ناشرون وكتاب يثمنون قرار السعودية تخفيف قيود الرقابة

توقعات بإطلاق 300 ألف عنوان وتطلعات لتغيير نظام المطبوعات

تمثل السعودية أكبر سوق عربية للنشر
تمثل السعودية أكبر سوق عربية للنشر
TT

ناشرون وكتاب يثمنون قرار السعودية تخفيف قيود الرقابة

تمثل السعودية أكبر سوق عربية للنشر
تمثل السعودية أكبر سوق عربية للنشر

أنهت السعودية إشكالية تتعلق بالرقابة على الكتب، محققة مطلباً للناشرين والمؤلفين وجمهور الثقافة الذين انتظروا هذا القرار منذ عقود؛ بإطلاق خدمة الفسح المباشر للمؤلفات المكتوبة التي تشمل: الكتب، والكتب الإلكترونية، والمطبوعات، التي تبلغ نسبة طلباتها على خدمات الفسح 61 في المائة خارجياً، و39 في المائة محلياً؛ مما يتيح وصول كل ما ينشر إلى الجميع بالتزامن مع صدور الكتب والمطبوعات، والمحتوى المقروء، وفقاً لما أعلنته الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع يوم السبت الماضي، التاسع عشر من شهر يونيو (حزيران) الحالي.
وكانت الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع السعودية، قد أكدت في بيان لها، أن «السعودية من أوائل الدول على مستوى المنطقة التي تقدم خدمة الفسح المباشر للقطاع الخاص للمحتوى المقروء، حيث يمكن للمستفيدين التقدم للحصول على الفسح الفوري للمطبوعات الخارجية عبر منصة التراخيص الإلكترونية التابعة للهيئة، بعد التزامها بالاشتراطات والضوابط المعمول بها، وتشمل الخدمة الكتب الورقية والإلكترونية».
وتوقعت الهيئة، أن يبلغ عدد فسوحات العام الأول من إطلاق الخدمة 300 ألف عنوان، مؤكدة أن سرعة الفسح ستتيح للجميع المتابعة والتفاعل مع كل ما ينشر في حينه وبالتزامن مع صدور الكتب والمطبوعات والمحتوى المقروء بشكل عام. وأوضحت، أن التعديلات الجديدة على اللائحة ستنعكس بشكل إيجابي على قطاع التجارة الإلكترونية والمطبوعات، فبالإضافة إلى تسهيل عملية الفسح على المؤلفين والناشرين وموزعي الكتب واختصار مدة الانتظار، ستسهم كذلك في تشجيع دخول المستثمرين في قطاع التأليف والنشر والتوزيع، كما أنها ستنمي قطاع تجارة الكتب الإلكترونية، وإثراء منافذ التوزيع السعودية بالمحتوى المتميز فور صدوره، ويشكل القرار أيضاً دعماً مباشراً لدور النشر السعودية التي كانت تعاني من منافسة غير عادلة من دور النشر الأخرى. ويسهم تطبيق الفسح الفوري كذلك في الحد من القرصنة والتحايل وتسرب المستخدمين إلى المتاجر العالمية.
وسجلت «الشرق الأوسط» آراء عدد من الناشرين والمؤلفين من المهتمين بصناعة النشر من داخل السعودية وخارجها حول هذا القرار، ولم تخلُ آراؤهم من طرح مطالب تجاوزت أهمية هذا القرار غير المسبوق إلى طرح آلية لتوحيد جهات وإجازة أعمال النشر، لتسهيل إجراءات الفسح المباشر دون المرور بالإجراءات البيروقراطية، وتعدد جهات الإجازة للكتب والمطبوعات، التي تعيق سرعة فسح المؤلفات المكتوبة.

