هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

نموذج لتنقّلات أهل الجزيرة العربية عبر القرون

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم
TT

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

مع قلة الأقلام التي تناولته بعمق، وبسببٍ من أهميته التاريخية والثقافية، ظلّ موضوع هجرات أهل الجزيرة العربية - شمالا نحو العراق وبلاد الشام وفلسطين وتركيا وآسيا، وشرقا نحو شبه القارة الهندية وجزر الملايو، وغربا نحو أفريقيا وأوروبا وأميركا، وتواصلهم الثقافي والاجتماعي مع شعوب تلك الجهات - ظل يستأثر ومنذ سنوات بحيّز من تفكير كاتب هذا المقال واهتماماته، وكانت مسألة الصلات مع جنوب شرقي آسيا استثناءً وحيدا خصّته بعض الكتابات القديمة والحديثة في التراثين الإندونيسي والحضرمي، وهي الصلات التي تمثّلت في الهجرات الحضرمية القديمة إلى جزر (أرخبيل) الملايو، وفي بعثات أُوفدت للدعوة والدعاية في تلك النواحي لأغراض دينية وسياسيّة.
والمقصود ببلاد الملايو هنا هي تلك المنطقة التي أصبحت سياسيّا بعد نيلها الاستقلال تعرف بإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وما حولها.
لكن المقال لن يعرض للصلات الدينية والثقافية بين بلاد الحرمين الشريفين (الحجاز) وبلاد الملايو، على اعتبار أن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا ومنذ البعثة المحمدية على صلة بشرية وروحية بكل بلدان العالم الإسلامي دون استثناء.

