بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

ابن الأسرة الفلاحية الاشتراكي وصاحب البرنامج السياسي المرتبك

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي
TT

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

بيدرو كاستيّو يعيد اليسار إلى الرئاسة في البيرو... بدعم أميركي

محاطاً بالمفاجآت والألغاز كان وصول بيدرو كاستيّو إلى رئاسة البيرو في انتخابات استغرق فرز أصواتها أكثر من أسبوعين بسبب الطعون التي قدّمتها منافسته كيكو فوجيموري. بيد أن الحسم جاء مع بيان صدر يوم الاثنين الفائت عن الإدارة الأميركية، وصف الانتخابات بأنها كانت «عادلة» و«نموذجية»، هذا، بينما كانت تُسمع قرقعة في الثكنات العسكرية تهدد بدخول الجيش على الخط واستعادة التقاليد الغابرة التي ما زال كثيرون يحنّون إليها في أميركا اللاتينية.
لكن الألغاز التي تحيط بوصول كاستيّو إلى الرئاسة بعد فوزه على ابنة الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري، الذي أعيد إلى السجن حيث يمضي عقوبة بتهم كثيرة بعد إلغاء العفو الذي صدر عنه سابقاً، ليست ناشئة عن سبل هذا الوصول... بل عن الغموض الذي اكتنف حملة كاستيّو الانتخابية ومواقفه الملتبسة من معظم القضايا الرئيسة والملفات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة في البيرو، فضلاً عن تلميحاته المتكررة إلى تعديل الدستور وتغيير النظام.
أبصر بيدرو كاستيّو النور منذ 51 سنة في قرية صغيرة على أطراف جبال الأنديز المطلّة على موقع «ماتشو بيتشو» الأثري الشهير. وفي الكوخ الذي تسكنه العائلة، كان يستيقظ كل يوم قبل بزوغ الفجر ليحضّر طعامه على ضوء الشمعة قبل أن يتوجّه سيراً على قدميه طيلة ساعتين في الطرق الجبلية والمنحدرات الصعبة ليصل إلى المدرسة الصغيرة التي تقع على علو 3 آلاف متر عن سطح البحر. يقول كاستيّو إنه درس على «سطح العالم» وإن الغيوم الكثيفة التي تحيط بالمكان كانت تمنعه من رؤية الهوة الساحقة التي يطلّ عليها.
يروي جيرانه أن ذلك الصبي النحيل، والقصير القامة، كان يسير دوماً بسرعة ويحرّك يديه مثل قائد الأوركسترا عندما يمرّ أمام المزارعين في حقوق الذرة والبطاطا، إلى أن ذهب أحدهم لينبّه والدته ويطلب إليها أن تعرض ابنها على الطبيب، «لأنه يبدو فاقداً لتوازنه العقلي». وعندما استفسرت منه أمه عن الأمر لدى عودته من المدرسة، قال لها: «ليس هناك ما يدعو إلى القلق... أنا لست مريضاً. لكنني أراجع دروسي في الطريق، وأكتب على الهواء... وعندما أصل إلى المدرسة أكون متأكداً من أنني حفظت كل دروسي».

بيئة فلاحية وشخصية عصامية
تقول والدته إنها أدركت منذ ذلك اليوم أن ابنها سيصل بعيداً في الحياة، رغم أنه ولد في تلك المنطقة الفقيرة والنائية من البيرو. أما والده الذي لا يعرف القراءة أو الكتابة، فيقول: «أجل، بعيداً، لكن ليس حيث وصل بيدرو... فنحن لسنا سوى فلّاحين». وهنا يذكر الوالد أنه أمضى عمره يعمل في زراعة حقل يدفع بدل إيجاره لأصحابه حتى العام 1969 عندما قرّر الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو (ذو الميول الاشتراكية)، بعد أيام من الانقلاب العسكري الذي قاده، خطة الإصلاح الزراعي التي وزّعت الأراضي التي كانت في حوزة حفنة من الأثرياء على الفلاحين. ويقول الوالد متذكراً: «يومها انتهت العبودية بالنسبة لنا». وبالفعل، لقد اعتاد بيدرو كاستيّو في مهرجاناته الانتخابية أن يعلّق وراءه دائماً صورة لذلك الجنرال اليساري الذي أعتق والديه وملايين الفلاحين في البيرو من العبودية.
خلال الجولة الأولى من الانتخابات، أخذ بيدرو كاستيّو حملته إلى ساحات القرى والدساكر النائية بعيداً عن مراكز السلطة في العاصمة ليما، وفي تلك المرحلة لم ترصد «الرادارات» الإعلامية هذا المُعلّم الريفي، الذي يرتدي ملابس الفلاحين ويعتمر قبّعة القش التقليدية، التي لا تفارق رؤوس السكان الأصليين في البيرو، خارج غربلة المرشحين الذين يتنافسون للوصول إلى الجولة الثانية. لكن ما كادت الجولة الأولى تشرف على نهاياتها حتى كان كاستيّو يتصدّر الاستطلاعات، محمولاً على خطاب شعبوي يساري ضد النظام القائم... واقفاً إلى جانب الفئات المحرومة والمنسيّة في الأرياف ومناطق السكان الأصليين. ومع هذا، جاء خطابه مطعّماً باقتراحات يمينية متطرفة لمكافحة الهجرة والجريمة، ورفض المساواة بين الأجناس، وإعادة التفاوض على العقود المُبرمة مع الشركات الأجنبية. ومن ثم، فإن كل الاقتراحات الأساسية التي من شأنها تغيير وجه الدولة ما زالت غير واضحة في برنامج كاستيّو الذي وصفه أحد المحللين بأنه «لوحة تجريدية في بلد يعاني من ضبابية مفرطة في المشهد السياسي منذ سنوات».
من جهة أخرى، جاء فوز كاستيّو على منافسته اليمينية المتشددة اليابانية الأصل فوجيموري بفارق ضئيل جداً (44 ألف صوت)، بعدما تعاقب على البيرو 4 رؤساء في أقل من 5 سنوات. وهو أمر يطرح مزيداً من التساؤلات حول تصوّره للدولة، ولا سيما بعد تعهده، في حال الوصول إلى سدة الرئاسة، أن ينصرف فوراً إلى وضع دستور جديد «يقرّره الشعب في جمعية تأسيسية تكرّس العمل والصحة من الحقوق الأساسية لجميع المواطنين».
هذا، وفي حين يتهم معارضو كاستيّو الرئيس الجديد بأن التعديل الدستوري الواسع الذي يرمي إليه ليس سوى «مناورة شبيهة بتلك التي قام بها هوغو شافيز في فنزويلا» لتغيير النظام ووأد الحرّيات العامة، يقول أنصاره إن الاقتراح يستلهم التجربة التشيلية الأخيرة حيث دُعي الشعب أواخر العام الفائت إلى انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية المكلّفة وضع دستور جديد للبلاد يطوي نهائياً حقبة ديكتاتورية الجنرال الراحل أوغوستو بينوتشيت. لكن يبدو من الصعب أن يتمكّن كاستيّو من تحقيق هذا الوعد الانتخابي الذي كان المرمى الرئيس الذي انصبّت عليه انتقادات خصومه، إذ سيحتاج لذلك إلى ثلثي أعضاء البرلمان، في حين لا يسيطر حزبه سوى على 37 مقعداً من أصل 130. وللعلم، كان كاستيّو قد وعد خلال الحملة الانتخابية بأن الاقتراح يبقى مشروطاً بالموافقة الشعبية، وأنه سيتراجع عنه إذا قرّر الشعب رفض المساس بالدستور.

بداية سياسية متأخرة
أما حول بدايات كاستيّو السياسية الجدية، فإنه لم يظهر في المشهد السياسي حتى العام 2017 عندما قاد إضراباً نقابياً للمعلّمين، حاول بعده أن يؤسّس حزباً وطنياً للمعلمين... لكنه لم يتمكّن من جمع التواقيع اللازمة مع بداية جائحة «كوفيد 19». وبعد ذلك انخرط في الحزب الإقليمي «البيرو الحرّة» الذي يرأسه الزعيم اليساري الشعبوي فلاديمير سيرّون، المعروف بطروحاته الراديكالية، ما يطرح تساؤلات عدة عن دوره وتأثيره في الدائرة الضيّقة حول الرئيس الجديد، لكن ما يجدر ذكره هنا أن كاستيّو فكّ ارتباطه به مراراً خلال الحملة الانتخابية، إدراكاً منه بأن سيرّون يواجه معارضة شديدة بين الأوساط اليسارية في المدن الكبرى.
الشركات الأجنبية الناشطة في البيرو، وكذلك المؤسسات الرسمية التي تنظر إليها الأوساط الشعبية كمدافع عن مصالح النخب الاقتصادية والاجتماعية، كانت هدفاً رئيساً لانتقادات كاستيّو ووعوده إبان الحملة الانتخابية. وخلال أحد المهرجانات في منطقة أسبينار التي تعاني منذ سنوات من أزمات واضطرابات اجتماعية بين الفلاحين وشركات المناجم الصينية والسويسرية والأميركية، قال كاستيّو: «هذه الشركات أصبحت ساعاتها معدودة». ووعد أيضاً بإنهاء بعض المؤسسات الرسمية التي اتهمها بهدر المال العام وخدمة مصالح المجموعات النافذة وملاحقة المعارضين للنظام القائم.
مثل هذه التصريحات والمواقف، إلى جانب تحذيرات خصومه من وصول مرشّح «شيوعي خطر» إلى الرئاسة، فضلاً عن الحملة الشرسة التي شنّتها ضده مراكز القوى التقليدية، وغيّبته عن وسائل الإعلام، كانت عوامل أدّت إلى تدنّي شعبيته وتراجعه في الاستطلاعات. وظل الوضع كذلك إلى أن أعلن تجمّع القوى اليسارية المعتدلة تأييده له مطلع مايو (أيار) الفائت، وهكذا بدأ بتعديل مواقفه وتصريحاته.
وحقاً، منذ بداية الشوط الأخير في الحملة الانتخابية استعاض كاستيّو عن خطاب «إلغاء» المؤسسات التي كان ينتقدها... بتعهده «بتقويتها وتصويب مسارها». إذ قال: «إن الطريق إلى قيام الدولة التي أحلم بها لأولادي وطلابي، يمرّ بتوطيد الديمقراطية وضمان الحرّيات وتعزيز المؤسسات في دورها لخدمة الشعب».
أما الشركات الأجنبية التي كان يفتح النار عليها في كل تصريحاته، ويهدد أحياناً بتأميمها، فقد بدأ يتحدث عن الجهود التي سيبذلها كي تسدّد مزيداً من الضرائب، وتنفّذ مشروعات تعود بالمنفعة على السكّان الذين يعيشون في المناطق المحيطة بالمناجم التي تستغلّها. وفي آخر خطاب ألقاه أمام عمّال مناجم الذهب، قال: «نرحّب بالشركات الخاصة الأجنبية لتعمل في بلادنا وفقاً لقواعد وشروط واضحة... علينا أن نعيد النظر في العقود المبرمة معها».
في الواقع، لم يظهر كاستيّو براعة في إطلالاته ومناظراته التلفزيونية القليلة، بل غالباً ما كان يبدو متردداً وضعيف الحجّة. غير أنه كان عندما يذهب إلى القرى والأرياف، يملأ الشوارع والساحات ويتحوّل إلى شخص آخر يتكلّم لغة أخرى تستحوذ على اهتمام أنصاره الذين كانوا يتكاثرون كل يوم.
شعبوي تقدمي تعلّم
البراغماتية متأخراً

