دوستويفسكي وكازانتزاكيس وجواد سليم في عيون زوجاتهم

شهادات «نسوية» عن التكلفة الباهظة للاقتران بالمبدعين

لورنا وجواد سليم
لورنا وجواد سليم
TT

دوستويفسكي وكازانتزاكيس وجواد سليم في عيون زوجاتهم

لورنا وجواد سليم
لورنا وجواد سليم

لطالما بدا الإبداع الأدبي والفني ضرباً من الجنون واللا سوية و«الانحراف» السلوكي. وإذا كانت هذه النظرة تنطبق على الكتاب والفنانين بوجه عام، فهي تأخذ صورة أكثر وضوحاً بالنسبة لأولئك الذين يخرجون عن النصوص والمفاهيم السائدة، ليقيموا ممالكهم فوق أرضٍ مأهولة بالجدة والمغايرة واللايقين. ولأن الموهبة وحدها لا تكفي للوصول بتلك المغامرة إلى ذراها الأخيرة، فإن معظم المبدعين الكبار يجدون أنفسهم مجبرين على الانكفاء إلى عزلاتهم المغلقة وعوالمهم الباطنية للتنقيب عن أثمن ما في دواخلهم من كنوز. فهم يحتاجون لكي يذهبوا بعيداً في المغامرة إلى كامل حضورهم في العالم، وإلى كامل حصتهم من الحرية والهواء والنزق والحب والشغف بالحياة. ولأنهم كذلك، فقد بدوا على امتداد الأزمنة عصيين على الامتثال والتدجين والانضواء التقليدي في كنف المؤسسات.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهم السبب الحقيقي الذي دفع كثيرين منهم إلى إيثار الحب على الزواج، حيث يرمز الأول إلى زمن «الاشتداد» الضاري، فيما يرمز الثاني إلى زمن «الامتداد» الممل، على حد تعبير صادق جلال العظم. وبما أن وضع التجارب الزوجية للمبدعين في خانة واحدة هو نوع من التعسف ومجافاة الحقيقة، فقد آثرت عبر هذه المقالة، والمقالة التي ستليها، أن أترك هذه المهمة في عهدة النساء اللواتي كتبن بأنفسهن سيراً ومذكرات واعترافات مختلفة عن علاقاتهن بأزواجهن المبدعين، ممن تشاطرن معهم حيواتٍ وسنوات عيش بدت، على تفاوت مسراتها وغصاتها، أقرب إلى «الرقص مع الذئاب» منها إلى أي شيء آخر!