تمثّل هجرات الحضارم إلى جزر الملايو - عند الحديث عن علاقات العرب مع بلاد الشرق - الصلات الأوثق والأقدم والأوسع، وهي صلات ينسب لها الفضل الأكبر في انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا مرورا بالهند، وقد كتب الكثيرون من مثقفي حضرموت وبلاد الجاوة عن هذه الظاهرة ومظاهرها وجوانبها الاجتماعية والتراثية والاقتصادية والثقافية، وأُلّفت العشرات من الكتب وأُنتجت أفلام توثيقية عنها، تحدثت عن أن الحضارم الموجودين في المهجر الشرقي والشمالي والغربي يزيدون عددا عن أهلهم في الوطن الأصلي، وتحدثت عن قدرة بلاد الجاوة على استيعاب تلك الهجرات والتعايش الفريد بين مختلف الثقافات والأعراق.
وحضرموت اليوم - التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف المليون وتمثّل إحدى المحافظات الجنوبية لليمن ومن أبرز مدنها وموانئها المكلا (العاصمة) والشحر وتتبع لها جزيرة سقطرى - كانت تشكّل أكبر من ذلك جغرافيّا وتاريخيّا، وقد هاجر جزء كبير من أهلها نحو الشمال وبخاصة نحو المملكة العربية السعودية، ونحو الشرق عبر البحر الأحمر إلى زنجبار وإثيوبيا والصومال ومدغشقر.
ولا توجد معلومات مؤكدة عن بدايات الهجرات الحضرمية إلى أرخبيل الملايو، لكن من المرجّح أن تكون بدأت في أثناء القرن الثالث الهجري (الثامن الميلادي) وهناك كتابات تذكر أن هجرات الحضارم بدأت تتجه شرقا نحو الهند ومنها إلى بلاد الجاوة قبل ظهور الإسلام، وتقول بعض المصادر إن أفرادا من طبقة السادة العلويين كانوا طلائع المهاجرين في العهود الإسلامية ثم لحقت بهم طبقات أخرى، وقد انتقلت تلك الخصوصية من «الطبقيّة الحضرمية» إلى المنازل الجديدة في جنوب شرقي آسيا (إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وجنوب الفلبين وتايلاند وبورما) وتنتشر الأكثرية من الأصول الحضرمية اليوم في جاكرتا (بتافيا) وبعض المدن الإندونيسية.
وإذا ذكرت الهجرات الحضرمية إلى شرق آسيا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أمران: انتشار الإسلام عبر السلوك، وحسن التعامل في النشاط التجاري، لكن الواقع أن فئات من المهاجرين انهمكت في ممارسات حزبية سياسية وتكتّلات دعوية، وأصدرت تبعا لذلك في الثلث الأول من القرن الماضي نحو عشرين صحيفةً ومجلة ناطقة باللغتين الجاوية والعربية كما سيأتي تفصيله لاحقا.
ويبدو أن تلك الممارسات التي اتسمت بشيء من الفوضى وانضمّت إليها عناصر من جنسيّات عربية أخرى، قد شوّهت السمعة العالية للجنس الحضرمي عبر العصور، وذلك بظهور فريقين متنافرين هما العلويون والإرشاديون، وكان لكل فريق توجهات سياسية وعرقية وعقدية متباينة بلغت ذروتها في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، وقد توسّط فيها عدد من الغيورين من مشايخ حضرموت ومن الملك عبد العزيز، ثم بدأت بالانحسار مع تطوّر النظام السياسي الديمقراطي في تلك الدول، مما ساعد على ظهور زعامات محلية وأخرى ذات جذور عربية كان لها نصيب وافر من الوصول إلى المناصب القيادية العليا في تلك الدول، وكان من الصحف التي صدرت بالعربية؛ «المعارف» (إندونيسيا 1927 م) و«حضرموت» (جزر الهند الشرقية 1924م) و«الجزاء» (سنغافورة 1934 م).
لقد كتب الكثير - وبخاصة من مثقّفي حضرموت - عن الوجود العربي في تلك الأرجاء عبر القرون سواء من قبل المستوطنين الحضارم أو ممن لحق بهم من الوافدين العرب، وفصّل الحديث عن النشاط السياسي والدعوي والإعلامي لتلك الجاليات، وكان من أبرز من تناول هذا النشاط - من غير الكتّاب الحضارم - الباحث الكويتي يعقوب يوسف الحجي في كتابه عن سيرة المؤرخ الكويتي عبد العزيز الرشيد (صدر عام 1993 م) والأكاديمية الكويتية نوريّة الرومي في كتابها عن حياة الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي (صدرت طبعته الثانية عام 1993م) ودكتور أحمد إبراهيم أبو شوك في مؤلّفه عن سيرة الداعية السوداني أحمد محمد السوركتّي (2000 م).
ومع دخول مملكة الحجاز في الحكم السعودي عام 1924م نشطت الدعايات المعادية للسعودية في كل من جزر الملايو والهند ومصر في ظاهرة امتدّت نحو عشرين عاما، وقد أسهمت تلك الدعايات - مقرونةً بتأثّر أوضاع الاقتصاد العالمي بإرهاصات الحرب الكونية الثانية - في امتناع كثير من حجاج الجاوة والهند عن القدوم للحج، متأثرين بما كان يقال عن تردّي الأمن.
وهنا بذلت أجهزة الحكومة السعودية جهودا متوالية لمواجهة الموقف، كان منها إنشاء مديريّة للدعاية للحج تابعة لوزارة الماليّة، وإيفاد مبعوثين إلى تلك البلدان، وبخاصةٍ بلاد الملايو (الجاوة) وشبه القارة الهندية ومصر، من بينهم شخصيّات سعودية وعربية موالية للعهد الجديد في الحجاز، ولديها اقتناع بسلامة نهجه العقدي.
وقد انهمك بعض هؤلاء الموفدين - على غرار من سبقهم من الحضارم - في الصراعات السياسية والطائفية والدينية، وكان منهم الكويتي عبد العزيز الرشيد، والداعية السوداني أحمد السوركتّي، والإعلامي العراقي يونس بحري، والشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، الذين كانوا ممن أوفدوا في تلك المهمّات واستوطنوا بلاد الملايو في الثلث الأول من القرن الماضي، وأصدروا مجموعة من الصحف العربية هناك، كان منها صحيفة «التوحيد» وصحيفة «الكويت» و«العراقي» و«الهدى» وغيرها.
وباستعراض ما كتب عن موضوع هذه البعثات الدعوية والإعلامية، يُلاحظ أنه لم ينل من المراجع المحلية السعودية ما يستحقّه من اهتمام، وقد سبق لكاتب هذا المقال أن تناوله من جانبه الإعلامي، بينما خصه د. محمد الربيّع ببحث من زاويته الثقافية وقد أسماه المهجر الشرقي.
ولئن عُدّت هجرات الحضارم ورحلاتهم نحو بلاد الملايو من أقدم الهجرات العربية وأشهرها، فإنها في الواقع كانت نموذجا لهجرات أخرى خرجت من الجزيرة العربية، ومنها على سبيل المثال:
1 - هجرات أسر حجازية وعسيرية من أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وأبها وما حولها إلى تركيا، وكانت إما هجرات ورحلات من نوع طبيعي بسبب التبعية السياسية للدولة العثمانية، أو من نوع تهجير قسري مما عرف باسم «السفر برلك»، ومارسته تركيا كارثيّا مع العديد من أهالي المدينة المنورة بُعيد تشغيل الخط الحديدي الحجازي عام 1908م الذي اسُتخدم في عملية تهجير أخلت المدينة المنورة من معظم أهلها الأصليين، وهناك تهجير مارسه الأتراك عنوةً ضد السعوديين وذلك بعد تدمير الدرعية سنة 1818م.
2 - ومن الهجرات والرحلات والصلات بنوعيها التجاري والثقافي، التي حظيت بشيء من الكتابات والتوثيق خلال العقود القليلة الماضية، هو ما اصطلح عُرفا على تسميته «تجارة العقيلات» وهو نوع من الرحلات على ظهور الجِمال والخيل، كان يقوم به مئات النجديين بغرض التجارة مع العراق وبلاد الشام، وإلى فلسطين ومنها إلى مصر والسودان قبل فتح قناة السويس وبعده، وأدت تلك التجارة إلى استقرار بعض أفراد هذه الجماعات في تلك البلدان ومن ثمّ إلى التزاوج مع أهلها، مستفيدة من الفرص التعليمية المتاحة في تلك النواحي.
وعلى الرغم من تكاثر الكتابات التي دوّنت تلك الرحلات مؤخّرا، فإنها لم تفلح في التوصّل إلى معلومات قاطعة حول سبب التسمية، وهل هي من عقْل الإبل أي ربطها، أم من لبس العقال في مقابل الحرّاس من الترك الذين يلبسون الطرابيش، أم نسبة إلى قبائل «بني عقيل» التي كانت لها الغلبة والإمارة في شرق الجزيرة العربية وفي نواحي الموصل مدةً من الزمن، وكان بعض أفرادها يقومون بحراسة القوافل نظير أجر؟
كما لم تفلح في تسجيل البدايات الزمنية لتلك الهجرات والرحلات، حيث من المعتقد أنها بدأت في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثم تقلّصت وتلاشت مع انتشار استخدام السيارات عند منتصف القرن العشرين، بمعنى أنها ربما استمرت نحو قرنين من الزمان.
كما لم تفلح الكتابات في تحديد حقيقة أهدافها السياسية، إذ إن المتداول عرفا في نجد أن نشاط العقيلات كان يقتصر على الأغراض التجارية ثم الثقافية والاجتماعية، وكانت تركز على بيع الإبل والخيل وتجلب الأقمشة والتوابل والبضائع الحديثة، بينما تذهب بعض المصادر إلى ذكر أدوار سياسية وعسكرية كانت تقوم بها.
ولم تؤكّد الكتابات بعدُ حقيقة ارتباط أسباب هذه الهجرات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، خاصةً إذا ما ثبت اقتران ظاهرة العقيلات مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي (بداية الدعوة).
ومهما تكن نتيجة تلك التساؤلات، فإن تجارة العقيلات كانت تمثّل في زمنها ظاهرة اجتماعية في شمال إقليم نجد وبالأخص في بلدات القصيم وحائل والزلفي، ظاهرةً ما تزال حكاياتها تُروى وتُستعاد في المجالس، شارك فيها مئات الأسر والأعيان ممن رصدت الكتابات والمدوّنات قوائم بأبرز أسمائها، وعملت مدينة بريدة بالقصيم مؤخّرا على تسمية معالم تجارية باسمها، وهي المدينة التي اشتهرت مع ضواحيها بخروج أغلب رجالات العقيلات منها.
وغير بعيد عن هجرات العقيلات - وربما من آثارها، لكنها كانت أكثر منها استقرارا وتوطّنا - هجرات النجديين إلى بلدات جنوب العراق والزبير بوجهٍ أخص، حيث تقاطرت أسر كثيرة من سدير والزلفي والقصيم واستوطنت فيها في القرنين الماضيين وربما من قبل جاعلةً من الزبير مدينةً نجديةً صِرفة، ثم بدأت تلك الأُسر بالعودة مع تقلّب الأوضاع في العراق في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي، وفي المقابل ازدهار الحياة في المملكة العربية السعودية.
ومثلما قيل عن ظاهرة تجارة العقيلات، وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن تاريخ مدينتي البصرة والزبير، إلا أنها لم تجب عن أسئلة ضبابية عن بدايات تلك الهجرات ودوافعها الحقيقية، غير تلك التي تعزوها إلى حالة الفقر التي كانت تعم نجدا في تلك الحقبة.
3 - أما النموذج الثالث من تلك الهجرات فإنها هجرات أهل الجزيرة العربية نحو الهند، وهو موضوع كتب عنه القليل جدا مع أن المعلومات المتناثرة تؤكد وجود تواصل واضح بين أهل الأحساء ونجد وعسير وبلدان الخليج عامة مع شبه القارة الهندية، كما تشير كتب التاريخ إلى الممالك العربية التي أقيمت منذ القدم فيها، والمقصود بشبه القارة الهندية هنا تلك المنطقة من جنوب آسيا التي كانت تضم الهند والباكستان وبنغلاديش قبل انفصالها عام 1947م.
وبين أيدينا سيَر وتراجم للعشرات - وربما للمئات - من الشخصيّات والأسر الأحسائية والنجدية والعسيرية، وبالتأكيد الحجازية، التي درست واستوطنت ومارست التجارة أو تلقّت تعليمها في الهند وبقي بعض أفرادها إلى الآن، إلا أن تلك المعلومات لا توضّح البدايات والدوافع لتلك الهجرات، التي كانت - على الرغم من بُعد المسافة ومخاطر الإبحار - تنطلق من سواحل الخليج واليمن وعدن، كما توجد أمامنا سير عدة لأُسر امتهنت الغوص وكانت لديها سفن مجهّزة للتجارة مع مدن الهند الساحلية، وقد ارتبطت مع المجتمع الهندي بعلاقات ثقافية وبمصاهرات، وتتحدث الوثائق التاريخية القديمة بكثرة عن واحد من هؤلاء البحّارة وهو أحمد بن ماجد بن محمد السعدي النجدي (821 هـ - 906 هـ) المنسوب إلى رأس الخيمة، وهو بحسب ويكيبيديا «ملاح وجغرافي عربي مسلم، برع في الفلك والملاحة والجغرافيا وسماه البرتغاليون (بالبرتغالية almirante‏ ومعناها أمير البحر) ويلقب بمعلم بحر الهند، وهو ينتسب إلى عائلة من الملاحين، كتب العديد من المراجع، وكان خبيرا ملاحيا في البحر الأحمر وخليج بربرا والمحيط الهندي وبحر الصين، ويتمتع بأشهر اسم في تاريخ الملاحة البحرية لارتباطه بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند حيث قام ابن ماجد بمساعدة فاسكو دي غاما لاكتشاف الطريق الجديد الموصل إلى الهند، وله الفضل في إرساء قواعد الملاحة العالمية، وبقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدة في كل من البحر الأحمر والخليج وبحر الصين حتى سنة 903 هـ وهو أول من كتب في موضوع المرشدات البحرية الحديثة». انتهى.
أما في عصرنا الحديث، فصدرت كتب عدة من بلدان الخليج تتحدث عن الملاحة والغوص، ومن بين من تذكرهم الوثائق المتأخرة اسم النوخذة عبد الله بن عيسى الذوادي (شيخ الذواودة من بني خالد) الذي عاش بين عامي 1855 و1943 م واحترف التجارة بين البحرين والهند عبر امتلاكه سفنا عدة.
وهناك العشرات من الأسر النجدية التي هاجرت واستقرت في الهند في القرن الماضي ومنها الفضل والقصيبي وآل السليمان الحمدان والسديراوي والقاضي والبسام، وقد ظهر منها عشرات الشخصيات التي تلقت تعليمها في الهند وتولّت مناصب إدارية متقدمة في المملكة العربية السعودية في فترة تأسيسها بخاصة، وهو ما يشي بالتأثير الثقافي الهندي على بلدان الجزيرة العربية في القرن الماضي ويتطلّب جهدا بحثيّا مكثّفا، وكانت ندوة عقدت قبل عامين على هامش معرض الكتاب بالرياض عن العلاقات الثقافية السعودية الهندية، في حين نشرت صحيفة «الرياض» (في عددها 15691 بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2011م) بحثا مستفيضا عن دُور السجلات الهندية في نيودلهي ومومباي وغيرهما، وفيها آلاف الوثائق عن الدولة السعودية في عهودها الثلاثة وعن الصلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بين الجزيرة العربية والهند بانتظار من يواصل البحث والتنقيب فيها.
ولا بد هنا من الإشارة إلى المخطوطات العربية المحفوظة في المكتبات الهندية، وإلى الدور الذي كانت تقوم به المطابع الهندية في حيدر آباد وغيرها لطبع كتب التراث العربي بإشراف مثقفين مهاجرين أقاموا فيها من أمثال الشاعر خالد الفرج وغيره، وكان وكلاء الملك عبد العزيز في الهند وفي مصر يقومون بطبع كتب تراثية على نفقته، وقد نوقشت مؤخرا رسالة ماجستير مسجلة في جامعة الإمام عن العلاقات الثقافية العربية الهندية، وكانت المجلة الثقافية التي تصدر عن جريدة «الجزيرة» السعودية نشرت (في عددها رقم 403 بتاريخ 18/ 4/ 2013 م) بحثا من إعداد إبراهيم المديهيش تضمّن أسماء خمسة وثلاثين شخصية نجدية درست في الهند، ومن ضمنها مجموعة من طلبة العلم الشرعي، وكان من طريف ما نشر مؤخّرا في هذا الشأن (في العدد 413 بتاريخ 28/ 9/ 2013م من المجلة نفسها) معلومة عن مخرج هندي من أصل سعودي اسمه إبراهيم حمد العلي القاضي من أُسر مدينة عنيزة التي هاجرت إلى الهند، وهو يُعدّ هناك من كبار المخرجين المسرحيين وأكثرهم تأثيرا خلال القرن العشرين، وقد أُطلق عليه - بحسب ويكيبيديا - الأب الروحي للمسرح الهندي الحديث، إضافة إلى كونه رساما ومصوّرا مهتما بالتراث والثقافة والمقتنيات والصور النادرة، وأستاذا بارزا للدراما في الهند تتلمذ على يديه بعض كبار الممثلين ونجوم السينما، ومؤسسًا لعدد من المؤسسات الثقافية، وأحد أهم الشخصيات الثقافية والفكرية في تاريخ الهند الحديث، كان والده أحد تجار نجد، الذين قضوا حياتهم في التجارة متنقّلا بين باكستان والهند وتركيا والكويت ولبنان، ثم استقر فترة من الزمن في الهند حيث ولد ابنه إبراهيم عام 1925م في مدينة بونا قرب مومباي، وقد تزوج إبراهيم من مصمّمة هندية تدعى روشان شاركت في تصميم أزياء مسرحياته، وأنجبا آمال وهي مديرة الكلية الوطنية للدراما حاليا، وفيصل ويعمل كذلك في الإخراج المسرحي.
وعودا على بدء؛
فباستثناء الكتابات التي تناولت الحالة الحضرمية في بلاد الملايو، تبقى هجرات أهل الجزيرة العربية قديما نحو الشمال والشرق والغرب بحاجة إلى المزيد من البحث والاستكشاف.

* محاضرة ألقيت في منتدى الرحمانية السنوي بمحافظة الغاط في السعودية، الخميس 9/ 1/ 2014



مخيمات الضفة... قطعة من «جحيم غزة»

TT

مخيمات الضفة... قطعة من «جحيم غزة»

نازحون يعودون لتفقد بيوتهم في مخيم جنين بعد انتهاء الاقتحام الإسرائيلي (الشرق الأوسط)
نازحون يعودون لتفقد بيوتهم في مخيم جنين بعد انتهاء الاقتحام الإسرائيلي (الشرق الأوسط)

صباح الثلاثاء 21 مايو (أيار) كان يفترض أن يكون صباحاً عادياً في مدينة جنين. فبعد ليلة لم تعكر صفوها اقتحامات الجيش الإسرائيلي أو عمليات الاغتيال والمداهمات، دبّت الحركة في أرجاء المدينة. سار الموظفون والعمال والطلبة إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم كما يفعلون كل صباح، وشرّعت المحال التجارية أبوابها إيذاناً ببدء يوم جديد. بيد أن الدقائق القليلة التي تلت حملت فصلاً دامياً آخر من فصول المدينة الحزينة.

لا أحد ممن شقوا طريقهم في شوارع جنين ذاك الصباح كان يعلم أن ساعة الصفر لعملية عسكرية إسرائيلية موسعة في المدينة كانت قد دنت، وأن الدقائق القليلة التالية ستحيل الشوارع والطرقات والبنايات المحيطة إلى ساحة حرب مفتوحة. كانت قوة إسرائيلية خاصة قد تسللت داخل سيارة تحمل لوحة فلسطينية، وعمدت بنشر فرق من القناصة فوق عدد من الأبنية والعمارات تمهيداً لتحرك عسكري في المنطقة.