د. محمد المشوح (مؤسس ومدير دار «الثلوثية» - الرياض): ينبغي منح الناشرين والمؤلفين حق الطباعة

إن قرار وزارة الإعلام فيما يتعلق بالموافقة على فسح الكتب الإلكترونية وتسهيل إجراءاتها يعدّ أمراً مهماً في منظومة ننتظر استكمالها كناشرين، ومن المتعارف عليه لدى قراء الكتاب والمؤلفين والناشرين أن فسوحات الكتب هي المعضلة الكبرى التي تواجه الجميع في كثير من الدول.
لقد كان لنظام المطبوعات الذي خوّل للوزارة الصلاحيات الكاملة في إجراء الفسوحات للكتب المطبوعة داخلياً أو خارجياً، دور في إحجام كثير من المؤلفين من الكتابة والتدوين؛ بسبب شدة الإجراءات، وطول أمد الفسح طيلة السنوات الماضية رغم التطورات التي حصلت في السنتين الماضيتين.
إننا الآن أمام مطالب عديدة نقدمها للوزارة تكمن في سرعة إيجاد آليات متناسبة ومتناسقة مع التطورات الإلكترونية المذهلة التي تعيشها السعودية، ومنها إجراءات الفسوحات، وأنه من المهم أن يتم النظر بواقعية تامة إلى موضوع الرقابة البعدية وتفعيلها، وأن المؤلف والناشر يتحمل التبعات الناشئة عن ذلك.
لا شك أن رخص الفسوحات التي تمنح لبعض دور النشر والذي أعلنت عنه الوزارة مؤخراً سوف يسهم أيضاً في تخفيف المسؤوليات على الجهات الرقابية. نحن نعلم أن الجهات الرقابية المعنية؛ الوزارة، وزارة الإعلام ترتبط أيضاً بعشرات الجهات التي تسمح وتفسح بحكم اختصاصاتها، سواء كانت الإفتاء أو وزارة الصحة، أو دارة الملك عبد العزيز أو غيرها من المؤسسات، وهذا الأمر أرى أن من الضروري أن يتم إعادة النظر فيه، وأن يتاح للناشرين وللمؤلفين الطباعة فوراً، ويتحملوا مسؤولياتهم. ومن المهم أن نلفت النظر إلى أننا أمام تجربة أخرى، وهي تجربة الأندية الأدبية؛ فالأندية الأدبية لا تمرّ على عين الرقيب، فكتبهم لا ترد على وزارة الإعلام بالفسوحات، وإنما يتحملون تبعاتها أو ما يعرف بالرقابة البعدية للكتاب.
تطلعنا كبير بأن هذا الأمر سوف ينعكس إيجاباً وبقوة تامة على سوق النشر السعودية التي تعتبر أكبر سوق عربية للنشر لولا تلك المعوقات التي تشهدها السوق. نأمل من وزارة الإعلام أن تستكمل المنظومة الرقابية في ذلك، وأن تبادر إلى حسم موضوع الرقابة على الكتب، سواء كانت من الداخل أو من الخارج، أو سواء كانت إلكترونية أو ورقية؛ حتى يتسنى العيش في هذا الفضاء الواسع، ومن ثم تفعيل ما يسمى بالرقابة البعدية، والمحاسبة القضائية على ما يرد، ونحن دولة مؤسسات وقانون، ومن المهم أيضاً أن تخفف الأعباء على الجهات والمسؤوليات في هذا الأمر؛ لأن هذا الأمر أصبح متعلقاً بعشرات الجهات والمسؤوليات التي يمر عليها كل عنوان أو موضوع.

