للكاتبة السورية الكُردية مها حسن صدرت قبل أيام رواية «قريناتي»، عن منشورات «المتوسط»، لتكون الثالثة عشرة في مشروعها الأدبي، وضمن محطاته: «حبل سرّي»، «الراويات»، «عِمت صباحاً أيتها الحرب» و«مترو حلب» و«حي الدهشة»، و«في بيت آن فرانك».
هنا حوار معها بمناسبة صدور روايتها الجديدة حول تجربتها الأدبية، ومساراتها السردية، وتقاطعاتها مع الذاكرة السورية، وخصوصاً مع «كنوز حلب»، كما تسميها، حيث ولدت الكاتبة:
> يشي عنوان روايتكِ الجديدة «قريناتي» بنزعة ذاتية... حدثينا عن ملامحها.
- كنت في صباي المبكر أعيش أسطورة شخصية، أن أحدنا يولد حاملاً روح شخص يموت في السنة ذاتها، فتحل روح الميت في جسد الوليد. وكانت أسطورتي الشخصية أنني أحمل روح أندريه بريتون، الذي مات سنة ولادتي، 1966، وولدت أنا في أواخر ذلك العام، فقط لتجمعنا السنة ذاتها، أي أنني لو تأخرت في الوصول إلى العالم بعد أيام، وولدت سنة 1967 لما حصلت على روح بريتون. كان صديق لي يؤمن بأنه يحمل روح ريلكه. من هذه اللعبة شعرت دائماً بأن هناك أشياء تحدث لي، ولأخريات في نفس الوقت... نشعر بالأمر نفسه، على بعد آلاف الكيلومترات بيننا، من هنا أحببتُ الاشتغال على فكرة القرينة الموجودة في التراث الشعبي المشرقي، لأوظّفها فنياً عبر تقنية تقاطع الحيوات بين عدة نساء.
> في روايتكِ «حي الدهشة» تتحدثين عن الأماكن الحلبية، وذاكرتها. حدثينا عن علاقتكِ بالحارة الشعبية، وتحديداً «حي الهلك» الذي بدأتِ الرواية باستهلال عن تاريخه. أيضاً يتحرك السرد في الرواية عبر عناوين فرعية تستعيد روايات عربية وأجنبية وحتى أفلاماً سينمائية، ما قصة هذا التكنيك السردي الذي خلقتِ به مساراً لحكايات أبطالك وحبكة الرواية؟
- أنا مفتونة بأجواء الحارة. لم أكن أعرف ذلك عن نفسي، واكتشفته في حياتي الأوروبية. ككثير من التفاصيل التي لا ندركها وهي متاحة لنا. للمرة الأولى أكتشف الأمر، حين كنت في بيروت، أقيم لدى صديقة في حي شعبي، يعرف الجميع فيه الجميع، ويتحدثون معاً، وكان قد مضى على وجودي في فرنسا آنذاك قرابة العشر سنوات، وكنت أفتقد كل التفاصيل الدافئة: اللغة العربية في الشارع، الأغاني العربية التي يضعها سائقو السيارات، صوت الأذان... ثم تكثّفت هذه الاكتشافات في القاهرة بعمق أكثر. ففي بيروت كان الحي محاطاً بأحياء حديثة، ولكن في القاهرة، يمكن العثور على حي كبير مليء بهذا الدفء والحميمية... من هنا كانت رحلاتي إلى القاهرة، بمثابة تحريك للذاكرة المنسية.
ومن هنا أيضاً، تعرفت على الكثير من تكويناتي النفسية المرتبطة بأجواء الحارة، التي لم تستطع الحياة الأوروبية اقتلاعها من داخلي: الرغبة في التعرف على الآخر، الحوار، تبادل المعلومات، وفتح الباب على الآخر المجهول، حيث برأيي أغلب أزمات الحضارة المعاصرة هي العزلة والخوف من الآخر وانتفاء لغة الحوار.
أما عن هذا التكنيك فهو نابع من هاجسي في عدم تصنيفي من قبل القارئ أو الناقد داخل شكل أدبي ثابت. أحرص في كل رواية لي، أن تكون مختلفة عن غيرها، كأنها كتابة جديدة. هكذا أحلم أن أكون في كل رواية أكتبها. من هنا جاءت لعبة العناوين غير المسبوقة في الرواية العربية من قبل، والغربية كما أظن... وفي نفس الوقت، حاولت أن أقول إلى أي حد أنا شغوفة بالرواية، هو أيضاً نوع من الولاء لفن الرواية التي وُلدت لأكتبها.
> ما «كنوز حلب» التي تحدثت عنها بطلة روايتك «حي الدهشة»، التي تجدين فيها منهلاً للكتابة رغم اغترابك الطويل عنها؟
- في رواية «مترو حلب»، توقفت طويلاً عند الحارات القديمة المحيطة بالقلعة: الأسواق، روائح البضائع، ملابس النساء، جلساتهن الخاصة وطقوسهن، هذا الفصل الحاد بين مجتمعي الرجال والنساء فيه الكثير من القضايا الشائكة، فيه الجمالي، وفيه المؤلم والمُهين للمرأة، المخيف، والكابوسي، حتى اليوم تنتابني بعض حالات الهلع، حين تقفز إلى ذاكرتي عذابات البنات المحرومات من الخروج من البيت، وسيناريوهات الكذب التي تؤلفها البنات، بالاتفاق مع مُقربات من العائلة، لزيارة صديقة أو جارة فقط، أو الذهاب إلى السوق. هناك عالم كبير محروم من التعبير والحرية، والكنز الذي تحدثت عنه بطلة روايتي في «حي الدهشة»، ليس دائماً هو تلك المنح الجمالية لتركيب الناس النفسي من الطيبة والشهامة والمساندة، بل هناك أيضاً كنوز مخفية من طاقات نساء مهمّشة وممنوعة من الظهور، وهذه بالنسبة لي كنوز أهم، تحتاج إلى الكثير من الطاقات لاستخراجها وتقديمها للعالم.
