أوليفييه بولج لـ («الشرق الأوسط»): أحب أن أؤلف قصصا متجددة في كل عطر

عطار «شانيل» الجديد.. هذا الشبل من ذاك الأسد

أوليفييه بولج
أوليفييه بولج
TT

أوليفييه بولج لـ («الشرق الأوسط»): أحب أن أؤلف قصصا متجددة في كل عطر

أوليفييه بولج
أوليفييه بولج

سمها كما تشاء: محاباة أم محسوبية أم وفاء أم ضربة حظ، لكن عندما تجلس مع الشاب أوليفييه بولج وتتجاذب معه أطراف الحديث، تتبخر كل هذه الأفكار المسبقة، وتكتشف مدى حنكة وذكاء دار «شانيل» في اختيارها عطارا خاصا لها، خلفا لوالده جاك بولج. هذا الأخير ظل معها منذ عام 1978، لكنه هذا العام سلم المشعل لابنه الأربعيني، ما يشير إلى أهمية الاستمرارية بالنسبة للدار الفرنسية من جهة، وإلى تقديرها للعنصر العائلي من جهة ثانية.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن والده، جاك، هو الذي أهدانا عطورا مميزة مثل «كوكو شانيل»، «تشانس»، و«ألور»، ما يجعل البعض يحضرون أنفسهم لعقد مقارنات بينهما. بعد الحديث مع أوليفييه، تشعر بأن أي مقارنة مضيعة للوقت، لأنه بالأساس لا يريد أن يعيش في جلباب أبيه، كما أنه هو الآخر حقق نجاحات لا يستهان بها، مثل «فلاوروبومب» لفيكتور أند رولف، العطر الذي حقق نجاحا تجاريا منقطع النظير، فضلا عن عطر «فلورابوتانيكا» لبالنسياجا وغيرهما. في مقابلة خاصة معه في مقر «شانيل» بباريس، كشف الستار عن أول عطر ابتكره للدار اسمه «ميسيا» Misia، سيدخل ضمن عطورها الخاصة والمتخصصة Les Exclusifs ليسجل من خلاله عهدا جديدا في تاريخ الدار وفي سيرته الذاتية على حد سواء. فوق طاولة زجاجية عريضة، وُضعت عينات من العطر، ما إن تفتحها حتى تنبعث منها رائحة ساحرة، هي مزيج من البودرة السائبة المعطرة والورد. في الجهة المقابلة، جلس أوليفييه، في مكان استراتيجي، واضعا رجلا على رجل، وكأنه يتعمد أن يراقب رد الفعل الأولي، وبابتسامة وديعة، تشك فيما إذا كانت تشي بالتواضع أم بالثقة والفخر، يجيب على كل الأسئلة بصوت هادئ وبتأنٍ شديد، وكأنه يفكر في كل كلمة عشر مرات، قبل أن يتفوه بها. ومع ذلك لا تشعر بأن إجاباته محسوبة أو تأتي من نص كتب له وملزم به، بل العكس. مع كل إجابة، يتأكد الإحساس بأنه يتميز بشخصية شفافة ورقيقة لا تأخذ نفسها محمل الجد، لكنها في الوقت ذاته تعرف ما تريد، تماما مثل «شانيل». وهذا ما ذكرني بالمثل العربي القديم «وافق شن طبقة». بأناقته ووسامته وهدوئه، يعكس صورة الدار ومبادئها إلى حد كبير. وهكذا تتبخر أي فكرة عن المحسوبية أو المحاباة، ويحل محلها يقين بأن تعيينه سيثمر على إنتاجات ستعطر العالم، وبأنه خير خلف لخير سلف. فليس هناك أجمل من شاب يتذوق الموسيقى ويعزف على البيانو، رغم أنه يعترف بأنه عازف غير جيد، ليبتكر عطورا تتراقص على نغمات كلاسيكية عصرية.

