العنف وأقنعته في الرواية العربية

رشا الفوال ترصد أشكاله في 4 أعمال

العنف وأقنعته في الرواية العربية
TT

العنف وأقنعته في الرواية العربية

العنف وأقنعته في الرواية العربية

تقدم الباحثة رشا الفوال في كتابها «العنف من أعلى وأزمة هوية الأنا في الرواية العربية» مقاربة نقدية من منظور التحليل النفسي للعنف، كاشفة أقنعته الواقعية، وعلاقته بأزمة الأنا والهوية في تقاطعاتها ونسيجها المعقد على شتى المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، ويتم ذلك من خلال التطبيق على أربعة أعمال روائية: «أجندة سيد الأهل» للكاتب المصري أحمد صبري أبو الفتوح، و«تلك العتمة الباهرة» للكاتب المغربي الطاهر بن جلون، و«البرنيكة» للكاتب المصري طلال سيف، و«القوقعة: يوميات متلصص» للكاتب السوري مصطفى خليفة.
الكتاب صدر عن دار «ميتابوك» بالقاهرة، وتكشف الباحثة عبر آلية «الاستبطان النفسي» الأنماط المختلفة لشخصية «السجين»، ومدى تأثرها بعوامل كثيرة أهمها البيئة والوراثة، ومن أبرز ملامحها التمركز حول الذات، وانعدام الحس الشعوري بالمجتمع، والشعور بالارتياب وعدم الثقة.

- نماذج منحرفة
تحفل الروايات الأربع بالعديد من النماذج المريضة نفسياً، ففي رواية «القوقعة» يطلب أحدهم إخراج السجناء إلى الساحة، حفاة، دون ملابس تسترهم، أما «النوبتجي» مسؤول الوردية الليلية فيفعل الشيء نفسه في رواية «البرنيكة».
وترصد الفوال في كتابها استراتيجية البحث عن سند لهذا الانحراف النفسي، عبر تقنية «البراعة في اختيار رفقاء السوء»، فـ«تايسون» البلطجي في «أجندة سيد الأهل»، لا تترسخ فتوته إلا لكونه مرشداً للأمن: «الأنا المنحرف هُنا لا يكتفي بمبررات ذكية ليريح ضميره، بل يبحث عن الوسائل التي تضمن له الإشباع من الإطراء دون الإحساس بالذنب، لذلك يبكي (تايسون) عندما يرى فيديو مقتل أحد المسؤولين الفاسدين: (تايسون) الذي يبكي مقتله هو نفسه (تايسون) الذي يتلاعب بأجساد الضحايا كأنه يتلاعب بخرقة!».
وتوضح الباحثة أنه يمكن تفسير هذا السلوك وفق آلية «التوحد بالمعتدي»، فأحياناً يظهر لدى الفرد الذي اختبر التعذيب تعاطفاً مع المسؤول عن تعذيبه، وتعرف هذه الظاهرة النفسية بـ«متلازمة استوكهولم»، وهي الحالة التي تُظهر فيها الضحية الولاء والانجذاب العاطفي لمن أساء إليها، ويُفسر علماء النفس ذلك بأن الضحية تتخذ موقفاً دفاعياً لا إرادياً يخلق لديها حالة من الاطمئنان إزاء الجاني، وتُوهم نفسها بأنه لن يضرها وقد تصل هذه الحالة إلى مرحلة الدفاع عن الجاني، وهو ما يتكرر بشكل جزئي أو كلي في أكثر من رواية هنا.
وتتطرق إلى الانحراف بمعناه اللغوي الذي يفضي إلى ترك الاتزان، وكذلك الانحراف الفكري الذي قد يتمادى بصاحبه إلى أن يتحول إلى مجرم محترف. وتشير إلى تتعدد مستويات الانحراف «سيكولوجياً» انطلاقاً من شخصيته، و«سوسيولوجياً» بالنظر إليه كظاهرة اجتماعية، و«قانونياً» باعتباره سلوكاً متمرداً خارج القانون ويعود بضرر على الآخرين.
وترى الفوال أن ظاهرة الانحراف تعُم كل الطبقات داخل المجتمع، وتظهر أكثر تفشياً في الأوساط الفقيرة والمتوسطة. رفاعة في «أجندة سيد الأهل» لم يكن مُنحرفاً بطبيعته، بل تعلم استخدام السلاح وسلك سلوك المجرمين من كثرة احتكاكه بهم في فترات الحبس والاعتقال، فيقول الراوي: «من كثرة ما قبضوا عليه، ولفقوا له الاتهامات صار مسجلاً بمكاتب مكافحة المخدرات، ومع مرور الوقت صار يتحدث كما يفعل المسجلون خطراً».
الانحراف هُنا نتاج «التفاعل بين التناقضات الوجدانية»، فالمحبوس يعاني من ثنائية «الشكوى، الاكتئاب» التي تلازمه قبل أن يعتاد حياة السجن فيقول الراوي: «المحبوس يتصرف بغرابة ويندفع إلى الشكوى أثناء زيارة أهله، ثم يعاني من الاكتئاب بعد الزيارة ثم ينخرط في حياة السجن ويمارس حرفة الأمل».