> خلقتِ لأبطال حاراتك الأدبية سياقات تجمعهم بأبطال ماركيز ودوستويفسكي، مثل البطل الذي يُقارن نظرته للجريمة و«القتل بالنيّة» بنظرة «راسكولنكوف» بطل «الجريمة والعقاب»... ما الذي يجمع بين كل هذه الشخصيات؟
>هؤلاء الأبطال موجودون فعلاً حولنا. إن عظمة ديستويفسكي مثلاً تكمن في أن الخصائص النفسية لأبطاله تتقاطع مع الكثير من البشر في بلدان أخرى. من هنا فإن الأدب يسهم في تعريف الناس بأنفسهم وبغيرهم، وتوجد نقاط التقاء بينهم خارج حدود الجغرافيا والانتماءات الأخرى: اللغة، الدين، الثقافة... هناك قواسم مشتركة بين البشر، أكبر بكثير من نقاط الاختلاف بينهم، لهذا ربما، يكتب أحدنا، أو أكتب أنا، لخلق خريطة معرفية تسهم في تفسير الرموز والشيفرات الإنسانية التي تصلح لتكون دليلاً معرفياً للبشر في كل زمان ومكان.
> بطلتكِ في «مترو حلب» تستلبها ذكريات حلب وهي في باريس، وفي «حي الدهشة» تستدعي البطلة حكايات حلب وهي في شوارع لندن، كيف تُمررين هذا التقاطع الأدبي في مشاعر الحنين والتغريب؟
أعيش شخصياً الكثير من الاغتراب، وفي كل يوم، كسارة، بطلة مترو حلب، رغم مرور ثمانية عشر عاماً على إقامتي في فرنسا، فأنا أستمع في الصباح إلى أغانٍ كردية أو عربية. ولا تزال عاداتي مرتبطة ببلاد الشرق، وكيفما تحركت في فرنسا، وجدت شخوصي يمدون رؤوسهم من داخلي للمقارنة بين ما عاشوه في الحياة السابقة، وحيواتهم المصاحبة لي هنا.
> كتبتِ عدداً من أبرز أعمالك حول الحرب السورية وهي في أوجها، كيف وازنتِ بين توثيق الحرب والسرد الفني الروائي؟
- أعتقد أن الكتابة عن الحرب كانت نوعاً من الالتزام الأخلاقي والتماهي مع ضحاياها. انتصار الكتابة ربما هو سبب التنويع، ففي النهاية، يجب أن تنتصر ذاتي الكتابية على ذاتي العادية.
> ما هو دور سيدات الحكي أو «الراويات» في تاريخك الشخصي ممن فرضن حضورهن على مشروعك السردي. من هن؟
- كنتُ أقول دائماً إنني وُلدت في وسط حكّاء. ربما هذه سمة الوسط العربي عموماً، حيث الأمهات راويات ماهرات. تعلمت «الحكي» من أمي التي أصفها بمورّثتي للسرد.لاحظتُ أنها كانت تروي لأبي القصة ذاتها التي حصلت معها في اليوم ذاته، وكي تجلب اهتمامه كانت تنوّع في طريقة السرد. كذلك تعلمت الحكي من نساء العائلة، جدتي حليمة التي كانت تجذبني إلى ركنها الهادئ عبر الحكايات... نساء كُثر، أغلبهن أميات، كن يجدن الحكي، وكأن السرد لدى النساء الشرقيات يأتي بالفطرة... لهذا جاءت رواية «الراويات» كنوع من الولاء ورد الدين للراويات المجهولات.
> «في بيت آن فرانك» ثمة تقاطع بين ملامحك الذاتية وسيرة تلك الكاتبة الألمانية الشهيرة صاحبة البيت.
في إقامتي في بيت «آن فرانك» في أمستردام، وأثناء قراءتي لمذكراتها، كنت أجد الكثير من التقاطعات الشخصية بيننا، أهمها أننا امرأتان تعشقان الكتابة، وتتكئان عليها للتعرف على ذواتهما والعالم من حولهما. لكن الهدف الأساسي من الكتابة، كان لأعرّف آن فرانك عليَّ، فأنا قادمة من بلاد وثقافة مجهولتين بالنسبة لها، وأتحدث بلغة لا تفهمها... لذلك، وأنا مُحاطة بشبحها الذي لم يغادر البيت طيلة تلك السنوات، حتى بعد موتها، رحت أبني علاقة تعارف بيننا، لأطوّر تلك العلاقة إلى صداقة مهمة، أحقق فيها لآن فرانك أحلامها في التنقل عبر جسدي ومشاهدة العالم عبر عينيّ.
> طالما ارتبط اسمك بتصنيفات، ما بين «كاتبة كردية» و«كاتبة الحرب» و«كاتبة المنفى»... كيف تنظرين لمثل هذه التصنيفات؟
لا يمكن لأي عنصر خارجي أن يُفقدني ذاتي، ولا توقفني هذه التعريفات، فأنا أمتلك هُويات مُتعددة ومتنوعة وخصبة دائماً، أتنقل فيها للكتابة من دائرة لأخرى. المهم بالنسبة لي أنني أكتب، أما أين يضعني الآخر «الناقد أو القارئ» فهذا لا يؤثر في كتابتي.
مها حسن: «قريناتي» أسطورةٌ شخصية تعيش داخلي
قالت إن لديها هُويات مُتعددة تجعلها تتنقل بحُرية في الكتابة
مها حسن: «قريناتي» أسطورةٌ شخصية تعيش داخلي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة