بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

رغم هشاشة الائتلاف الحكومي الذي بناه

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية
TT

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

الصحافي البارز يائير لبيد، كان لسنين طويلة في مواجهات يومية مع السياسيين الإسرائيليين على صفحات الصحف وعلى شاشات التلفزيون، وكان يعود إلى البيت فيدخل في جدالات مريرة في بيته، مع والده تومي لبيد، الذي انتقل هو أيضاً من الصحافة إلى السياسة وشغل عدة مناصب وزارية في حكومات اليمين. لكن الرجل يجد نفسه اليوم في قلب السياسة وفي مقدمة السياسيين في إسرائيل. وإذا نجحت خطته، فإنه سيصبح رئيس حكومتها بعد سنتين وبضعة أسابيع.
خطة لبيد ليست هيّنة، بل تبدو شبه مستحيلة. إذ يقف له بالمرصاد لإفشالها بنيامين نتنياهو، الذي يعد ثعلب السياسة الإسرائيلية. وعلى الطريق توجد سلسلة عقبات تبدو كالجبال، يضعها ليس خصومه فحسب بل قسم من حلفائه أيضاً. لكنه ماضٍ في هذا الطريق بثبات وإصرار، وببرودة أعصاب، آخذاً على عاتقه قيادة دفة الأمور من دون التمسك بالمنصب الأول، باثاً روحاً إيجابية في الحلبة السياسية في وقت تتحكم جائحة «كوفيد - 19» بحياة الناس ويسود الانشقاق في المجتمع. يتصرف بهدوء بالغ وسط قادة كثيرين من ذوي الرؤوس الحامية. وحقاً، المعلقون الذين كانوا يعدونه إلى حد قريب، مغروراً متغطرساً، يمتدحونه الآن بشكل مفاجئ ويرونه نبتة غريبة في السياسة الإسرائيلية. بل باتوا يرون أن قدرته على تثبيت الحكومة ذات التركيبة الغريبة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع الحركة الإسلامية، باتت واقعية.

يائير لبيد، هو المحرّك الأساس للحكومة الإسرائيلية الجديدة. وعلى الرغم من أنه يقود أكبر حزب في الائتلاف، بـ17 مقعداً، فإنه رضي بمنصب «الرجل الثاني» وسلّم نفتالي بنيت المنصب الأول، مع أن الأخير يقود حزباً صغيراً من 7 نواب أحدهم تمرّد عليه، فبقي مع 6 نواب.
لبيد فعل ذلك لضرورات المعركة ضد بنيامين نتنياهو، لكنه مقتنع بخطوته حتى بوجود احتمالات طعنه من بنيت عبر فرط الائتلاف الحكومي، قبل أن يتسلم لبيد رئاسة الحكومة. فما الذي يفكر فيه لبيد؟ وما الذي يجعله يخوض مغامرة كهذه؟ وهل هو يسير في طريق مُجدٍ من نوع جديد؟

- سيرته الذاتية
في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) القريب، سيبلغ يائير لبيد الثامنة والخمسين من العمر. وهو ولد لعائلة ضالعة في الأدب والسياسة معاً. والده تومي يوسف لبيد كان أيضاً كاتباً صحافياً بارزاً وحاداً، ووالدته شولاميت أديبة متفرغة. الأب من أصول صربية، والأم من أصول رومانية.
العائلتان خبرتا معاناة اليهود في أوروبا تحت الحكم النازي، ثم إن والد تومي لبيد قُتل في معسكر اعتقال وإبادة في بولندا. وتركت هذه القصة جرحاً عميقاً في العائلة. وبعدما هاجر إلى إسرائيل عام 1948، اشتغل تومي في الصحافة، ثم انتقل إلى السياسة، وأسّس حزباً بقيادته وتولى عدة مناصب وزارية وعُرف بحدّة لسانه وشدة علمانيته وحربه الشرسة على المتدينين.
يائير، هو الابن البكر للعائلة، ومع أنه وُلد في تل أبيب، فقد تربّى وترعرع في لندن، حيث كان الأب مراسلا لصحيفة «معريب». وبعدها أمضى شبابه في تل أبيب، وتخرج في مدرسة «جيمناسيا» العبرية الرفيعة في مدينة هرتسليا، شمالي تل أبيب. ومع أنه كان تلميذاً ناجحاً، فقد تميز بالاستقلالية وحتى التمرد وترك بيت والديه في سن مبكرة وبرز كملاكم هاوٍ ولكن معروف جداً.
أيضاً، رغم ابتعاده عن بيت والديه، فإنه اكتسب منهما مَلَكة الكتابة، وأمضى خدمته العسكرية في العمل الصحافي. وعندما تسرّح من الجيش، تابع مسيرته الإعلامية والأدبية وعايش المجتمع الفني والثقافي. وكانت حصيلة هذه المسيرة، العمل مراسلاً في صحيفة «معريب»، التي عمل فيها والده. ثم في عام 1988 محرراً للصحيفة المحلية «صحيفة تل أبيب». وفي عام 1991 أصبح كاتب عمود أسبوعي في مجلة نهاية الأسبوع، بدايةً في «معريب»، ثم في الصحيفة ذات الانتشار الأوسع في البلاد «يديعوت أحرونوت».
وفي عام 1995 عمل مقدّم برنامج الاستضافة الرئيسي في القناة الأولى، التي كانت تبث ليلة السبت. ومنذ عام 1997 قدم برنامج اللقاءات «يائير لبيد مباشر في العاشرة». وبين 2000 و2008 قدّم برنامج الاستضافة ذا الشعبية «يائير لبيد». وفي عام 2008 بدأ بتقديم برنامج الأخبار الذي يحظى بشعبية واسعة في إسرائيل، في أيام الجمعة، بعنوان «استوديو الجمعة» في القناة الثانية.
وفي المجال الأدبي أصدر11 كتاباً، من بينها: «الرأس المزدوج»، و«الأحجية السادسة»، و«المرأة الثانية»، ورواية بعنوان «غروب الشمس في موسكو»، كذلك كتب السيرة الذاتية لوالده «ذكريات بعد موتي: قصة يوسف (تومي) لبيد». ولعب أدواراً تمثيلية في أعمال سينمائية إسرائيلية.