مذكرات أنّا غرغوريغنا
«لم أفكر يوماً في كتابة المذكرات، فأنا أفتقر إلى الموهبة الأدبية، وكنت طوال عمري مشغولة بإصدار مؤلفات زوجي الراحل»، تقول أنّا غريغوريغنا، زوجة دوستويفسكي الثانية، في مقدمة الكتاب الذي عرضت من خلاله بعضاً من سيرتها مع صاحب «الجريمة والعقاب». وهي تعترف في الوقت ذاته بأن ما دفعها إلى الكتابة هو تدهور صحتها، وخوفها من أن يضيع مع رحيلها كثير من التفاصيل والوقائع التي قد يهتم القراء بمعرفتها وكشف النقاب عنها.
على أن عدم انتساب غريغوريغنا إلى أندية الكتابة وعالم التأليف لم يمنعها من تقديم صورة وافية عن المجتمع الروسي في أواسط القرن التاسع عشر، وما تخلله من اضطرابات سياسية واجتماعية، وعن وجوه الاستبداد القيصري التي أودت بحياة عدد من الكتاب المؤازرين للثورة، من مثل بوشكين وليرمنتوف، فيما استطاع دوستويفسكي من جهته أن يفلت بأعجوبة من مصير مماثل. وإذا كانت نجاة الكاتب المناهض لنظام الرق والاستبداد القيصري من الحكم بإعدامه قد أسهمت في رفع منسوب توتره النفسي والمرضي، فإنها أسهمت من جهة أخرى -كما ترى الزوجة- في زيادة تعلقه بالحياة، وتطوير تجربته الروائية.
ويُحسب للكاتبة أنها لم تشأ الخروج خالية الوفاض من الزواج غير المتكافئ بينها وبين صاحب «الإخوة كارامازوف»، بعد أن عملت في البداية مساعدة له في تدوين رواياته، بل عرفت كيف تفيد من ثقافته الواسعة وثروته التعبيرية وطريقته في السرد. كما حاولت -قدر استطاعتها- تقديم بورتريه مقنع تفصيلي عن شريك حياتها «ذي الوجه الشاحب كوجوه المرضى» الذي يتفاوت بؤبؤا عينيه في اللون والاتساع، بحيث يكاد أحدهما يحتل فضاء العين ويأتي على معظم القزحية بفعل التأثير البالغ لدواء نوبات الصرع. غير أننا لن نعثر أبداً في مذكرات أنّا غريغوريغنا على ما يشي بأي شعور بالمنافسة أو الصراع الضمني بينها وبين زوجها الكاتب، ولن نعثر بالمقابل على كل ما يتصل بوجوه العلاقة العاطفية والجسدية بين الزوجين، بل إن الوجه الأمومي لأنّا الطافح بالحنو والحدب والتفاني في خدمة الزوج يطغى بشكل واضح على صورتها الأنثوية، ويكاد يحجبها بشكل كامل.
لكن إقرار صاحبة المذكرات بعدم انتسابها إلى الوسط الأدبي في مجتمع القرن التاسع عشر الروسي لم يمنعها من إظهار معرفتها الوثيقة بتجربة دوستويفسكي، ومن الكشف عن بعض الخيوط الخفية التي تربط بين الواقعي والمتخيل في كثير من أعماله، فهي تشير إلى أن في رواية «المقامر» كثيراً من شخصية زوجها الذي كان مولعاً بهذه اللعبة الخطرة التي أفقدته كل ما جناه في حياته الشاقة من أموال. كما تطلعنا الكاتبة على أن زوجها قد اتخذ من مربية ابنه الأصغر نموذجاً شبه كامل لشخصية العجوز التي تتصدق للكنيسة عن روح ابنها الغائب في رواية «الإخوة كارامازوف»، إضافة إلى شحن الرواية المذكورة ببعض هذيانات زوجته الأولى المتأتية عن وفاة ابنهما ألكسي. ومع أن أنّا تشير إلى العلاقة الوثيقة التي جمعت بين دوستويفسكي وتولستوي، فإنها تفاجئ قراءها بالإشارة إلى أن القدرات الخطابية الهائلة للأول هي التي دفعت الثاني إلى التهرب من إحدى المناسبات السياسية الحاشدة خشية أن تضعه المقارنة مع زميله الساحر «في موقف محرج لا تُحمد عقباه».