* يجب أن أعترف بأن عطرك من أجمل العطور التي شممتها في الآونة الأخيرة، وهي كثيرة جدا كما تعرف. بالنسبة لي كل من يستطيع ابتكار عطر مماثل لا بد أن يتمتع بشخصية حساسة والكثير من الحب للورود. في نفس الوقت قابلت عطارين يؤكدون أن المسألة ليست شاعرية بقدر ما هي حسابية، مثل الكيمياء، تعتمد على خلط مكونات بنسب معينة لا أكثر ولا أقل. إلى أي نوع من المدرستين تنتمي؟
- أعتقد أنني مزيج من الاثنين. فأنا من جهة أتمتع بشخصية حساسة بمعنى أنني أعرف ما هو المطلوب بإحساس فطري، ومن جهة ثانية، أدرك أن عملي يتطلب الدقة، حتى تأتي الوصفة متوازنة ومحسوبة
* أكيد أنك قمت بعدة تجارب واختبارات قبل أن تنتهي من مهمتك، متى شعرت بأنك توصلت إلى الخلطة المطلوبة وقلت مع نفسك: «وجدتها.. وجدتها»؟
- (مبتسما) من الصعب تحديد ذلك، لكنها مسألة إحساس فطري، وبالفعل هناك صوت داخلي يقول لك في لحظة ما، بأنك توصلت إلى ما تبتغيه وأن الوصفة اكتملت.
* هل يمكنك أن تقول لي بعض الشيء عن نفسك: كيف كبرت وعشت في مدينة غراس محاطا بالورود، وهل كانت صناعة العطور قدرك المحتوم؟
- أنا لم أكبر محاطا بالورود فحسب، بل ولدت في أسرة تتنفس العطور، بحكم عمل والدي. فقد كان يأتي دائما إلى البيت في آخر النهار محملا بالروائح المتنوعة، كما أن معظم أصدقائه ومعارفه يعملون في صناعة التعطير والتقطير. أتذكر كيف كانوا يتجاذبون في لقاءاتهم المسائية أطراف الحديث عن أنواع الزهور وأوقات قطافها وأحسن الطرق لتقطيرها وما شابه ذلك. عندما كنت صغيرا، كنت أعيش هذه الأجواء وأسمع كل ما يدور بينهم من أحاديث وتحاليل، ولم أكن أدري أن بداخلي شبه جهاز كومبيوتر يخزن هذه المعلومات، فكأي صبي في سن المراهقة، تمردت على أي شيء يمت للعائلة بصلة، ليس لسبب معقول سوى رغبة في التمرد وإثبات الذات، لهذا لم أفكر في هذه المهنة بتاتا. كان حلمي أن أترك غراس وأهاجر إلى مكان بعيد استكشف فيه أشياء جديدة. لكن كما ترين، انتهى بي المطاف إلى باريس ونفس مهنة والدي.
* هذا ليس أمرا سيئا على الإطلاق. متى انتهت فترة التمرد هذه؟
- عندما بلغت الـ20. كان التاريخ صيفا.. أذكر ذلك جيدا لأني قمت بدورة تدريبية في مختبر والدي، واكتشفت حينذاك كم هو ممتع العمل في هذا المجال، وكم هو واسع وخصب. بعد بضعة أشهر، أعربت لوالدي عن رغبتي في امتهان عمله، طالبا منه الدعم المعنوي والعون بتوفير دورات تدريبية.
* كيف انتابك هذا الشعور أول مرة، هل كنت في المختبر وفجأة اتضحت لك الصورة، أم هل كان لرائحة ما تأثيرها على نفسيتك وقرارك؟
- كل ما في الأمر أنني اكتشفت أن سعادة عارمة تنتابني وأنا أتعامل مع المكونات الأساسية والمواد الخام، من النباتات إلى الأزهار والأعشاب والأخشاب، وحتى تقنيات التقطير واستخراج الزيوت.. كل العملية كانت مثيرة بالنسبة لي خصوصا كيف يجتمع فيها غير الملموس عندما يكون مجرد فكرة وروائح طبيعية خاما، مع الملموس عندما تتحول إلى عطر في قارورة.
* هل يمكن القول بأنك تدين بما تعلمته الآن لوالدك؟
- في البداية لا، لأني لم أعمل معه، وهو ما أعتقد أنه صحي وجيد على المدى البعيد. صحيح أنه ساعدني في الحصول على فرص دورات تدريبية عندما كنت في العشرين من العمر، لكننا لم نعمل مع بعض، إذ سافرت مباشرة إلى نيويورك لأبدأ عملي هناك. في العام الماضي فقط، جاء أول تعاون بيننا. ربما لهذا السبب لا أشعر بثقل الإرث الذي خلفه والدي، من الناحية العملية.