لقد كان يعرّف نفسه معلّماً ابتدائياً في القرى النائية التي لم تصل إليها خدمات الدولة، وفلّاحاً، وعاملاً بنى بيته بيديه، وخاصة «حارساً جوّالاً» Rondero في المنظمات الشعبية المستقلّة التي أُسست في سبعينات القرن الماضي لمكافحة الجرائم في الأرياف البعيدة عن مراقبة أجهزة الأمن الرسمية. وما زالت هذه المنظمات ناشطة حتى اليوم في معظم المناطق الريفية البعيدة، تسهر على الماشية وتمنع سرقتها. أفراد هذه المنظمات من المتطوعين، يرتدون لباساً تقليدياً ويمضغون ورق الكوكا الذي يساعدهم على البقاء مستيقظين أثناء الليل. ومن عاداتهم، قبل تسليم لصوص الماشية إلى العدالة، معاقبتهم بالسياط وتوبيخهم على فعلاتهم.
وفي هذا الإطار، كان كاستيّو قد وعد خلال حملته الانتخابية باللجوء إلى هذه المنظمات لمكافحة الجريمة المستشرية في البلاد. وأعرب عن نيّته في استنساخ هذه التجربة وتعميمها على المدن وأرباضها. كذلك دعا إلى تخصيص ميزانية لها ولقوات الأمن لمؤازرتها وتدريبها، «ليس لحماية الماشية فحسب، بل للمساهمة أيضاً في توطيد الأمن والطمأنينة في البلاد». ولكن بعدما أثار هذا الاقتراح مخاوف واسعة من أن تتحوّل هذه المنظمات إلى جهاز أمني موازٍ على غرار تنظيمات مماثلة في كوبا وفنزويلا، طوى كاستيّو الفكرة وسحبها من التداول. وسحب أيضاً من البرنامج الذي أطلقه في بداية الحملة الانتخابية، اقتراحاً بإلغاء النظام التقاعدي الذي تديره الشركات الخاصة وتعويضه بخطة لتحسين هذا النظام وتعزيز الضمانات التي يوفّرها للمودعين.
لقد تردّد كاستيّو وتعثّر كثيراً في مواقفه وتصريحاته خلال الحملة الانتخابية، وبدّل كثيراً من هذه التصريحات والمواقف بين الجولتين الأولى والثانية، حتى بات من الصعب معرفة ما إذا كان موقفه من القضايا والملفات الرسمية على اليسار أو على اليمين أو في منزلة بين المنزلتين. أما الأمر الأكيد في الوقت الحاضر فهو ضبابية المشروع الذي يحمله في رأسه هذا المعلّم الريفي، الذي يعترف كثيرون من مؤيديه، والذين عايشوه، أنهم يذرفون الدمع تأثراً لدى سماعه... ويقولون إنهم على استعداد في كل لحظة للزحف مجدداً بمئات الآلاف إلى العاصمة للدفاع عن فوزه ضد أي تهديد كما حصل في الأسبوعين المنصرمين عندما تأخر إعلان النتائج النهائية للانتخابات، وسرت إشاعات حول احتمال تدخل القوات المسلحة للإمساك بالسلطة.
لكن اليوم بات بإمكان كاستيّو أن ينام مطمئناً في قصر الرئاسة، والفضل في ذلك للدعم الصريح لفوزه من الإدارة الأميركية التي كانت منافسته اليمينية تغازلها عن بعد في الأيام الأخيرة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.