بعد الساعة الثامنة بقليل، شرَعت القوة الخاصة رفقةَ القناصة بإطلاق الرصاص على «كل ما يتحرك أمامها»، بحسب ما روى شهود، فقتلت على الفور 7 من سكان المدينة، بينهم تلميذان ومعلم وطبيب جراح.

محمود خرج لتقديم امتحاناته فقتله قناص قرب مدرسته

أحد التلميذين كان محمود حمادنة (15 عاماً)، طالب في الصف التاسع. غادر بيته في الصباح الباكر رفقة شقيقه التوأم للالتحاق بالمدرسة قرب مخيم جنين، وتقديم امتحانات آخر العام الدراسي. بصوت مختلج وبعينين مثقلتين بألم الفقد، يقول والد محمود المفجوع بخسارة نجله إنه اتصل به فور انطلاق صفارات الإنذار في المخيم، فأجابه أنه وصل المدرسة مع شقيقه. يضيف: «حينها شعرت بالاطمئنان على أنهما بخير».

سكان مخيم جنين يشيعون ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

بيد أن الاقتحام الإسرائيلي المفاجئ أحدث إرباكاً كبيراً في مؤسسات المدينة كافة، ما دفع المسؤولين إليها لاتخاذ إجراءات الإخلاء والطلب من الطلاب والموظفين والعاملين العودة إلى منازلهم خشية تفاقم الأوضاع، وتجنباً لسيناريوهات الحصار التي سبق أن تعرضوا لها في اجتياحات سابقة، ما استدعى تدخل «الصليب الأحمر» ومنظمات دولية لإفساح المجال أمام عودة الطلاب إلى منازلهم.

يروي والد الطفل محمود تفاصيل تلك اللحظات الثقيلة، في حديثه مع «الشرق الأوسط»، يقول: «تفاجأت بعودة شقيق محمود وحيداً إلى البيت... حاولت الاتصال به، لكن هاتفه لا يجيب إطلاقاً. كررت الاتصال أكثر من 15 مرة دون رد». كان محمود في الأثناء قد شقّ طريقه عائداً إلى منزله على دراجته الهوائية. وما أن غادر بوابة مدرسته حتى عاجله قناص إسرائيلي اعتلى إحدى البنايات القريبة بـ5 رصاصات اخترقت صدره ورأسه.

«اتصلت مجدداً، فأجاب أحدهم وقال لي إن صاحب الهاتف موجود في المستشفى. لم يعرف اسمه. قال إنه وصل مصاباً»، يستذكر والد محمود التفاصيل بحرقة وألم شديدين، مضيفاً: «فقدت عقلي حين علمت أن ابني قد أصيب... توجهت سريعاً مع زوجتي إلى المستشفى. قدت السيارة بسرعة كبيرة... كانت القوات الخاصة منتشرة في المنطقة حولنا، أطلق قناص النار باتجاهنا... وصلنا المستشفى وأنا أعتقد أن ابني مصاب، فوجدته قد استشهد. لم ألحق به، كان قد فارق الحياة».

إسرائيل تطيل أمد عملياتها داخل الضفة

كانت صافرات الإنذار تدوي في أرجاء مخيم جنين، فيما انتشرت عناصر الكتائب العسكرية الفلسطينية لاتخاذ مواقعها في الشوارع والميادين بعد اكتشاف أمر الوحدة الإسرائيلية الخاصة، فاندلعت اشتباكات عنيفة، ترددت أصداؤها في أرجاء المدينة.

آثار الدمار الذي طال البنى التحتية الرئيسية في مخيم جنين أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

في الأثناء، تقدمت أرتال من المركبات العسكرية الإسرائيلية، ترافقها جرافات ثقيلة، وتحوم فوقها طائرات مسيرة، نحو من مداخل المدينة، التي لطالما مثلت معقلاً رئيسياً للعمل الفلسطيني المسلح في الضفة الغربية طيلة عقود مضت، تزامناً مع إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي عن البدء في عملية عسكرية موسعة في جنين بهدف القضاء على مقاتلين فلسطينيين.

لم يحمل بيان الجيش الإسرائيلي تفاصيل حول العملية الجديدة، إذ لم يعلن الجيش هدفاً واضحاً للعملية ولم يضع سقفاً زمنياً محدداً لها أسوة بمرات سابقة. مثّلت العملية وحجم القوات المشاركة فيها - الذي قدّرت بأكثر من ألف جندي، وكذلك تحركاتها وتمركزاتها على الأرض، واحتلالها عدداً من المنازل والبنايات، ناهيك عن فرضها حصاراً محكماً على المخيم - تطوراً في استراتيجية الجيش الإسرائيلي في جنين ومدن شمال الضفة الغربية بشكل عام، وتحولاً في شكل العمليات من الاقتحامات الليلية والمطاردات الساخنة التي تمتد لساعات، إلى عمليات موسعة تمتد لأيام.

شوارع جنين... اشتباكات وانفجارات وسحب سوداء

كان فريق «الشرق الأوسط» ذاك الصباح قد وصل إلى مشارف جنين في مهمة معدة مسبقاً لرصد واقع المدينة بعد أشهر من الحرب الممتدة في غزة. تزامن وصولنا لمداخل المدينة مع بدء العملية العسكرية الإسرائيلية وتصاعد القتال فيها.