* «ميسيا» أول عطر لك في دار «شانيل»، ولن يطرح كباقي العطور، بل هو جزء من عطورها الخاصة والمتخصصة جدا Les Exclusives De Chanel، هل وضعك هذا الأمر تحت الضغط، أم العكس لأنه ليس تجاريا؟
- من الناحية الإبداعية، فإن فكرة التعبير عن الدار من خلال منتج ملموس، أيا كان، عملية صعبة، أما من الناحية التقنية، فإنه من السهل صنع عطر ضمن مجموعة Les Exclusives لأن الرؤية واضحة ومكتوبة بوضوح من مسبقا، وكل ما يحتاجه العطار هنا، هو تطبيق منهج علمي. لكني لا بد من أن أعترف بأنني محظوظ، لأن الفكرة التي انطلقت منها هي ميسيا سيرت، صديقة عمر غابرييل شانيل، حيث التقتا في بداية العشرينات من القرن الماضي، حين كانت شانيل غير معروفة بعد. مع مرور الوقت، تغيرت حياة هذه الأخيرة ومسارها، لكن بقيت ميسيا دائما المرأة التي قدمتها لشخصيات مهمة وفنانين مؤثرين سابقين لعصرهم، مثل مارسيل بروست، كلود مونيه وغيرهما. لقد كانت امرأة ملهمة بكل المقاييس، وما قمت به أني تخيلت الأجواء التي كانت تعيش فيها، وما يحرك الفنانين الذين كانت تستضيفهم في صالونها، ما أوحى لي بالورد والبنفسج وخشب الصندل، بل وحتى البودرة المنبعثة من مستحضرات التجميل.
* هل كانت هذه فكرتك أم أنها الفكرة التي طُلب منك اعتمادها؟
- عندما وافقت على ابتكار عطر خاص، كان من المهم أن يأتي بطريقتي الخاصة، أن أتمتع فيه باستقلالية تامة.
- في هذه الحالة، مدهش كيف تراودك صورة مجردة تترجمها في عطر يحكي ألف حكاية وحكاية. كيف تنجح في تحويل النظري إلى شيء ملموس يحرك الحواس؟
- عملية التفكير لم تتوقف منذ اللحظة الأولى، فقد كانت الأفكار تتسارع في ذهني بشكل مذهل، حيث انطلقت من ميسيا وغابرييل شانيل، وبسرعة انتقلت منهما إلى العلاقة مع بودرة الماكياج وراقصات الباليه الروسيات خلف الكواليس وهن يحضرن أنفسهن للمسرح، لتتبلور الصورة.
* يعني أن ميسيا سيرت وراقصات الباليه كن نوعا من الترخيص الشاعري بالنسبة لك!
- أي عطار يمكن أن يقوم بنفس العملية، لكن كل واحد سيصب فيها جزءا من شخصيته وثقافته وخياله، أي سيقوم بها بأسلوبه الخاص، ما يجعل النتيجة مختلفة من واحد إلى آخر.
* ما هي بصمتك أو أسلوبك، في العمل والحياة على حد سواء؟
- الابتعاد عن التكرار. فهذا منهجي حتى في حياتي اليومية، لأنني أرى أن أسوأ شيء، أن يقضي الإنسان حياته بشكل روتيني، يقوم فيه بنفس الأشياء يوما بعد يوم. هذه القناعة في الحياة تنعكس على أسلوبي في العمل، فأنا أميل إلى أن أذهب فيه بعيدا حتى استكشف كل الجوانب والزوايا، ولا أتركها إلا بعد أن ألم بكل تفاصيلها. حينها فقط أنتقل لأستكشف شيئا آخر وجديدا. يمكنك القول: إنني أحب أن أؤلف قصصا متجددة في كل عطر، ولا أقبل أن أقف في مكاني مستكينا لشيء مضمون أعرفه جيدا. ما سأقدمه غدا يجب أن يكون مختلفا عما أقدمه اليوم.. هذه الفلسفة تحفزني وتعجبني.
* لكن لا بد أن تكون لك بصمة تعود إليها دائما، مثل مكون خاص أو وردة تفضلها؟
- نعم أفضل مجموعة من المكونات، مثل زهرة السوسن، فهي غنية بنفحات وردية وخشبية مع نغمات من البودرة. رغم أنني لم أستعملها في أي عطر بعد، إلا أنني أعرف أن لها وجوها متعددة.
* العمل مع دار كبيرة مثل «شانيل» فرصة عمر بالنسبة لأي شاب، لكنها أيضا قد تصيب بالرهبة، خصوصا أن تاريخها مع العطور غني، كيف تشعر بعد أن اخترقتها وأصبحت واحدا من أفرادها؟
- لم أتعامل مع الأمر على أنه مثير للرهبة بقدر ما تعاملت معه كسلاح قوي في يدي. فإن تدعمك دار كبيرة يعني أنها ستسندك وتلخص لك المسافات، أي أنك ستطير على بساط من الريح.