- اقتحام السياسة
في عام 2011، بعدما بلغت حملة الاحتجاج الشعبي ضد حكم نتنياهو أوجها ونزل أربعمائة ألف مواطن يهتفون بإسقاط النظام، لمع نجم يائير لبيد وراح كثيرون يتوجهون إليه بأن يترك الإعلام وينتقل إلى السياسة.
كان أول من اكتشف هذه المواهب فيه هو نتنياهو نفسه، الذي رآه خطراً على كرسي حكمه. ولذا سنّ قانوناً يقضي بمنع رجال الإعلام والجيش والقضاء من الترشح للكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، إلا باستقالة الشخص وبقائه لمدة سنتين بعيداً عن موقع القيادة.
وعندما شعر لبيد بأن نتنياهو يخافه لهذه الدرجة، أدرك أنه الرجل المناسب لتغيير الحكم... فانطلق؛ إذ استقال من التلفزيون وباشر في تأسيس حزب خاص به سماه «يوجد مستقبل». واختار لقيادة الحزب مجموعة من الشخصيات المعروفة على نطاق محدود، الذين يقبلون به قائداً للحزب من دون انتخابات لثلاث دورات انتخابية. ووضع حزبه في خانة يمين الوسط الليبرالي، رافضاً أن يصنَّف يسارا. وحقاً، مع مرور الوقت اتخذ مواقف يمينية بحتة أكدت توجهه.
عام 2013 كان حزب لبيد مفاجأة الانتخابات، إذ حصل على 19 نائباً، وأصبح بذلك ثاني أكبر حزب في تلك الدورة، بعد الليكود، وأول حزب ليبرالي. وفي المقابل، هبط يومها نصيب حزب العمل، مؤسس الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، إلى 15 مقعداً، وأيضاً انهار حزب «كديما»، الذي أسسه أرئيل شارون وإيهود أولمرت وفاز بالحكم دورتين، فهبط إلى مقعدين. وبدا أن لبيد نجم صاعد في السياسة الإسرائيلية.
على الأثر، نتنياهو أقنعه بالانضمام إلى الائتلاف الحاكم معه ودفعه إلى منصب وزير المالية، الذي يعد عادةً مدفن السياسيين. ووقع لبيد في هذه المصيدة، إذ انتهز نتنياهو أول فرصة فأقاله من منصبه بعد 19 شهراً، وقاد إسرائيل إلى انتخابات مبكرة. ولكن كملاكم يواجه خصماً أقوى منه، وقف لبيد على رجليه وتلقى ضربة تلو الأخرى. وفي هذه الانتخابات تراجع حزبه إلى 11 مقعداً. وهنا اختار لبيد البقاء في المعارضة، رافضاً عروض نتنياهو الانضمام مرة ثانية إلى حكومته... وبدا مشروعه الاستراتيجي لإسقاط نتنياهو.
الانطباع الأوّلي عن لبيد في تلك المرحلة كان أنه ما زال صغيراً أمام الكبار (على الأقل، هكذا تعامل معه نتنياهو) ولم يعد يشكل تهديداً جدياً للفوز بالسلطة. لكن من جهته، سار لبيد على طريق النمل. يعمل بهدوء بالغ. يغرس عميقاً في الأرض. ويؤسس لمفاهيم جديدة في العمل السياسي. يُكثر من التشاور مع السياسيين السابقين، خصوصاً أولئك الذين عملوا مع نتنياهو ويعرفون مواطن ضعفه، مثل إيهود أولمرت ودان مريدور وتسيبي ليفني. وفي تلك الفترة تعرف إلى نفتالي بنيت، رئيس حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف وشريكته إييليت شكيد، وهما الشابان اللذان عملا موظفين لدى نتنياهو... شكيد مديرة مكتبه وبنيت رئيس طاقمه. لكن نتنياهو تخلص منهما لاحقاً لأنهما اختلفا مع زوجته سارة. وبالتالي، أقام لبيد معهما شراكة غريبة، أطلق عليها «الإخوة اليهودية».
بعدها جنّد لبيد مجموعات من الشباب يحثهم على بدء المسار نحو قيادات شابة، وكان أول السياسيين الذين استخدموا الشبكات الاجتماعية في طرح الأفكار وتجنيد المؤيدين. وراح يتعاطى مع الشباب بروح تلائم طروحاتهم، وقال لهم: «أنا أفهم تلبُّككم ما بين اليمين واليسار، وأقدم لكم سياسة تدمج ما بين اليمين واليسار. فكلنا شعب واحد. أنا يميني في كثير من القضايا ويساري وليبرالي في قضايا أخرى».
وعلى الأرض، ترجم هذه المقولة إلى مواقف سياسية أيضاً. فهو وزير مالية في حكومة رأسمالية راديكالية، لكنه طرح مواقف ترفع شعار «العدالة الاجتماعية للطبقة الوسطى». وهو يؤيد «حل الدولتين» و«الانفصال عن الفلسطينيين»، لكنه يعد هذا الموقف «الضمان لبقاء إسرائيل ذات أغلبية يهودية»، ولا يقبل بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 ويؤمن بوجوب إبقاء كتل استيطانية كبيرة ضمن حدود إسرائيل.
وفي انتخابات 2013 اختار لبيد أن يعلن عن برنامجه السياسي في جامعة مستوطنة أرئيل بالتحديد، التي تعد مدينة استيطانية في قلب الضفة الغربية وقائمة على أراضي نابلس. وهو ينادي بالتجنيد الإجباري لليهود المتدينين والعرب، وعُرف عنه معارضته وتطبيقه سياسة ضد منح امتيازات لليهود المتدينين واتهامهم بالتطفل على الدولة والبطالة.
وهو يقول إنه يؤيد المساواة للمواطنين العرب، لكنه أفشل احتمال تشكيل حكومة تستند إلى تأييد الأحزاب العربية. وفقط بعد الانتخابات الأخيرة، بعدما بادر نتنياهو إلى التفاوض مع الحركة الإسلامية برئاسة منصور عباس، غيّر لبيد رأيه وسار على طريق نتنياهو وضم إلى ائتلافه الحكومي تلك الحركة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.