- المرأة وسجن الفقد
ترصد الدراسة صورة المرأة وعلاقتها بالعنف، ففي رواية «تلك العتمة الباهرة» تتجلى صورة الأم القوية المسيطرة التي هجرها زوجها إلى ملاحقة الجميلات فتفقده إلى الأبد. يقول عنها الراوي: «قررت أن تواصل العيش وكأنه ميت، وكفت حتى عن ذكر اسمه»، والبطل «سليم» لم ينكر إعجابه بشخصية أمه وعنادها الذي ورثته من أمها، التي كانت تُلقب بـ«الجنرالة»، فهي «شخصية طاغية، شديدة القسوة مع الرجال، بالغة الرقة مع أولادها، مدركة حقيقة الأمور، ترى العالم من دون أوهامه»؛ فبدون عاطفة حب الأم في الرواية تتداعى أركان النفس وتقل قدرتها على مجابهة القمع والمقاومة من أجل البقاء، وفي ذلك يقول الراوي «كنت أتوغل في صمت الجسد وسكونه، أتنفس عميقاً وأدعو النور الأسمى الكامن في قلب أمي». ويعادل الانفصال هنا عن الأم الانفصال عن الصورة في المرآة.
وفي رواية «القوقعة»، نرى المرأة حاضرةً بقوة في أحلام اليقظة، فالسجن هو المرأة، هو غيابها الحارق، يقول الراوي في ذلك: «في كل حلم يقظة تكون المرأة حاضرة دوماً، تشعل خلايا الجسد، كل النساء اللواتي مررت بهن، أو مررن بي، أكثر اللحظات حميمية أستعيدها»، كما نلاحظ أن أغلب حديث السجناء عن المرأة جاء مقترناً بعلاقتها بالرجل؛ فالمرأة عند الرجل هي نظير الحياة من خلال عاطفة مركبة الأحاسيس يمتزج فيها الأمل باليأس.
بينما تركزت صورة المرأة في رواية «البرنيكة» في شخصية الأم التي تتوقع اعتقال ابنها عبر حُلم تراه، «رأيتك بين كلاب سوداء، ينزعن عنك قميصك، صرخت فيهم أن اتركوه، فأتى رجل بلوري أبيض، وقال دعيه يسدد دينه». تُسدي الأم لابنها النصائح طوال فترة اعتقاله فتعنفه بصوتها المُنهك بفعل الزمن وتقول: «لا أحد يقف في وجه الريح، العين لا تعلو على الحاجب، لا تعارضهم يا ولدي».

- صورة الأب
تتمثل تلك الصورة فيما يراه الابن ذهنياً لصورة والده التي تكونت من خلال التنشئة الاجتماعية، والروايات محل الدراسة زاخرة بصور متعددة للآباء، ومنها «الأب العدواني الرافض»، كما في حالة والد «سليم» بطل «تلك العتمة الباهرة»، الذي يصفه الابن قائلاً: «أبي، المقبل على العيش، الأناني حتى الأذية، الغندور الذي نسي أنه رب أسرة، وراح ينفق كل ماله على الخياطين الذين يفصلون له جلباباً من حرير كل أسبوع لكي يتبختر في قصر الباشا الكلاوي». علاقة الأب والابن هُنا تحيلنا إلى طبيعة العلاقات السلطوية الحاكمة في معظم العائلات العربية.
وهناك نموذج الأب «المعطاء دون مقابل»، كما في حالة «صابر»، في رواية «أجندة سيد الأهل»، الذي أطلق على ولده الأول اسم «رفاعة» تيمناً باسم الرائد التنويري «رفاعة الطهطاوي»، والذي ترك لأولاده مكتبة فيها عوالم مدهشة من المعارف، كما تقدم الرواية نفسها نموذجاً آخر هو الأب «المفرط في التدليل» كما في حالة «محمود القاياتي» الذي سعى لتوفير كل سبل الحياة الكريمة لأولاده لينشأ الابن «عبد العزيز القاياتي» دون محاسبة، ويتفنن في العبث بالسيارات مما سبب له حادثاً «خرج منه مدججاً بشرائح ومسامير في رجليه وحوضه، وانفصالاً في الشبكية استدعى سفره إلى ألمانيا لزراعة شبكية جديدة».
ورغم كل التدليل الذي غمره به والده إلا أنه كان «يكره أن يلجأ إليه»، وتقدم الرواية أيضاً نموذج الأب «المتبع لأساليب ضبط عقابية»، كما في حالة «شاكر عبد الفضيل الحسيني» الذي فعل كل التدابير الممكنة ليتقدم ولده «مجدي الحسيني» في دراسته، لكن جهوده باءت بالفشل؛ فولده قصير القامة وضئيل الحجم، أضحوكة زملائه، إلى أن تمكن من تدبير لجنة خاصة بفضلها حصل الابن بموجبها على شهادة الثانوية العامة ومنها إلى كلية مرموقة بفضل المحسوبية والواسطة. يرفض الابن الزواج من ابنة صديق والده الثري من باب تأكيد الذات؛ وهو الأمر الذي دفع والده لاستخدام كافة أنواع العنف معه.
كما يهدده بنقله من عمله المريح بالقاهرة إلى المحافظات الجنوبية النائية، أيضاً تقدم الرواية نموذج الأب «السيكوباتي»، كما في حالة «عبد المنعم بيومي» تاجر المخدرات الذي يعلم ولده «صفوت» أصول مهنة «الناضورجي»، المراقب الشهير في هذه المهنة. وكيف ينتقي ضحيته، وألا يعول على الشرف، «فالشرف الحقيقي لتاجر المخدرات هو أن يتفادى السقوط في يد الشرطة!».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!