في مشروع لدراسة صورة العربي غير النمطية في الأدب الصهيوني، صدر حديثاً للناقد الدكتور حاتم الجوهري، المشرف على المركز العلمي للترجمة بهيئة الكتاب المصرية، كتاب «الصمود... الصورة غير النمطية للعربي في الأدب الصهيوني»، عن دار «خطوط وظلال» الأردنية، ويطرح الجوهري خلال فصوله عدة تساؤلات يشكل في نهايتها صورة غير نمطية للعربي في الأدب الصهيوني، يرى أنها كانت حاضرة فيه منذ فترة طويلة، لكن لم يلتفت لها الباحثون العرب لوقوعهم في أسر صورة نمطية سلبية.
وتبرز أهمية الكتاب في تركيزه على مجموعة نماذج شعرية صهيونية استشرافية اختارها الجوهري للشاعر الإسرائيلي «ديفيد أفيدان: 1934 - 1995»، وقام بترجمتها بنفسه، وقدم من خلالها قراءة مغايرة تماماً لصورة العربي السلبية الشائعة في الدراسات العربية التقليدية للأدب الصهيوني، وهي صورة تتسم بالصمود وتحين الفرصة لاسترداد الحقوق.
تراجع صورة الضعيف
يسلط الجوهري الضوء على جانب في العقلية العبرية تجاهلته آلة دعايتها التقليدية في إسرائيل، وظل مسكوتاً عنه، وتتركز مصادره في مختارات أفيدان الذي اتخذه الجوهري أنموذجاً معبراً عن العقلية الصهيونية، ليضع يده على صورة جديدة مفاجئة للإنسان العربي في الأدب والشعر الصهيوني، إذ يقول: «إن السائد في المفاهيم والدراسات العربية عن الصورة النمطية والذهنية للعرب في الثقافة الصهيونية وأدبها يتشكل في نمطين: يأتي الأول من جانب اليمين الصهيوني الذي يري العربي إجمالاً بصورة سلبية، كعنصري وبربري ومتطرف وشهواني وفظ غليظ الطباع؛ أما الثاني، فيأتي من اليسار، ويراه ضحية مسكينة في حاجة للدعم والمساندة، وهي صورة تركز على مدخل إنساني في علاقتها به كشريك محتمل للسلام، وتصوره عاجزاً مغلوباً على أمره».
وكشف الباحث في كتابه عن صورة للعربي تتجاوز الصورة النمطية لليمين واليسار التقليديين، وهي صورة العربي الذي ينتظر لحظة الانتفاض والتمرد الوجودي على القهر الصهيوني، وهي صورة يشير الكتاب إلى أنها ارتبطت بتيار ظهر في الأدب الصهيوني بعد قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وحرب النكبة عام 1948 التي قضت على مشروع دولة الاحتلال التقدمي عند الصهيونية الماركسية، وأفكارهم عن دولة مشتركة بين العرب واليهود ترفع شعار الماركسية الأممية في الشرق الأوسط، وقد تحول قطاع كبير منهم لفكرة «العدمية الصهيونية»، وبني صورة غير نمطية للعربي الذي ينتظر لحظة استرداد حقه من الصهيونية التي فرضت هيمنتها عليه.
مواقف فكرية وسياسية
وتعبر المختارات عن المراحل العمرية المختلفة التي كتب فيها «أفيدان» الشعر، وقام مؤلف الكتاب باختيار القصائد وفق عدة معايير، أهمها الشهرة والذيوع، إذ سميت باسمها بعض الدواوين، وأخرى ارتبطت بمواقف فكرية أو سياسية معينة، وأخيراً القصائد التي تستكمل الصورة الكلية وترسم الإطار وتعبر عن الموضوعات المختلفة، وكان الهدف من هذه المعايير تحقق التنوع في اختيار القصائد، ومحاولة الوصول إلى صورة متكاملة عن عالم أفيدان الشعري، وهو ما ظهر في قصائد «الحل النهائي للمسألة العربية»، و«تجارب في الهستيريا» التي يقول فيها:
هناك أناس لا يملكون شيئاً ليخسروه،
هناك أناس
لا يملكون شيئاً.