- فكرة العائلة راسخة في جينات «شانيل» بحكم أنها دار أزياء مملوكة عائليا، ما يجعلها غطاء أمان لمن يعملون فيها، وهو أمر ضروري للإبداع، أليس كذلك؟
- أتفق معك تماما، فأرشيفها غني وإرثها بحر، وهو ما يتيح الفرصة لكتابة فصل جديد من تاريخها، ليس من خلال عطر واحد فحسب بل من خلال سلسلة من العطور. صحيح أن المسألة تتضمن الكثير من التحدي لإثبات الذات، لكني اعتبر الأمر إيجابيا لابتكار الأفضل. وككل عطار، فإن حلمي أن أقدم عطورا تبقى راسخة في الذاكرة.
* هل ترى نفسك مع «شانيل» بعد 10 سنوات من الآن؟
- لم لا؟ ففلسفة الدار هي الاستمرارية باعتماد عطار خاص يبقى معها لسنوات. هذا ما حصل مع والدي، لأكثر من 30 سنة. على الأقل أتمنى أن أصمد مثله، ولو لبضع سنوات.
* كيف تقيم نجاح أي عطر؟ هل تأخذ بعين الاعتبار نجاحه التجاري أم نجاحه الفني؟
- الاثنين، لأن قوة أي عطر يجب أن تُقاس بتفاعل السوق معه، وبحجم الإقبال عليه وكيف يُنظر عليه.
* عندما تكون في المختبر تبتكر وتختبر خلطاتك، هل تتقمص شخصية الفنان أم التاجر؟ لأن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن عطرا لا يبيع هو عطر غير ناجح؟
- لكن في الوقت ذاته، فإن فكرة لا تُطبق وتبقى مركونة في الدرج خوفا من فشلها، فكرة لم تولد ولا توجد. من الصحي والعملي أن يصل المنتج إلى الناس، وإلا ما الفائدة من التفكير به والعمل عليه؟
* ما هو عطرك الرجالي المفضل؟
- لا أستعمل أي عطر على الإطلاق وأنا في العمل، لأنه يعيقني ويؤثر على حاسة الشم لدي، لكن في إجازات نهاية الأسبوع، أستعمل «بوغ موسيو» Pour Monsieur.
* كل مبدع، سواء كان أديبا أو فنانا أو عطارا، له طقوس معينة في العمل، ما هي طقوسك؟
- لا أدري إن كانت لدي أي طقوس، لكني أحب العمل في الصباح الباكر، لأنني أنتج أكثر.
* هل تعتقد أن العطور من الكماليات أم من الأساسيات؟
- أحب فكرة استعمال العطر بشكل واع ومدروس للتعبير عن الذات. فالعطر يكشف الكثير عن شخصيتنا وأهوائنا، كما يمكن أن يكون أداة للتعبير عن أنفسنا. أنا مثلا أتذكر الناس من روائحهم وأربط كل واحد من معارفي بعطر معين.
* ألا تعتقد أن هذه الفكرة خطيرة بالنسبة للعطار، لأنه في حال ظل كل واحد منا مخلصا لعطر واحد، فإننا لن نجرب أي عطر جديد، ولن نعطيه فرصته؟
- ضاحكا: أنا لم أقل العكس، فكرتي أنه لا بأس من تجربة عطور جديدة وتغييرها بين الفينة والأخرى، لكن يجب أن يكون التغيير دافع مهم وقوي.
* هل كنت تتمتع بهذه الميزة، أي التعرف على الأشخاص من رائحتهم من قبل، أم اكتسبتها بعد دخولك هذا المجال؟
- أعترف أنها أصبحت أكثر وضوحا بعد أن أصبحت عطارا.
* هذا يعني أن العملية مسألة تدريب ولا تولد بالضرورة مع الإنسان؟
- بالفعل، يمكن تدريب الأنف على التمييز بين الروائح مع الوقت.
* ما هو أقصى ما تأمله من عطرك الجديد، لأنه عندما يطلق في الأسواق سيُطلق معه اسم أوليفييه بولج للعالمية؟
- أقول لنفسي بأني قمت بكل ما في استطاعتي، وقدمت أحسن ما لدي، والآن بعد طرحه في السوق، ليس بيدي التحكم في ردود فعل الآخرين. إذا وجد العطر حياة خاصة به ونجح، فهذا سيسعدني، لكن الأمر بيد الله الآن.
* البعض يرى أن العطر ترف، ما هو ترفك في الحياة؟
- الوقت، أن يتوفر لي بشكل كافٍ لكي أقوم بكل هواياتي. أنا أعشق عملي لكني أحب أيضا أن أعزف على البيانو رغم أني لست عازفا جيدا.
* هل ترى نفسك عطارا أم فنانا يستعمل الأزهار والأعشاب بدل الريشة والألوان؟
- لا هذا ولا ذاك، أنا أرى نفسي حرفيا أولا وأخيرا.



الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
TT

الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)

في عالم الموضة هناك حقائق ثابتة، واحدة منها أن حلول عام جديد يتطلب أزياء تعكس الأمنيات والآمال وتحتضن الجديد، وهذا يعني التخلص من أي شيء قديم لم يعد له مكان في حياتك أو في خزانتك، واستبدال كل ما يعكس الرغبة في التغيير به، وترقب ما هو آتٍ بإيجابية وتفاؤل.

جولة سريعة في أسواق الموضة والمحال الكبيرة تؤكد أن المسألة ليست تجارية فحسب. هي أيضاً متنفس لامرأة تأمل أن تطوي صفحة عام لم يكن على هواها.

اقترح المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 قطعاً متنوعة كان فيها التول أساسياً (رامي علي)

بالنسبة للبعض الآخر، فإن هذه المناسبة فرصتهن للتخفف من بعض القيود وتبني أسلوب مختلف عما تعودن عليه. المتحفظة التي تخاف من لفت الانتباه –مثلاً- يمكن أن تُدخِل بعض الترتر وأحجار الكريستال أو الألوان المتوهجة على أزيائها أو إكسسواراتها، بينما تستكشف الجريئة جانبها الهادئ، حتى تخلق توازناً يشمل مظهرها الخارجي وحياتها في الوقت ذاته.

كل شيء جائز ومقبول. المهم بالنسبة لخبراء الموضة أن تختار قطعاً تتعدى المناسبة نفسها. ففي وقت يعاني فيه كثير من الناس من وطأة الغلاء المعيشي، فإن الأزياء التي تميل إلى الجرأة والحداثة اللافتة لا تدوم لأكثر من موسم. إن لم تُصب بالملل، يصعب تكرارها إلا إذا كانت صاحبتها تتقن فنون التنسيق. من هذا المنظور، يُفضَّل الاستثمار في تصاميم عصرية من دون مبالغات، حتى يبقى ثمنها فيها.

مع أن المخمل لا يحتاج إلى إضافات فإن إيلي صعب تفنن في تطريزه لخريف وشتاء 2024 (إيلي صعب)

المصممون وبيوت الأزياء يبدأون بمغازلتها بكل البهارات المغرية، منذ بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) تقريباً، تمهيداً لشهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول). فهم يعرفون أن قابليتها للتسوق تزيد في هذا التوقيت. ما يشفع لهم في سخائهم المبالغ فيه أحياناً، من ناحية الإغراق في كل ما يبرُق، أن اقتراحاتهم متنوعة وكثيرة، تتباين بين الفساتين المنسدلة أو الهندسية وبين القطع المنفصلة التي يمكن تنسيقها حسب الذوق الخاص، بما فيها التايورات المفصلة بسترات مستوحاة من التوكسيدو أو كنزات صوفية مطرزة.

