع. كنت أشعر أني ممتلئ بطاقة كبيرة على السرد، كما لو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لقد انفتحت الخزانة ومعها تدفقت كتابة السرد.

> كيف حصل هذا؟

- الحكمة التي خرجت بها تفيد ألا تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، ولا تتمنّع عليها إن أقبلت.

هذا ما يحصل عادة في كتابة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي.

> قوبلت «غريزة الطير» باستحسان من قبل النقاد والكتّاب، هل ستكون نقطة افتراق عن الشعر، خصوصاً أنك أصدرت كتاب «الأعمال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟

- لا، لماذا نعتقد أنه لا تعايش ما بين الأجناس المتنوعة في الكتابة والفن؟ لماذا نعتقد ألا ينهض جنس كتابي لدى كاتب إلا على دفن جنس آخر؟ نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر. وواقعاً حتى من دون الانشغال بالرواية من الممكن عدم الإقبال على كتابة الشعر، والعكس صحيح أيضاً. لا مشكلة في ذلك ما دامت الكتابة تعبيراً عن حاجة، تكفُّ الحاجات ربما فتكفّ معها الرغبة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه.

> ولكن كلما فكّر شاعر بكتابة رواية فغالباً ما يقال إن اللجوء للرواية نتاج للإحساس بإزاحتها الشعرَ من عرشه، خاصة مع تطور هذا الفن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين الأخيرين؟

- كلانا كما أعتقد نتحدث هنا عن الأدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جدية الحياة في الكتابة، شعراً أو رواية، لا أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي لا يقوم فن إلا بنحره فناً آخر.

نحن نحيا في عالم مستمر بتغيراته السريعة، تغيرات تلقي بظلالها على كل شيء... فرص الإمتاع تتنوع، بما يدفع بملايين البشر إلى أن ينشغلوا باهتمامات قد لا تطرأ في بالنا.

لا ينبغي لنا، نحن بشر هذه السنوات، أن نتأسى على بشر المستقبل لافتقادهم ما نراه الآن ضرورة لا تستقيم الحياة من دونها.

الشعر والأدب والفن عموماً يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أولاً وإن انتفت حاجة المحتاجين لهذا الإنتاج مستقبلاً فلا ضير في ذلك.

أكتب الشعر كحاجة شخصية، وكتبت الرواية كاستجابة لحاجة أخرى مقابلة. في الحالين كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فلا أقف كثيراً عند من سيبقى أو سيموت من الفنون والآداب.

> ما زلت بصدد الصلة ما بين الشعر والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذراً من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضحة، أتساءل: ما إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟

- فعلاً كانت هذه مشكلة أثناء الكتابة. ليس من اليسير أن تعرف أنك، كشاعر، ما زلت مستمراً بلغة الشعر فيما أنت تكتب رواية. هذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهي أيضاً مشكلة كاتب الرواية غير الشاعر حين يريد «تزيين» لغة الرواية ببلاغة شعرية، هذه بلاغة غالباً ما تكون فجّة لمجيئها خارج سياقها المألوف.

سوى هذا التعمد هنالك اللاوعي، فبعد سنوات طويلة من كتابة الشعر تأخذ بلاغة اللغة الشعرية فرصها للعمل والظهور في الكتابة النثرية بتلقائية دونما وعي من الشاعر.

قد تساعد الخبرة الصحافية، لكاتب مثلي، في ضبط اندفاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخر. ففي الرواية يكون الكاتب أمام وضع آخر لا صلة له بلغة الصحافة، إنه أمام رواية، وهي نص أدبي، تحتاج بلاغة أدبية نثرية، وهذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة في نص أدبي روائي. كان خياري أن أرجئ التفكير في هذه المشكلة لما بعد الانتهاء من الرواية، وفعلاً قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خلالها لاصطياد أي أثر بلاغي شعري جاء في غير محلّه، وبالمقابل عملت على تنمية البلاغة النثرية الأدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لم تكن مستحيلة، وكان لصبري على الرواية أثر مهم في هذا الجانب.

> هل كنت متعمداً تناص عنوان الراوية، «غريزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثلاً بينهما في الثيمة المركزية، كما تتجلى سردياً في الرواية، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟

- حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هذا العنوان «غريزة الطير» متأخراً بعد إنجاز مراجعتها وبعد أكثر من عنوان لم تصمد جميعها أمام تبرّمي منها لحين ما استقررت على العنوان الأخير، وهو مستلّ من متن الرواية.

أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة والانشداد إلى حياة أفراد ومجتمع ومدينة بخلاف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى في كتاب فريد الدين بينما طائر الرواية أوّاب منشدّ إلى مدينته وأرضه.

في كل حال، لا أدري، ربما يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بين الكتابين.

> إلى أي مدى ظلت «غريزة الطير» تتحدث عن إشكالية الهوية الاجتماعية، وعلاقتها بالآخر الذي يقاسمها المكان، والوجود، من خلال الشخصيات التي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟

-ـ كنت منشغلاً في الرواية، بجانب أساس منها، بمصائر الأرستقراطية الوطنية العراقية، التي نشأت في أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبدأت بالاندحار ما بعد ذلك. الأب سليمان زيني كان عضواً فاعلاً، في شبابه بالبصرة، بالحزب الوطني الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّراً إلى حدٍّ ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهذا جانب من سيرورة المجتمع لم يحظَ باهتمام يذكر سواء في الأدب أو الفكر السياسي.

نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر

> الشخصية المحورية آدم زيني، تقدمه بوصفه المرشد والحكيم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (الأب) سليمان زيني يقول عنه: «هو معلمي»، هل هناك قصدية ما في بناء هذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودراية الآخر ذي النسب الإنجليزي؟

- سعيت كثيراً من أجل أن أضمن لشخصيات الرواية حريتها، استقلاليتها عني. من هنا تمتع آدم بقدر وافٍ من الحرية التي جعلت منه شخصاً يبدو مستقراً آناً ومضطرباً في آنٍ آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبساً بالنسبة للآخرين.

لا أستطيع هنا التحدث عن شخصية مثل شخصية آدم. ثمة الكثير لم تقله الرواية، وهو مما ظل يعتمل في دخيلة آدم، وبعض هذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكه علي أنا المؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقلالها عنه. لم يكن هذا خللاً في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم.

شخصية آدم هي من نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هو وَرِثَ جانباً من خصال أمه، المحافظة الإنجليزية وبعضاً من طبائع أبيه الليبرالي العراقي، لكن آدم ظل ماهراً في صنع شخصيته كما أرادها هو وحرص عليها.

> حكاية (جاسم السماك)، وهو شخصية ثانوية في الرواية، حول رؤيته رفض الكلاب نهش جثث القتلى عام 1991. هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيين العراقيين بها؟

- حكاية جاسم حقيقية، روى لي صديق بصري واقعتها. في أحيانٍ كثيرة كان واقعنا أغرب من الخيال. ثمة الكثير من الكنوز السوداء التي ينبغي للأدب أن يخرجها من خزائن الألم العراقي، ما زال أدبنا زاهداً بهذه الكنوز.

> قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟

- أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «السيدة مفسّرة الأحلام»، أبقيتُها بعيدة عني منذ أسبوعين، ربما أحتاج إلى أسبوع آخر لأعود بعده إليها بهدف المراجعة قبل دفعها للنشر.