ما الذي لا يملكونه؟ ما الذي
لا يملكونه ليخسروه؟
هناك أناس بداخلهم قنبلة موقوتة،
لديهم
وقت على وشك الانفجار. ما
الذي أوشك داخلهم؟ ما
الذي يملكونه ليخسروه؟
وحرص الباحث على أن تعبر المختارات عن معظم المجموعات الشعرية لـديفيد أفيدان التي كتبت على مدار حياته، وقد اعتمد على نسخة أعمال الشاعر الكاملة التي صدرت في 4 أجزاء متوالية بين عامي 2009 و2011. وغطى كل جزء منها فترة معينة في حياته، فكان الأول للأعمال التي نشرت في الفترة 1951 - 1965، والثاني في الفترة 1968 - 1973، والثالث في الفترة 1974 - 1978، والرابع (الأخير) في الفترة 1985 - 1991.
ولفت الجوهري إلى أن أفيدان ينتمي لما يسمى «جيل الدولة»، وهو مصطلح أطلق على أدباء ما بعد حرب النكبة عام 1948 التي أدت فظائعها لإصابتهم بصدمة، ووضعتهم في مأزق وجودي، فكان رد فعلهم المباشر هو التمرد الآيديولوجي الوجودي، ورفض الشكل العنصري الذي آل إليه مصير الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، وراحوا بأعمالهم الأدبية يستشرفون المستقبل والمصير الغامض لوجودهم.
وأشار إلى أن أبرز سمات تيار «الصهيونية العدمية» التي انتمى إليها أفيدان في الأدب العبري الحديث تتمركز حول التوجه العبثي والوجود القلق، والنظرة للعربي بخوف، وانتظار انتفاضته الكامنة لاسترداد ما له، والشعور بغياب المعايير والقيم، والتشبع بفكرة اللامبالاة والانكفاء على الذات، والتخلي عن البعد الجماعي، ويعد هذا أحد أبرز الاتجاهات الأدبية في إسرائيل، ويمثل سمة مشتركة وإحدى الصفات الشائعة بين تيارات الأدب هناك.
استشراف المستقبل
ذكر الجوهري أن أفيدان قدم من خلال قصائده الذات العربية بشكل أقرب لرؤية الفلاسفة الذين يتجاوزون سطحية الوقائع المباشرة، وينظرون في مكونات المعادلة، ويبحثون في قدرتها على الاستمرار، وهنا ظهرت له صورة العربي بصفته مصدراً للقلق وذاتاً مستلبة لا بد ستنتفض في يوم ما.
ويتميز شعر ديفيد أفيدان بتأثره بالفنون المسرحية وصوت الجوقة، وكذلك القطع السينمائي، والسرد وحضور شخصية الراوي في بعض القصائد، كما أنه يستخدم الأسلوب الصحافي، فيكتب القصيدة الأقرب للتلغراف أو التقرير الإخباري. أما على مستوى التصوير والبلاغة والتخييل الشعري، فيذكر الباحث أن أفيدان لم يهتم كثيراً ببناء الصور والأخيلة الشعرية التقليدية، بقدر استخدامه للخطاب اليومي والتفاصيل الحياتية العادية، وكان استخدامه للبلاغة هادئاً، ولجأ إلى المفارقة لخلق نوع من الدهشة عند المتلقي، من خلال صدمة الواقع والسخرية منه، واستخدام المفردة ونقيضها، ولكن هذا لم يمنع استخدامه للصورة الشعرية والخيال، وجاءت لغته بسيطة غير معقدة إلى حد بعيد، وكان يستخدم التكرار أحياناً، فيكرر مفردة أو جملة، ويدور حولها في بعض أشعاره للفت الانتباه.
وقال الجوهري إن أفيدان استخدم التراث ووظفه في قصيدته، وصنع علاقة بينه وبين الحاضر، من خلال استلهامه للتراث اليهودي الديني والتاريخي والشعبي، كما استخدم الرمز ووظفه في قصائده، وتحفل قصائده بمفردات ترتبط كلها بالحقل الدلالي لرمز البيت. وفي السياق نفسه، استخدم مفردة المدينة، وتحدث عن سقوط الجدران، وانهيار حوائط البيت، في إشارة إلى سقوط الصهيونية في فلسطين، ويمكن ملاحظة ذلك في قصيدة «حرب خاسرة»:
كان أحدهم نمراً عجوزاً ذا نظارات
غير خفيف الحركة ليس مفترساً
ولا قوياً.
عضَّ البندقية والمقبض
فأطلقت البندقية النار ولم تتوقف.
في مكان ما سدوا عليه جميع الجهات
ووضع الموت حصاراً من حوله