خلت الشوارع تماماً إلا من صوت الرصاص ودوي الانفجارات المتتالية التي تخلّفها العبوات الناسفة واستهدافات الجيش وضرباته. غطت سحابة سوداء سماء المدنية التي لم تفارقها الطائرات المسيرة. فيما أغلقت المحال أبوابها، ولاذ السكان إلى بيوتهم. أضحت الشوارع والأزقة والحارات ساحة حرب مفتوحة بين المقاتلين الفلسطينيين ووحدات الجيش المدعومة بالقناصة والمتحصنة في عربات مصفحة.

فلسطيني وسط مدينة جنين خلال اقتحام القوات الإسرائيلية أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

فرض الجيش حصاراً على المخيم، أو كما يسميه «عش الدبابير»، ومنع حركة الدخول أو الخروج منه، وقطع إمدادات الكهرباء والاتصالات، حتى بات بقعة معزولة عن العالم الخارجي. مَنعت المركبات العسكرية دخول سيارات الإسعاف لإخلاء الإصابات أو الحالات المرضية، بل أطلقت النار عليها، كما منعت وصول الطواقم الصحافية للمنطقة، فيما شرعت الجرافات العسكرية في تجريف عدد من الشوارع والميادين وهدم بنى تحتية حيوية.

تواصلت العملية العسكرية الإسرائيلية 48 ساعة قبل انسحاب القوات منها، لنتمكن بعد ذلك من دخول المخيم وحاراته، ولتتكشف أمامنا آثار المعركة في المدينة ومخيمها.

ترك الرصاص بصمةً واضحةً على جدران المنازل والمتاجر بين الأزقة الضيقة، فيما تركت الحرائق علاماتها على بعض نوافذ البيوت والمساكن المتلاصقة في مساحة ضيقة لا تزيد عن 0.42 كيلومتر مربع، يسكنها نحو 12 ألف نسمة. بدا نصيب بعض البيوت الأخرى أكبر، إذ لحقها دمار كبير بعد أن قامت الوحدات الإسرائيلية بنسفها وتسويتها بالأرض. كذلك ألحقت الجرافات العسكرية دماراً بالشوارع والميادين والبنى التحتية التي طالتها أعمال تجريف لم تتوقف طيلة اليومين الماضيين.

الحاضنة الاجتماعية... هدف للعمليات العسكرية

كان الجيش الإسرائيلي صعّد من عملياته مؤخراً، التي تطول البنى التحتية الحيوية في المدينة والمخيم، إذ باتت هدفاً رئيسياً للاعتداءات الإسرائيلية، في مسعى، كما يرى السكان هنا، للضغط على الحاضنة الشعبية للكتائب المسلحة ومعاقبتها. ويرى جمال حويل، عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح» والمقاتل السابق إبّان معركة جنين عام 2002، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن إسرائيل تسعى عبر سياسات التدمير والتجريف لضرب الحاضنة وربط دعمها للعمل المسلح بمشاهد الدمار والخراب.

آثار الدمار الذي طال البيوت في مخيم جنين أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

يقول: «نحن ندرك من تجربة طويلة جداً منذ عام 2002 حين دخل الاحتلال إلى مخيم جنين في أكبر معركة بعد عام 1967، ودمّر 1200 بيت وقتل العشرات في المخيم، أن الاحتلال يركز على الانتصار على الوعي الفلسطيني. وبالتالي يركز على الحاضنة الاجتماعية حتى تصبح المعادلة أمامها، المقاومة تقابل الخراب»، مضيفاً: «لكن هذه الحاضنة الشعبية تدرك أن المقاومة هي من تحضر العزة والكرامة والحرية، رغم الدمار الذي يحدثه هذا العدو».

ضحايا جنين... الأعلى في الضفة الغربية

منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول)، كثّف الجيش الإسرائيلي من عملياته العسكرية في جنين ومدن الضفة الغربية. ونفذ الجيش أكثر من 70 اقتحاماً لجنين منذ اندلاع الحرب في غزة، قتل خلالها أكثر من 142 فلسطينياً، ما يمثل الحصيلة العليا لعدد الضحايا في الضفة الغربية، الذي تجاوز 540 قتيلاً، فيما بلغت أعداد الجرحى 5200، كما اعتقل الجيش أكثر من 8000 فلسطيني.

الطواقم الطبية تنقل إصابات خلال اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة جنين في مايو الماضي (الشرق الأوسط)

كما دفع الجيش بالطيران الحربي لميدان حربه في جنين لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية، إذ شنّ عدداً من الغارات على أهداف في المدينة ومخيمها، طالت عدداً من المقاتلين في «كتبة جنين» التابعة لـ«سرايا القدس» الجناح العسكري لـ«حركة الجهاد الإسلامي».

الضفة... جبهة خارج حسابات الهدنة

تظل جبهة الضفة الغربية ساحة غير مشمولة بحسابات ومفاوضات الهدنة وترتيبات وقف إطلاق النار المرتقبة في غزة، ما يثير مخاوف عميقة لدى الفلسطينيين بأن الفترة المقبلة قد تحمل مزيداً من فصول التصعيد. هذه المخاوف تعززها تصريحات الوزيرين في حكومة نتنياهو، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، التي توعدا فيها بنقل مجريات الحرب في غزة إلى الضفة الغربية.