إيليني ساميوس في ظل كازانتزاكيس
تعترف الكتبة اليونانية إيليني ساميوس، من جهتها، بأنها كتبت «المنشق» الذي قدمت من خلاله فصولاً مهمة من سيرة زوجها نيكوس كازانتزاكيس بناء على رغبة صاحب «زوربا اليوناني» الذي أسرّ إليها بأنها الشخص الوحيد القمين بهذه المهمة لأنها الكائن الألصق به الأقرب إلى قلبه، وهي التي تشاطرت معه ثلث قرن كامل من رغد العيش وآلامه ومتاعبه. وإذا كانت مؤلفة الكتاب قد حرصت على إيلاء الجانب العاطفي الذي جمعها بالكاتب اليوناني الشهير ما يتطلبه من اهتمام وتعقب دؤوب لمسار العلاقة بين الطرفين، فإنها قد حرصت في الوقت ذاته على تقديم صورة وافية عن ذلك الجزء من القرن العشرين الذي انتمى إليه الكاتبان، وما شهده من حروب وأهوال وتغيرات في الثقافة والمفاهيم وأنماط الحياة المختلفة. ومع أن أنّا غريغوريغنا قد حاولت في مذكراتها أن تفعل الشيء ذاته، فإن الفارق بين التجربتين لا ينحصر في كون هذه الأخيرة أقل ارتباطاً بعالم الكتابة من مثيلتها اللاحقة، بل في حرص إيليني -بسبب موهبتها المتميزة وانخراطها في صناعة الأحداث- على تحويل كتابها إلى بانوراما شاملة تتسع مروحتها لما عايشه الثنائي العاشق من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن تجعل إيليني ساميوس من الرسائل التي دأب كازانتزاكيس على كتابتها إليها العمود الفقري لكتاب «المنشق»، ذلك أن تلك الرسائل لم تقتصر مضامينها على البوح العاطفي الحميم فحسب، بل عمل الكاتب اليساري على تحويلها إلى منصة مهمة للتعبير عن مواقفه الجريئة من أحداث عصره، فضلاً عن آرائه المتقدمة في الأدب والفكر. لكن النقطة الأهم التي ينبغي للقارئ الوقوف عليها، لما تحمله من عبر ودلالات، هي تلك المتصلة بغرابة العلاقة بين الطرفين، والتي شاء لها كازانتزاكيس أن تكون على مقاس مزاجه الشخصي وظروفه الحياتية. فقد اقترح الكاتب على إيليني، في السنوات العشرين السابقة على الزواج، أن تقتصر لقاءاتهما المباشرة على عشرة أيام في السنة لا أكثر، وأن يقضيا بقية العام في حالة تباعد تام، باستثناء ما يتبادلانه من رسائل. ومع أن كازانتزاكيس كان يهدف من وراء ذلك، كما قال لساميوس، إلى منع عاصفة الحب التي جمعتهما من الركود، كما إلى التفرغ لمشروعه الروائي الشاق، فقد كان الأمر قاسياً أشد القسوة على إيليني التي كانت تحتاج إلى من يشاطرها لحظات الوحشة والضعف وأعباء الحياة اليومية. ومع ذلك، فإنها قبلت التحدي مؤثرة الوقوف إلى جانب الرجل الذي أحبته، ولو تطلب الأمر كثيراً من التضحيات والتنازلات الشخصية. لكن اللافت في الكتاب الضخم الذي يتجاوز عدد صفحاته الخمسمائة خلوه من الرسائل التي بعثت بها إيليني إلى كازانتزاكيس، على الرغم من أن نشرها كان يمكن أن يضيف نكهة خاصة إلى أدب الرسائل المتبادلة بين الأدباء، مما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان هذا الامتناع ناجماً عن إصرار المؤلفة الشخصي على البقاء في ظل القامة الشاهقة للكاتب الذي تعلقت به أم بناء على رغبة الزوج ولأسباب ذكورية بحتة.

سنوات لورنا مع جواد سليم
لم يكن ليدور في خلد الفنانة البريطانية لورنا هيلز، من جهة أخرى، أن تحول بعضاً من وقائع حياتها المشتركة مع الفنان العراقي الشهير جواد سليم إلى كتاب مستقل، لو لم تقترح الكاتبة العراقية إنعام كجه جي على أرملة سليم مساعدتها في تنفيذ هذه الفكرة في أثناء المعرض الفني الذي أقامته هيلز في لندن عام 1989. هكذا جاء كتاب «لورنا / سنواتها مع جواد سليم» ثمرة اللقاءات الطويلة التي تولت خلالها الثانية سرد حكايتها المؤثرة مع صاحب «نصب الحرية»، فيما عملت الأولى على صوغ ما سمعته بأسلوبها المميز ولغتها الرشيقة البعيدة عن الإطناب والإفاضة الإنشائية.
ومع أن لورنا وسليم ينتميان إلى بيئتين مختلفتين تمام الاختلاف على المستويين الحضاري والاجتماعي، فإنها لا تكشف في الكتاب عن أي تبرم يُذكر بنمط الحياة السائد في العراق في مطالع خمسينيات القرن الفائت، بل تعبّر بصفتها رسامة عن افتتانها بشمس تلك البلاد الباهرة في سطوعها الدائم وتدرجاتها اللونية المترعة بالضوء، مظهرة تبرمها من قتامة الألوان المضببة الرمادية في بلدها الأم. لهذا السبب يبدو الاختلاف واضحاً بين التجربة العاطفية والحياتية الناجحة لسليم ولورنا، والتجارب المماثلة لسهيل إدريس والطيب صالح والحبيب السالمي، حيث سوء التفاهم الحضاري يؤدي في الأعم الأغلب إلى تصدع العلاقات العاطفية وانهيارها. ومن يتمعن في خلفية الكتاب لا بد أن يصل إلى استنتاج مفاده أن ولاء الثنائي الزوجي للفن والجمال هو الذي سهل على الحب الذي يجمعهما سبيل الوصول إلى مآلاته الإيجابية.
وإذ تكشف هيلز عن الانفتاح الملحوظ للمجتمع العراقي زمن الملكية الذي أخذ لاحقاً في التراجع والانكماش -حسب رأيها- تكشف في المقابل عن شغف عبد الكريم قاسم الذي تزعم الثورة على العهد الملكي بالفن والثقافة، الأمر الذي دفعه إلى إيفاد سليم إلى إيطاليا لإنجاز جداريته الضخمة. كما تحرص لورنا على أن تقدم زوجها في صورة الرجل المثالي الذي أخلص في حبه لزوجته وابنتيه، بقدر ما أخلص لفنه وبلاده، نافية احتمال أن يكون قد عاش مغامرات عاطفية خارج البيت، معتبرة إياه زوجاً مستقيماً يمكن الوثوق به، وفق اعترافاتها لكجه جي. أما الطريقة التي قضى بها جواد سليم نحبه، حيث أفضى تسلقه للسلالم المفضية إلى قمة جداريته إلى إصابته بالنوبة القلبية التي أسلم بعدها الروح، فهي لا تجعل منه الشهيد الذي قضى على مذبح الولاء للفن والوطن فحسب، بل لعلها تعكس في إطارها الرمزي أعمق ما تتمخض عنه العلاقة بين الفن والحياة من جهة، وبين الجمال والموت من جهة أخرى. كأن قلب النحات العبقري شاء أن يمهله الفترة الكافية لإنجاز ذروة أعماله النحتية، حتى إذا أطل من هذه الذروة على العالم، توقف القلب المعطوب عن الخفقان، تاركاً للجسد المهيض أن يفنى، وللجمال الذي صنعه بنفسه أن ينوب عنه في رحلة البحث عن الخلود.



أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية
TT

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

يُعد الروائي الجزائري أمين الزاوي من أبرز الأصوات الأدبية في المشهد المغاربي الراهن؛ يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وحصل على عدة جوائز دولية، منها جائزة «الحوار الثقافي» عام 2007 التي يمنحها رئيس الجمهورية الإيطالية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 13 لغة، كما وصل عدد منها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، آخرها رواية «الأصنام» (2024)، ومن رواياته بالفرنسية «الخنوع»، و«طفل البيضة». يعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر المركزية، وتولى منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية حتى عام 2008. صدرت له أخيراً رواية «منام القيلولة» عن دار «العين للنشر» بالقاهرة... هنا حوار معه حولها والمحطات المهمة في تجربته الأدبية.

* في روايتك الأحدث «منام القيلولة» تتفرع من الواقع مسارات للغرابة من خلال حكاية «أم» جزائرية... حدِّثنا عن ملامح هذا العالم الروائي الجديد؟

- كتبت هذه الرواية بقلبي، بحس خاص جداً، كانت أحداثها تسكنني منذ سنوات، وهي مرتبطة، ليس بشكل مباشر، بأشخاص شكلوا جزءاً مهماً في حياتي منذ الطفولة. كل شخصية روائية في «منام القيلولة» لها معادلها الاجتماعي لكنها كُتبت بشكل أدبي بكل ما في الأدب من نزعة التخييل والمسخ والتحوير والاختراق.

تتشكل الرواية إلى قسمين متداخلين في تناوُب وتناغُم؛ قسمٌ سمعتُ جلَّ وقائعه أو رُوي لي، وهو القسم الخاص بزمن الثورة المسلحة، حيث الحديث عن الخيانة الوطنية وخيانة الصداقة، وفيها أردت أن أقول إن التاريخ هو من صناعة البشر، والبشر مُعرضون للضعف ولارتكاب الأخطاء الصغيرة والكبرى، والثورة لها منطقها المتميز بالعنف والخوف والشجاعة، كل هذه القيم تتقدم معاً مختلطةً ومتنافرةً ومتقاطعةً، وهذا هو الجو الذي يتشكل فيه شقاء وعي المناضل.

أما القسم الثاني من الرواية فقد عايشته وعشته، وفيه أعرض بعض شخوص تشبه بعض الذين قاطعتهم في حياتي، ولكنهم سردياً خرجوا وتحرروا من الحالة الواقعية ولبسوا لبوس الشخوص الروائية، وهم من يمثلون الجيل الجديد في ظل الاستقلال وشكل الدولة الوطنية وما عاشته من تقلبات سياسية وحروب أهلية.

* يُحيل عنوان روايتك «الأصنام» إلى ميراث مجازي من التطرف والتحجّر، ثم سرعان ما يحملنا إلى فضاء الرواية المكاني وهو مدينة «الأصنام». حدِّثنا عن هذا التراوح بين المجاز والمكان.

