الحامض النووي يساعد على التكهن بوجوه المشبوهين في ارتكاب جرائم

لم يكن هناك أي شهود معروفين في جريمة قتل شابة وابنتها البالغة من العمر 3 سنوات منذ 4 أعوام، إذ لم تلتقط أي كاميرات للمراقبة صورا لأي شخص. مع ذلك أصدرت الشرطة في كولومبيا بولاية ساوث كارولاينا الشهر الماضي صورة لمشتبه فيه. وعوضا عن الاعتماد على فنان يرسم صورة شخصية لمشتبه فيه استنادا إلى أوصافه التي يدلي بها شاهد، تم رسم وجه باستخدام كومبيوتر استنادا إلى الحامض النووي الذي تم العثور عليه في مسرح الجريمة.
وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها رسم صورة لمشتبه فيه بهذه الطريقة، لكنها لن تكون الأخيرة، إذ تزداد قدرة المحققين على تحديد الصفات الجسمانية للمشتبه فيهم من خلال آثار الحامض النووي التي يخلفونها وراءهم، وهو ما قد يصبح وسيلة جديدة فعالة بالنسبة إلى سلطات تطبيق القانون. ويستطيع المحققون الذين يعملون في هذا المجال بالفعل تحديد لون شعر وعيني مشتبه فيه بدقة كبيرة. وكذلك من الممكن، أو قد يكون ممكنا في وقت قريب، التكهن بلون البشرة، والنمش، والصلع، وتموج الشعر، وشكل الأسنان والعمر. وقد تتمكن أجهزة الكومبيوتر في النهاية من البحث عن الوجوه، التي تم رسمها بمساعدة الحامض النووي، في سجلات صور المجرمين.
وحتى إذا لم يساعد ذلك في العثور على الجاني فورا، فيمكن أن يقدم الشاهد الوراثي، إن جاز التعبير، فائدة كبيرة على حد قول باحثين.
قالت سوزان وولش، أستاذ مساعد في علم الأحياء بجامعة إنديانبوليس الهندية التي فازت مؤخرا بمنحة قيمتها 1.1 مليون دولار من وزارة العدل للعمل على هذه الوسائل: «هذا يضيق دائرة المشتبه فيهم».
مع ذلك تثير طريقة تحديد الأوصاف باستخدام الحامض النووي في القضايا الجنائية بعض الشكوك، إذ يشكك بعض العلماء في مدى دقة هذه التكنولوجيا، خصوصا في ما يتعلق بقدرتها على إعادة تكوين الوجوه. ويقول البعض الآخر إن استخدام تلك الطرق والوسائل قد يكرس للعنصرية داخل أجهزة تطبيق القانون ويمثل انتهاكا للخصوصية. وقالت إيرين ميرفي، أستاذ القانون في جامعة نيويورك: «إن هذا المجال من المجالات التي تطرح فيها التكنولوجيا للنقاش المجتمعي وتثير الجدل».
بطبيعة الحال، يستخدم الحامض النووي منذ أكثر من عقدين في تعقب المشتبه فيهم، أو في إدانتهم، أو تبرئتهم، لكن حتى هذه اللحظة كان ذلك يتم في إطار المطابقة بين الحامض النووي لمشتبه فيه بالحامض النووي الذي يتم العثور عليه في موقع الجريمة، أو بالبحث عنه في قاعدة بيانات الحكومة. على الجانب الآخر، تعد هذه الطريقة الجديدة مختلفة، إذ تمثل محاولة لتحديد الصفات الجسمانية من خلال الآثار الوراثية التي يعثر عليها في مسرح الجريمة عندما لا يتم التمكن من تحديد مشتبه فيه بالطريقة التقليدية. ورغم أن هذا العلم لا يزال يمر بمراحل تطور، بدأت شركات صغيرة مثل «بارابون نانو لابس»، التي قدمت الصورة في قضية ساوث كارولاينا، و«أيدينتيتاس»، تقديم خدمات من هذا النوع إلى أجهزة تطبيق القانون.