فور انتهاء معركة الساعات الثماني والأربعين الأخيرة، وانسحاب القوات الإسرائيلية، تحدثت «الشرق الأوسط» مع مقاتلي كتيبة جنين. قال لنا أحد قادتها إن هذه المعركة جاءت مختلفة عن سابقاتها، إذ شهدت «تكتيكاً عالياً ودقيقاً» من مقاتلي الكتيبة الذين باتوا يلجأون أكثر من السابق، في مواجهة القوات الإسرائيلية، للكمائن والعبوات الناسفة المزروعة، التي أظهرت تطوراً في فاعليتها، مقارنة بالمراحل السابقة. الأمر الذي أثار قلقاً عميقاً لدى الدوائر العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وصعّد من وتيرة المداهمات والاستهدافات للبنية التحتية للكتائب المسلحة ومعامل العبوات والمتفجرات.

مسلحون من "كتيبة جنين" خلال تشييع جثامين ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية في مايو الماضي (الشرق الأوسط)

وأضاف أن الكتيبة لم تتلقَّ خسائر في صفوفها خلال هذه الجولة، مشيراً إلى أن «جميع الشهداء الذين سقطوا كانوا من المدنيين، ولم يفلح المحتل في قتل أو إصابة أي من عناصر الكتيبة»، ما يعكس تحولاً في عمل المقاتلين على الأرض خلال الاقتحامات الإسرائيلية وتكيفاً مع معطيات القتال، الذي يعتمد فيه الجيش على الوحدات الخاصة والقناصة، وكذلك على الغطاء الجوي.

وأشار الشاب إلى أن الحرب الدائرة في المخيم امتدادٌ للحرب في غزة ولعملية «طوفان الأقصى»، موضحاً أن المواجهة مع الجيش الإسرائيلي ارتفعت وتيرتها منذ 7 أكتوبر. ويضيف أن وحدات من الجيش كانت قاتلت في غزة، باتت تقاتل اليوم في جنين: «هذا باعترافهم وشهادات جنودهم بأن بعض قوات الجيش التي كانت تقاتل في غزة، واكتسبت خبرة هناك، تم استدعاؤها للدخول لمخيم جنين. والفرق بين ما قبل 7 أكتوبر وبعده هو عدد القوات التي تدخل إلى المخيم، ناهيك عن تصاعد ضربات الطيران والقصف وأعداد الآليات».

عمليات الجيش... من «جزّ العشب» إلى «الحسم الشامل»

تكاد العمليات التي تمتد لأيام تكون جولات «استطلاعية» لعمليات أوسع وأطول أمداً، تهدف من خلالها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى بسط سيطرتها الأمنية بشكل أوسع على الضفة الغربية، وتضييق الخناق على الفصائل المسلحة التي تنشط في المدن والبلدات والمخيمات. وشرعت القوات الإسرائيلية مؤخراً في تصعيد مداهماتها وضرباتها على البنى التحتية للكتائب، وكذلك على بعض مصادر تمويلها. كما شنَّ الجيش سلسلةً من المداهمات لمحال الصرافة وتحويل الأموال، ونفّذ اعتقالات بحقّ بعض العاملين فيها، وزاد من وتيرة استهدافاته لمعامل تصنيع العبوات الناسفة. وتواصل جرافاته إزالة «الخطوط الدفاعية» على مداخل المخيمات من سواتر ترابية وأحجار إسمنتية لتأمين دخول وحدات الجيش لمناطق أعمق داخل المخيم.

دوريات إسرائيلية في شوارع جنين مايو الماضي (الشرق الأوسط)

وتعكس مجريات العمليات الإسرائيلية تبدلاً في سياسة «جز العشب» التي أطلقها الجيش الإسرائيلي قبل عامين بهدف ملاحقة المجموعات المسلحة واغتيال أو اعتقال قادتها وعناصرها، إلى التوجه اليوم نحو استراتيجية تحمل مؤشرات بالمضي لـ«الحسم الشامل».

كانت الضفة الغربية شهدت أكثر من 460 عملية إطلاق نار واشتباك منذ بداية العام الحالي، استهدفت قوات الجيش والمستوطنين، وأوقعت 13 قتيلاً وعشرات الإصابات.

مخيم نور شمس... محاكاة للتدمير في غزة

بات السكان في مخيم نور شمس للاجئين في مدينة طولكرم، شمال الضفة الغربية، يطلقون عليه اسم «غزة الصغرى»، إذ يشهد المخيم الواقع شرق المدينة تصعيداً عسكرياً إسرائيلياً، ارتفعت وتيرتُه مع اندلاع الحرب في غزة، كثّفت خلاله إسرائيل من هجماتها عليه خلال الشهور الماضية، مخلفة دماراً كبيراً في أحيائه وأزقته الضيقة.

وما أن وصلنا مدخل المخيم حتى بدأت تتكشف مشاهد الدمار. لحق الدمار والخراب بواجهات البيوت والمحال التجارية المطلة على الشارع الرئيسي المقابل للمخيم، والواصل بين مدينتي طولكرم ونابلس. داخل المخيم، سلكنا طريقاً ترابية وعرة خلّفتها أعمال التجريف نحو حارة المنشية وسط المخيم. بدت بيوت الحارة وبناياتها أثراً بعد عين. حفرت الجرافات الإسرائيلية في قلب المخيم بقعة ترابية واسعة تكسوها أكوام من الركام وجدران البيوت المهدمة، فاقتلعت هنا مربعات سكنية كاملة، وهجَّرت سكانها، في استدعاء لسياسة التدمير الواسع في غزة.