- أحياناً يكون العنوان هو النقطة التي تتشكل منها الرواية ككرة الثلج، تُحيل كلمة «الأصنام» إلى بُعدين مركزيين؛ الأول يرمز إلى هذه الأصنام السياسية والدينية الجديدة التي نُصبت في المؤسسات وأصبحت بديلاً عن الله وتتكلم باسمه وبديلاً عن الوطن وتتكلم باسمه، والبعد الآخَر هو الإحالة إلى مدينة «الأصنام» التي توجد في الغرب الجزائري، التي أصبحت تسمى اليوم «شلف»، وتغيير اسمها جاء جراء تخريجات شعبوية دينية وسياسية أفتت بها «أصنام» السياسة والدين في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعرضت المدينة لزلزال مدمر، ففسرته «الأصنام» الدينية والسياسية الشعبوية على أن الله ضرب المدينة بهذا الزلزال بسبب اسمها الذي تحمل والذي يُحيل إلى الشرك والكفر ويضرب وحدانية الله.

بهذا المعنى فالمكان في الرواية ليس حيادياً بل هو جزء من إشكالية الرواية، وهو يحيل إلى مستوى زيف الوعي التاريخي الجمعي، اختياره له دلالاته السياسية والحضارية والعقلية.

* تحاورت عبر التخييل الأدبي مع القصة التاريخية الأولى للقتل «قابيل وهابيل» ووضعتها في سردية مضادة في روايتك. ما الذي ألهمك لتطوير تلك المعارضة الأدبية؟

- سبق لي أن نشرت رواية بعنوان «حر بن يقظان»، وفيها أقمت معارضة فلسفية لقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهي أيضاً قريبة من معارضة رواية «روبنسون كريزوي» الفرنسية، حاولت بها أن أقول إن «الحرية أسبق من الحياة والوجود»، لذا استبدلت بـكلمة «حي» كلمة «حر».

وفي رواية «الأصنام» حاولت مقاربة فلسفة الأخوة التي لم يُكتب عنها إلا القليل جداً، عدت للحكاية التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة عن قابيل وهابيل، وكيف كانت أول عملية إجرامية في التاريخ، لكني عكست الحكاية وبنيت علاقة عشق بين الأخوين مهدي وحميميد، وكيف أن الأخ الأصغر يعطي حياته للمخاطر والأسفار والحروب بحثاً عن قاتل أخيه والانتقام منه.

* الحِس الساخر بارز كأداة نقدية في أعمالك، كالقبض، مثلاً على والد البطل في رواية «الأصنام» بسبب اسم ابنه...

- السخرية سلاح مُقاوم، في رواية «الأصنام» اشتغلت على السخرية التي تكشف مستوى الرقابة والقمع الممارَس على المواطن، فحتى الأسماء يمكنها أن تكون سبباً في توقيف وسجن مواطن بسيط، ومن ذلك أن الأب يتم سجنه لسبب بسيط هو أنه سمى ابنه الذي وُلد يوم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة، سمَّاه باسم حميميد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الرئيس أحمد بن بلة. وفي السجن يتعرف على «الصرصور» الذي يرافقه في زنزانته ويكسر عنه وحدته ويصبح صديقاً حميماً له، ويظل قلبه مشدوداً له حتى بعد خروجه من السجن.

* في أعمالِك انشغال بصوت العائلات وتتبع أصواتها ومآلاتها، ما أكثر ما يؤرقك في سيرة الأجيال الجزائرية المتلاطمة بين تيارات الاستعمار والتحرر والثورات؟

- العائلة مؤسسة بقدر ما هي قامعة هي في الوقت نفسه مورِّثة لمجموعة من التقاليد تتناولها الأجيال. إنَّ الحرية لا يمكنها أن تُفهَم وتُدرَك إلا داخل الأسرة؛ فالعلاقة بين الأب والزوجة، بين الأب وابنته، بين الأخ وأخته هي مقياس أساسي لفهم الوعي الجمعي لحرية المرأة، والخطابات بين أفراد العائلة تعكس في مفرداتها كثيراً من اللامسكوت عنه واللامفكَّر فيه، لذا جاءت رواياتي، وبالأساس روايتا «الأصنام» و«منام القيلولة»، تكتب التاريخ والمجتمع من خلال تفكيك سلّم العلاقات ما بين أفراد العائلة، وفيما بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. فالأسرة تشبه في بنيتها هرم بنية السلطة السياسية بشكل واضح.