- المستقبل
يائير لبيد اليوم هو «رئيس الوزراء البديل» ووزير الخارجية وشريك نفتالي بنيت في قيادة الائتلاف. وهو يحرص بشدة على التعامل مع بنيت كقائد أول، ويقول: «لدينا رئيس حكومة واحد هو نفتالي بنيت».
المقربون منه يقولون إنه اتفق مع بنيت على أن يحرص الوزراء على إطراء بعضهم بعضاً، كي يقدموا نموذجاً لحكومة جديدة تختلف عن الحكومات السابقة، خصوصاً عن حكومة نتنياهو. وهو شخصياً كان قد التزم قبل خمس سنوات بأن يحافظ على طهارة اللسان فلا يهاجم أي خصم بكلمات لاذعة أو جارحة.
وعندما وصل إلى أبوظبي امتدح خصمه اللدود نتنياهو، وقال: «أشكر باسمنا جميعاً رئيس الحكومة السابق، الذي كان مهندس اتفاقيات أبراهام وعمل على تحقيقها دون كلل. وهذه اللحظة له ليس أقل مما هي لنا». ومع أن نتنياهو ورفاقه في قيادة الليكود لم يحترموا هذا الإطراء وراحوا يهاجمون لبيد بقولهم «إنه يقطف ثمار ما فعل نتنياهو»، واستخفّ نجل نتنياهو بلغة لبيد الإنجليزية وكتب: «لغة ركيكة يخجل منها تلميذ في الصف الثامن»، ردّ لبيد بالقول: «لن أغيّر من طباعي في قول الصدق حتى لو تصرفوا بهذا الجحود. لقد قلت لكم إننا في عهد جديد، ولن ينجح أحد في إعادتنا إلى الوراء لأيام بث الكراهية والأحقاد».
يائير لبيد ملاكم معروف، يمارس هوايته هذه حتى اليوم.
مشيته مشية ملاكم. ويقول معارفه إنه يتصرف كملاكم في السياسة أيضاً، لكنه هنا يضيف قانوناً جديداً إلى الحلبة، قانون النفَس الطويل. فما بين الضربة والضربة، يتريث أكثر من الوقت المسموح ويسجل النقاط. ولا يهمه أن ينتظر سنتين حتى يوجه الضربة القاضية.
أما الأسئلة التي تنتظر إجابات عنها فهي: هل يصمد لبيد في هذه المزايا ويحافظ على حكومته ذات التركيبة المتناقضة؟ وهل تصمد حكومته حتى نوفمبر 2023، لكي يأتي دوره ويصبح هو رئيس حكومة؟ وهل تنفع مواهبه في الملاكمة في تغيير قوانين اللعب وتوجيه الضربة القاضية إلى نتنياهو، قبل أن ينقضّ عليه الأخير ويعيده إلى خارج الحلبة؟


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.