محمد الفريح (مدير شركة «العبيكان» للنشر والترجمة): مطرقة القرصنة وسندان التوزيع

استبشرت خيراً بصدور قرار وزارة الإعلام الأخير الخاص بالفسح الفوري لإصدارات دور النشر الخارجية من المطبوعات، وهو وإن كان قراراً جريئاً ومتطوراً وسيحقق نقلة نوعية في اختصار بعض الإجراءات المطولة سابقاً، إلا أنه لا يزال قاصراً ولا يحقق ما يطمح له الناشرون والموزعون السعوديون من تغيير نمط وطريقة إجراءات الفسح الحالية والتي تأخذ أحياناً أسابيع، وبعضها يمتد لأشهر، وتتداخل هذه الإجراءات ضمن صلاحيات عدد من القطاعات المختلفة كل حسب تخصصه؛ الأمر الذي زاد الأمر تعقيداً وطولاً.
مع قناعتي الشخصية بأن التحديث والتجديد وتجاوز بعض الأنظمة التقليدية ومواكبة روح العصر لم يعد ترفاً ورفاهية، وإنما واجبات لازمة حتمتها طبيعة الزمن المتسارع جداً، الذي لم يعد فيه مكان للتفكير بالطريقة السابقة نفسها التي أكل عليها الدهر وشرب، وأخذت من جهد الناشرين والمراقبين وموظفي الإعلام ووقتهم ما أخذت، وقد يتفق معي عدد من الناشرين والموزعين والوراقين وممتهني صناعة التأليف والنشر، أن تغيير نظام المطبوعات تغييراً هرمياً هو الحل الأمثل والأنجع لملاحقة تطورات العصر، فتكون مسؤولية رقابة المحتوى والكتب لدى الناشرين والمشتغلين بصناعة الكتب وحدهم، ويبقى دور المؤسسة الحكومية وصانع القرار في التشريع وسن القوانين والأنظمة وتحديثها ومراقبتها وفقاً لمتطلبات العصر الرقمي الجديد.
أكرر على ضرورة وجود التشريعات الخاصة بأنظمة وترخيص ونشر الكتب الرقمية بأنواعها والتفاعلية والصوتية والمحتوى المخصص لفئات معينة ككتب المكفوفين وغيرها، والتي أصبحت سمة غالبة ومهيمنة في عصرنا الحاضر، والتي لا يوجد لها حتى اللحظة تراخيص واضحة المعالم في أنظمة وتشريعات الوزارة. كلنا أمل بأن يتبع هذا القرار رغم أهميته قرارات أخرى تدعم وتساند حركة النشر والترجمة والتأليف والتوزيع التي تئن وتتوجع بين مطرقة القرصنة والاحتيال وسندان التوزيع.

د. بدر بن صالح الوهيبي (باحث ومؤرخ): تعدد جهات الإجازة

ورأى الباحث والمؤرخ الدكتور بدر بن صالح الوهيبي، الذي أنجز عدداً من المؤلفات اللافتة والموثقة، وخاض معركة «إجازة» مؤلفاته التي مرّت بين مد وجزر، أن قرار إلغاء الرقابة المسبقة على الكتب والاكتفاء بالرقابة في وقت لاحق إجراء لا يكفي في ظل «رؤية 2030»، حيث يتطلب الأمر إسناد الفسوحات لدور النشر بدلاً من تعدد الجهات التي تتولى الإجازة والفسح، حيث تتحمل دور النشر مسؤولية ما ينشر، وفق نظام المطبوعات، وهو ما يحقق الفائدة للمؤلف والناشر، وتقليل خسارة وضياع الفرص على المؤلفين، كما أن مثل هذا الإجراء، سيساهم في إنعاش سوق النشر في السعودية ومعارض الكتاب. إن التأخير في البت بإجازة وفسح الكتب، الذي يتفاوت بين الطول والقصر لدى الجهات التي تحول إليها الكتب والمؤلفات تضع الناشر والمؤلف في حرج.

ربيع كسروان (مؤسس ومدير عام «منتدى المعارف» بيروت): دفعة كبيرة لحركة التأليف

قرار إلغاء الرقابة المسبقة على الكتب، سيكون له الأثر الكبير في إحداث نهضة كبيرة في قطاع النشر في المملكة، عن طريق إعطاء دفعة كبيرة لحركة التأليف والكتابة لدى قطاع المؤلفين والكتّاب باختصاصاتهم كافة، فكلما كانت الوسيلة سهلة ومتاحة أقبل المؤلف على تقديم منتوجه بيسر إلى الناشر. إن المؤلف لن ينتظر طويلاً لكي يرى عمله منشوراً أو موزعاً في الأسواق في فترة وجيزة، على عكس ما كان يجري في السابق، حيث يضطر المؤلف السعودي مثلاً إلى نشر عمله خارج المملكة ليقوم الناشر الخارجي بإرساله مجدداً إلى المملكة لكي يقوم بعرضه من خلال أحد الموزعين المحليين السعوديين للفسح القانوني، وهذا مسار طويل للوصول القانوني إلى القارئ والسوق السعودية.
من هنا، ومع تدفق المزيد من أعمال المؤلفين السعوديين عبر الناشرين السعوديين سيضاعف من الأعمال المنشورة بشكل كبير داخل المملكة مع السرعة المتوقعة في إنجاز مسار النشر، ويكون له تأثير مضاعف لأن المزيد يجر المزيد ويشجع الآخرين، وكلما انتعش قطاع النشر شجع ذلك على تحفيز الكتاب للكتابة، وهكذا.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».