* يبدو التراث جلياً في تفاصيل أعمالك، كتلك المقاربة في عنوان «الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق»، وتُصدِر إحدى رواياتك برثاء المهلهل بن ربيعة لشقيقه كُليّب... حدِّثنا عن علاقتك بالتراث العربي؟

- أعدّ نفسي قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي ومهتماً به، التراث المكتوب والشفوي على حد سواء، ولكن يجب أن ننظر إلى تراثنا، ونتعامل معه، في علاقته مع التراثات الإنسانية الأخرى حتى تتجلى لنا الصورة الناصعة فيه والمتردية أيضاً، لأن التقوقع حول تراثٍ وطنيٍّ والزهو به كثيراً قد يُسقطنا في مرض الاكتفاء بالذات. حين اكتشفتْ الإنسانية قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تبناه الجميع، لا لأنها من هذه الهوية أو تلك، ولكن لأنها تعكس إبداعاً خالداً يمس البشرية جمعاء.

في تراثنا الجزائري أسعدُ دائماً بقراءة «الحمار الذهبي» لأبوليوس، وأيضاً «مدينة الله» للقديس أو أوغسطين وغيرهما، ويثيرني أيضاً التراث الأمازيغي الذي هو وعاء حقيقي لذاكرة البلاد، كما أقرأ الجاحظ وأعدّه معلم الحكاية، وأقرأ المعرّي «رسالة الغفران» وأعدّه مُعلم الجرأة.

* تحمل أعمالك رؤية آيديولوجية ونقدية، هل يصعب على الروائي صاحب الموقف أن يُحيّد نفسه وموقفه وهو يكتب الأدب، أم أن الحياد هنا نزعٌ لصوته الخاص؟

- الكاتب له قناعة فلسفية وسياسية واجتماعية، وبالتالي لا كتابة خارج هذه القناعة، لكن يجب النظر إلى هذه العلاقة بشكل مُعقد وليس ميكانيكياً، فالفن ومنه الأدب لا يعكس قناعة الكاتب بشكل آلي ولكن الكتابة الإبداعية تقول تلك القناعة بقناع جمالي مُعقد ومركّب إنْ على مستوى اللغة أو من خلال تحليل نفسيات الشخوص الروائية أو من خلال البناء السردي نفسه، الرواية تحتاج إلى قول الآيديولوجيا جمالياً وتلك هي مغامرة الكتابة والتحدي الذي عليها مجابهته.

* كيف تتأمل المسافة بين اللغتين العربية والفرنسية؟ ما الذي يجعلك تختار الفرنسية لكتابة رواية؟

- أكتب باللغتين العربية والفرنسية في انسجام منذ ثلاثين سنة. نشرت 15 رواية باللغة الفرنسية، بعضها يدرَّس في كثير من الجامعات الأوروبية المختلفة، ونشرت 15 رواية باللغة العربية. تربطني باللغة علاقة شخصية-ذاتية أكثر منها موضوعية، لكل كاتب لغته، وما أُصر عليه هو أنني لا أخون قارئي في اللغتين. ما يشغلني بالعربية هو ذاته ما يشغلني بالفرنسية، والإشكالات التي أكتبها لا تفرِّق بين هذه اللغة وتلك.

حين أبدأ كتابة العمل الروائي تسكنني حالة سيكولوجية لغوية غير مفسَّرة، فأجدني أكتب من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، ثم أغرق في شهوة الكتابة بهذه اللغة أو بتلك. ما يُفرق بين الكتابة باللغتين هو القارئ، فالقارئ بالفرنسية له تقاليد قبول كل الموضوعات والإشكاليات، لا تابوه في رأسه، وهذا ناتج عن علاقته بنصوص روائية فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية كُتبت في ظل حرية كبيرة وسقف قبول عالٍ، أما القارئ بالعربية، وإن كنا نلاحظ تغيرات كثيرة طرأت عليه أخيراً فإنه لم يتخلص من نصب المحاكَم للروائيين في كثير من المرات، هي في غالبيتها محاكم أخلاقية أو دينية لا علاقة لها بالأدب، وهذا العطب في الفهم وفي المفاهيم قادم من مناهج المدرسة والجامعة التي تحتاج إلى مراجعة جوهرية.