تقول نهاية الجندي، إحدى سكان المخيم وعضو لجنة الخدمات الشعبية، لـ«الشرق الأوسط»، بينما وقفت وسط بقعة ترابية فارغة على أنقاض بيوت حارة المنشيّة، التي سوّتها الجرافات الإسرائيلية بالأرض، وأحالت مجمعات سكنية كانت تأوي 40 أسرة إلى ركام، إن حال مخيم نور شمس «شبيه بحال غزة، وأطلق عليه اسم غزة الصغرى، وذلك بسبب تدمير مجمعات سكنية كاملة».

وتضيف الجندي: «الفرق بيننا وبين غزة هو وجود جثث تحت الأنقاض. نخشى أن يتم تدمير البيوت هنا على رؤوس ساكنيها. فنحن أمام نفس الحال ونفس الوجع ونفس الفقدان، ونفس المأساة ونفس التدمير وتفجير البنيان... هذه غزة رقم 2».

آثار الدمار الذي طال البيوت والمتاجر في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

في أبريل (نيسان) الماضي، في عملية عسكرية امتدت 3 أيام، حاصرت القوات الإسرائيلية المخيم وقطعت عنه إمدادات المياه والكهرباء والاتصالات ، وشرعت الجرافات العسكرية من طراز «D-9» و«D-10» في قضم بيوت حارة المنشية المتراصة وتسويتها بالأرض، بينما كان بعض سكانها داخل بيوتهم، فشقّت شارعاً واسعاً لدخول الآليات العسكرية والجنود فوق أنقاض البيوت.

وتلاحق إسرائيل «كتيبة طولكرم» التي تنشط في المخيم، وتضم عناصر من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، وكذلك «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، وكذلك «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح».

وتصاعدت في الآونة الأخيرة أعمال التجريف التي ترافق الاجتياحات الإسرائيلية، التي يقول الجيش عنها إن هدفها إبطال العبوات المزروعة على جنبات الطرق والأزقة وهدم التحصينات البدائية للكتائب الفلسطينية، بيد أن حجم الدمار والخراب التي تخلّفه أعمال التجريف التي تطول البنى التحتية الحيوية والمنشآت المدنية من بيوت ومدارس وغيرها، تعكس سياسة عقاب جماعي تطول سكان المخيمات.

تشير الأرقام الرسمية الفلسطينية وأرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» إلى أن نحو 2000 بيت في المخيم لحقَ بها دمار كليّ أو جزئي، ما يمثل نحو نصف عدد البيوت في المخيم. واضطر سكان البيوت المدمرة، ولا سيما تلك التي سوّتها الجرافات بالأرض، إلى النزوح خارج المخيم واللجوء لمساكن مؤقتة لحين إعادة إعمار بيوتهم، وهو ما يبدو الأفق أمامه غير واضح المعالم، في ضوء التحديات المالية التي تواجه «أونروا»، وكذلك السلطة الفلسطينية، في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وأعمال الهدم والتجريف التي طالت سابقاً بيوتاً جرى ترميمها وإصلاحها، ما يجعل مسار إعادة الإعمار معقداً وشائكاً ورهناً بتطورات الأوضاع على الأرض.

شبح التهجير يقفز للواجهة

تدفع هذه التطورات في المخيمات بشبح التهجير إلى الواجهة، إذ تخشى أوساط فلسطينية واسعة من اتساع رقعة العمليات العسكرية والإسرائيلية وتصاعد وتيرة الهدم والتدمير والتجريف للبيوت والمنشآت، ما قد يخلق مشاهد من النزوح القسري، ويمثل شروعاً فعلياً بتنفيذ سياسة اقتلاع المخيمات وإفراغها من السكان. يترافق ذلك مع سياسات توسيع الاستيطان في الضفة وتسريع مخططات الضم، كما يتوافق مع «خطة الحسم» الذي وضعها وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إذ يدعم كثير من الشواهد الملموسة على الأرض هذه المخاوف من تصاعد حدة الهجمات الإسرائيلية في المخيمات، وخلق واقع جديد فيها لصالح مشاريع الاستيطان والتوسع.

وتشير الأرقام الفلسطينية إلى أن عدد المنشآت التي تم هدمها في الضفة الغربية منذ عام 2023 تجاوز 1100 منشأة، ما أسفر عن تشريد أكثر من 4300 شخص، وهو ما يمثل زيادة بنحو 5 أضعاف، مقارنة بعام 2022 الذي بلغ فيه عدد المهجرين 700 شخص.

أبو رامي من سكان حارة المنشية بمخيم نور شمس يتفقد منزله الذي هدمته الجرافات الإسرائيلية في مايو الماضي. (الشرق الأوسط)

ويروى أبو رامي، من سكان حارة المنشيّة المدمرة، لـ«الشرق الأوسط»، اللحظات الصعبة التي عاشها هو وعائلته حين تقدمت الجرافات الإسرائيلية نحو بيته الذي تسكنه 3 عائلات وشرعت بعمليات الهدم والتجريف، بينما كان السكان بالداخل. يقول: «لو بقينا داخل البيت لسقطت جدرانه علينا. دخلت الجرافات وشرعت بهدم هذا الجزء من البناية التي تسكنها 3 عائلات»، مشيراً بيده نحو غرف البيت الذي قضمته الجرافات وأحالته خراباً.

نزح الرجل الستيني مع عائلته وأبنائه خارج المخيم لحين تأمين عودتهم. يتحسر على ما حلّ ببيته وحارته، قائلاً: «نرجو الله أن تنفرج الأمور، وألا نبقى مشتتين هنا وهناك... فبعد خسارة البيت، ما قيمة حياتنا؟»