وقدمت شركة «إيلومينا»، أكبر شركة مصنعة لبرنامج الحامض النووي، مؤخرا منتجا يمكن استخدامه للتكهن ببعض الصفات، إضافة إلى الغرض التقليدي المتمثل في تحليل الحامض النووي. وقدمت شرطة «تورنتو» حامضا نوويا من 29 قضية منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى عام 2014 إلى شركة «أيدينتيتاس». وكانت درجة جودة العينة في 10 حالات متدنية إلى حد لا يتيح إجراء أي تحليل.
وفي عدد من القضايا الأخرى، قال المحقق ستيسي غالانت، المتخصص في جرائم القتل التي تتم بدم بارد: «لقد مكننا هذا من تغيير اتجاه المسار الذي كنا نركز عليه في البداية»، ومع ذلك أشار إلى أن ذلك لم يسفر عن القبض على أي شخص أو إدانته.
ويقترب الباحثون الآن من تحديد بعض الصفات الجسمانية مثل لون العينين والشعر. وتبلغ دقة نظام يطلق عليه «إتش إيريس بليكس»، تم اختراعه في المركز الطبي بجامعة «إيراسموس» في هولندا، 94 في المائة في تحديد ما إذا كان لون عيني المشتبه فيه أزرق أم بنيّا، لكن دقته تنخفض في تحديد الألوان المتوسطة الدرجة مثل الأخضر، كما أوضحت سوزان وولش التي ساعدت في ابتكار هذه التكنولوجيا.
وتبلغ دقة عمل نظام «إتش إيريس بليكس» الذي يستطيع تحليل 24 متغيرا وراثيا، نحو 75 في المائة في ما يتعلق بلون الشعر الذي قد يتغير مع تقدم الإنسان في العمر على حد قول سوزان. ويبحث العلماء عن متغيرات وراثية تتعلق بالصفات الجسمانية بالطريقة التي يبحثون بها عن الجينات التي قد تسبب الأمراض، من خلال دراسة الخريطة الوراثية البشرية لأشخاص لديهم أو ليس لديهم صفة أو مرض ما بحثا عن علاقات. مع ذلك قد تكون هذه مهمة عسيرة للغاية.
وتم التوصل إلى كثير من تلك التقنيات والوسائل من خلال دراسة أوروبيين، لذا قد لا تكون ناجحة في أماكن أخرى من العالم كما أوضح كينيث كيد، أستاذ الوراثة في جامعة ييل. ويشكك هو وخبراء آخرون في إمكانية تحديد الوجوه، التي تتسم بالتعقيد الشديد، من خلال الحامض النووي. وفي الوقت الذي تلعب فيه العوامل الوراثية دورا كبيرا، كما يتضح من تشابه التوائم المتماثلة أو الأقارب، يقول بعض الخبراء إنه لم يتم التوصل إلى معلومات كافية بشأن العلاقة بين الجينات وملامح الوجه. وقال بينيديكت هولغريمسون، رئيس علم أحياء الخلية والتشريح بجامعة كالغاري الذي يدرس تطور الوجوه: «هناك بعض الخيال العلمي في الأمر». وأشار المنتقدون إلى أن «بارابون»، ومقرها ريستون في ولاية فرجينيا، التي تلقت منحا من وزارة الدفاع الأميركية، لم تنشر معلومات في دوريات تتم مراجعتها من قبل الزملاء، تؤكد صحة طرقها رغم أن هذا الأمر كان سيزيد المبيعات. وأعلنت «بارابون» الأسبوع الماضي أن خبيرا شهيرا من الخارج سوف يجري دراسة للتأكد من صحة الطرق، مشيرة إلى أنه قد يتم نشر تلك الدراسة.
وصرح إيلين ماكري غريتاك، مدير علم الأحياء الذي يستخدم برامج الكومبيوتر لدى «بارابون»، بأن أسلوب الشركة يقوم جزئيا على عمل مارك شريفر، أستاذ علم الإنسان والوراثة في جامعة ولاية «بين»، الذي نشر تلك الطرق العام الماضي. وابتكر شريفر، وشريكه الأساسي بيتر كلاس من جامعة «كيه يو ليفين»، في بلجيكا طريقة رياضية معقدة لتكوين الوجوه على أساس قياس إحداثيات ثلاثية الأبعاد لأكثر من 7 آلاف نقطة على الوجه. وتوصلا إلى طريقة لتكوين وجه وراثي استنادا إلى جنس الشخص وخليط الجينات التي ورثها من أسلافه كما يوضح الحامض النووي. ويمكن بعد ذلك تعديل الوجه على أساس 24 متغيرا وراثيا في 20 جينا لهم علاقة بتنوع ملامح الوجه.
