«نعيمة سميح... أثراً تونسياً» كتاب يحتفي بالمشترك الثقافي المغربي ـ التونسي

شهادات عن «بحة الشجن الطروب»

«نعيمة سميح... أثراً تونسياً» كتاب يحتفي بالمشترك الثقافي المغربي ـ التونسي
TT

«نعيمة سميح... أثراً تونسياً» كتاب يحتفي بالمشترك الثقافي المغربي ـ التونسي

«نعيمة سميح... أثراً تونسياً» كتاب يحتفي بالمشترك الثقافي المغربي ـ التونسي

تثميناً للمشترك الثقافي المغربي - التونسي، أصدرت السفارة المغربية في تونس، في إطار سلسلة منشورات «غبطة الجوار»، كتاباً تكريمياً للفنانة المغربية الكبيرة نعيمة سميح، تحت عنوان «نعيمة سميح... أثراً تونسياً...شهادات عن بحة الشجن الطروب».
وجاء اختيار تجربة نعيمة سميح لتكون محور شهادات مغربية وتونسية «تقتفي أثرها داخل ذاكرة أجيال» من التونسيين والمغاربة، لقيمتها الفنية التي تلخص لها عشرات الأغاني الشهيرة، من قبيل «جْريت وجاريت» و«غاب عْليا الهلال» و«البحارة» و«جاري يا جاري» و«جيت لبابك» و«أمري لله» و«وعدي» و«عْلى غفلة» و«شفت الخاتم» و«شْكون يْعمر هاذ الدار»، فضلاً عن تميزها في أداء أغاني بلهجات عربية، على غرار اللهجة الخليجية في أغنية «واقف على بابكم».
رأت سميح النور في الدار البيضاء سنة 1954، بدأت مسيرتها الفنية في سبعينات القرن الماضي، قبل أن تفرض سريعاً قيمتها ويتعدى الإعجاب بها حدود المغرب، ليصل إلى باقي الدول العربية؛ وذلك بفعل بحة صوتها وتميز أدائها واختيارها الموفق للكلمات والألحان.
وأجمعت شهادات الكتاب والإعلاميين والموسيقيين المساهمين في الكتاب، من تونس والمغرب، على ثراء وتميز تجربة سميح، وشددوا على أنّها تبقى من أبرز عناوين المشترك الثقافي المغربي - التونسي، ببعد مغاربي وعربي.
ومن بين المشاركين الـ29 في الإصدار الجديد، نجد: عتيق بن الشيكر، وعمر أوشن، ولحسن لعسيبي، وعبد الرحيم الخصار، وعزيز بودربالة، وعبد العزيز كوكاس، وسميرة مغداد، وحياة الإدريسي، وأحمد لمسيح، وأسمهان عمور، وأحمد الدافري، وسعيد عاهد من المغرب، فضلاً عن مساهمات تونسية لعدد من الموسيقيين والإعلاميين، من قبيل صابر الرباعي وفتحي رغندة.
ومما جاء في شهادة جميلة للشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار، تحت عنوان «نعيمة سميح... سيدة الطرب المغربي»: «الأصواتُ العظيمة فريدة جداً، والكاريزما هي العملة النادرة. أما حين يرفع الصوتُ الشجنَ إلى مقام اللذة، جارفاً معه الحنينَ والحب والفرحَ والألم، فتلك حالة لا يصل إليها إلا الذين وهبتهم السماء أسرارها. نعيمة سميح صوتُ الأصوات في أرض المغرب وسمائه، صوتٌ عميق في التاريخ، وشاسع في الجغرافيا. كأنه يجري مع أنهار البلاد، ويسري مع نسيمها، يهطل مع الثلج والمطر، ويتناغم مع تغاريد الطيور في أعشاشها. صوت عميق وواضح وصادق. إنه الصوت الذي يشبهنا ويقولُنا ويترجم ما يعتمل بدواخلنا، الصوت الذي يحافظ على سطوته سواء وهو ينبعث من قصر أو ينساب من مذياع صغير في بيتٍ بالحي القديم. الصوتُ الذي نتبعه بحثاً عن فرحٍ مستعاد، وعن بهجة تصير مع السيدة نعيمة سميح غيرَ مستحيلة».
وتفاعل الإعلامي أحمد الدافري مع خبر صدور الكتاب الجديد، مؤكداً سعادته بالمساهمة فيه، فكتب على حسابه بـ«فيسبوك»: «أسعدني كثيراً أن أكون واحداً من المشاركين في هذا الكتاب، بدعوة من السيد حسن طارق، سفير المملكة المغربية بتونس، الذي يسعى إلى تقوية العلاقات الثنائية بين البلدين من خلال الثقافة والفن والأدب. نعيمة سميح هي بالفعل أثر تونسي جميل. هنيئاً لنا بفنانتنا الرائعة التي سافرت بالفن المغربي خارج الحدود، وجعلت له عشاقاً في باقي الأوطان».
ومما جاء في كلمة ظهر غلاف الكتاب «في القصة الكثير من الحب والعشق والوله. وللحب بداياته الآسرة دائماً. كان ذلك في منتصف الثمانينات عندما ستقرر مؤسسة السكك الحديدية التونسية دعوة الفنانة المغربية لإحياء احتفالية بمناسبة ذكرى تأسيسها. ذلك أنّ هذا الاسم كان قد بدأ في بناء أسطورته الصغيرة خارج حدود المغرب، والإعجاب العارم بالبحة الشجية كان يسري في عروق الجماهير التونسية التي اكتشفت الصوت النادر عبر الإذاعات وقليل من التسجيلات التلفزيونية. ما كان ينقص هو فقط شرارة الإعلان عن حب يبدو كبيراً، والشرارة المشتعلة كانت في حاجة فقط إلى اللقاء الأول. وكان اللقاء عظيماً على صورة الحب الكبير الذي يجمع من يومها بين الفنانة المغربية وجمهورها التونسي. في التفاصيل التي يمكن إعادة تركيبها من شهادات من حضر لسهرة القبة (قبة المنزه بقصر الرياضة في العاصمة) تجتمع كل مقومات اللقاء الغامض الذي يصنع علاقة سحرية بين جمهور عاشق ونجم يقيم بين الأرض والسماء».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)