وقال الباحثون في أوراقهم البحثية إن التحليل القائم على جنس الشخص وأسلافه لم ينجح سوى في تفسير 23 في المائة من التنوع في الوجوه، وإن المتغيرات الوراثية لم تضف كثيرا. مع ذلك ما زال العمل على هذه الطريقة في مراحله الأولى، إذ أضافوا المزيد من المتغيرات الوراثية في محاولة لتطوير دقة هذه الطريقة. وبدت بعض الصور التي تم تكوينها شبيهة بالوجه الحقيقي للمتبرع بالحامض النووي، في حين لم يكن هناك شبه كبير في حالات أخرى.
مع ذلك أحيانا يقدم ذلك لأجهزة تطبيق القانون خيارات مناسبة في قضايا قتل، ففي الحالة التي حدثت في كولومبيا بولاية ساوث كارولاينا وصلت تحقيقات الشرطة في قضية قتل ساندرا ألستون (25 عاما) وابنتها ماليجا بويكين، في شقتها في يناير (كانون الثاني) 2011، إلى طريق مسدود، ولم يكن هناك أي آثار تدل على اقتحام المنزل مما يشير إلى أن ألستون كانت تعرف القاتل. وتبرع أكثر من مائة شخص من معارفها طواعية بعينات من الحامض النووي، لكن لم يكن هناك أي تطابق بينها وبين الآثار التي وجدت في مسرح الجريمة. وبعد مرور 4 أعوام وبالتحديد في 9 يناير نشرت الشرطة صورة عملت عليها شركة «بارابون» لـ«شخص لديه دافع». وقال مارك فينسون، محقق شرطة: «رأينا أن الأمر يستحق المحاولة». وأشار مارك إلى أن الشرطة دفعت إلى «بارابون» 4,200 دولار مقابل الصورة، ولم تتحقق من التكنولوجيا من مصدر مستقل. وأوضح أن الصورة ساعدت في تقديم اتجاهين في عملية البحث، لكن لم يقُد أي منهما إلى شيء. وتذكر سلطات تطبيق القانون أنه غير مسموح بتقديم المعلومات الخاصة بالصفات الجسمانية المستخلصة من الحامض النووي إلى المحكمة لعدم رسوخ أقدام هذا العلم بعد.
مع ذلك شجع نجاح طريقة تحديد الأوصاف باستخدام الحامض النووي المنتشرة بعض الخبراء. وأوضحت دوانا فولوايلي، أستاذ مساعد في علم الإنسان بجامعة «ستانفورد»، أنها شعرت بالقلق من أن يتيح استخدام هذه الصور تبني نهج عنصري. وأشارت إلى أن شريفر ابتكر هذا النظام من خلال تحليل وجوه الأشخاص من ذوي الأصول المختلطة الغرب أفريقية والأوروبية، والحامض النووي الخاص بهم. وأضافت قائلة: «هذا يؤدي إلى تكنولوجيا قادرة على تكوين وجوه أميركية - أفريقية». وأوضحت أن الصورة التي تم تقديمها في قضية ساوث كارولاينا كانت لشاب أسود البشرة ينتمي إلى العرق الأفريقي. ولا تسمح بلجيكا وألمانيا باستخدام هذا الطريقة كأداة من أدوات الطب الشرعي. وكذلك تحظر هولندا استخدامها في التكهن بالصفات الجسمانية الظاهرة مثل الشعر ولون العينين. وفي الولايات المتحدة الأميركية تمنع بعض الولايات إجراء اختبارات حامض نووي لتحديد ما إذا كان شخص مصابا بمرض، أو عرضة للإصابة بمرض على حد قول ميرفي. مع ذلك تتعلق تلك القوانين بالعينات المأخوذة من شخص معروف مثل المسجلين في قاعدة بيانات الحامض النووي، في حين يعد الحامض النووي الموجود في موقع الجريمة من الجهة القانونية مادة مهملة. وأضافت ميرفي: «لا يوجد في القانون ما يحدد ما يمكنك فعله بعينة تم العثور عليها في مسرح الجريمة».
* خدمة «نيويورك تايمز»