بالنسبة للألوان، فإن الأسود يبقى سيد الألوان مهما تغيرت المواسم والفصول، يليه الأحمر العنابي، أحد أهم الألوان هذا الموسم، إضافة إلى ألوان المعادن، مثل الذهبي أو الفضي.

المخمل كان قوياً في عرض إيلي صعب لخريف وشتاء 2024... قدمه في فساتين وكابات للرجل والمرأة (إيلي صعب)

ضمن هذه الخلطة المثيرة من الألوان والتصاميم، تبرز الأقمشة عنصراً أساسياً. فكما الفصول والمناسبات تتغير، كذلك الأقمشة التي تتباين بين الصوف والجلد اللذين دخلا مناسبات السهرة والمساء، بعد أن خضعا لتقنيات متطورة جعلتهما بملمس الحرير وخفته، وبين أقمشة أخرى أكثر التصاقاً بالأفراح والاحتفالات المسائية تاريخياً، مثل التول والموسلين والحرير والمخمل والبروكار. التول والمخمل تحديداً يُسجِّلان في المواسم الأخيرة حضوراً لافتاً، سواء استُعمل كل واحد منهما وحده، أو مُزجا بعضهما ببعض. الفكرة هنا هي اللعب على السميك والشفاف، وإن أتقن المصممون فنون التمويه على شفافية التول، باستعماله في كشاكش كثيرة، أو كأرضية يطرزون عليها وروداً وفراشات.

التول:

التول كما ظهر في تشكيلة المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 (رامي علي)

لا يختلف اثنان على أنه من الأقمشة التي تصرخ بالأنوثة، والأكثر ارتباطاً بالأفراح والليالي الملاح. ظل طويلاً لصيقاً بفساتين الزفاف والطرحات وبأزياء راقصات الباليه، إلا أنه الآن يرتبط بكل ما هو رومانسي وأثيري.

شهد هذا القماش قوته في عروض الأزياء في عام 2018، على يد مصممين من أمثال: إيلي صعب، وجيامباتيستا فالي، وسيمون روشا، وهلم جرا، من أسماء بيوت الأزياء الكبيرة. لكن قبل هذا التاريخ، اكتسب التول شعبية لا يستهان بها في القرنين التاسع عشر والعشرين، لعدد من الأسباب مهَّدت اختراقه عالم الموضة المعاصرة، على رأسها ظهور النجمة الراحلة غرايس كيلي بفستان بتنورة مستديرة من التول، في فيلم «النافذة الخلفية» الصادر في عام 1954، شد الانتباه ونال الإعجاب. طبقاته المتعددة موَّهت على شفافيته وأخفت الكثير، وفي الوقت ذاته سلَّطت الضوء على نعومته وأنوثته.

التول حاضر دائماً في تشكيلات المصمم إيلي صعب خصوصاً في خط الـ«هوت كوتور» (إيلي صعب)

منذ ذلك الحين تفتحت عيون صناع الموضة عليه أكثر، لتزيد بعد صدور السلسلة التلفزيونية الناجحة «سيكس أند ذي سيتي» بعد ظهور «كاري برادشو»، الشخصية التي أدتها الممثلة سارة جيسيكا باركر، بتنورة بكشاكش وهي تتجول بها في شوارع نيويورك في عز النهار. كان هذا هو أول خروج مهم لها من المناسبات المسائية المهمة. كانت إطلالة مثيرة وأيقونية شجعت المصممين على إدخاله في تصاميمهم بجرأة أكبر. حتى المصمم جيامباتيستا فالي الذي يمكن وصفه بملك التول، أدخله في أزياء النهار في تشكيلته من خط الـ«هوت كوتور» لعام 2015.

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» استعملت فيها ماريا غراتزيا تشيوري التول كأرضية طرزتها بالورود (ديور)

ما حققه من نجاح جعل بقية المصممين يحذون حذوه، بمن فيهم ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور» التي ما إن دخلت الدار بوصفها أول مصممة من الجنس اللطيف في عام 2016، حتى بدأت تنثره يميناً وشمالاً. تارة في فساتين طويلة، وتارة في تنورات شفافة. استعملته بسخاء وهي ترفع شعار النسوية وليس الأنوثة. كان هدفها استقطاب جيل الشابات. منحتهن اقتراحات مبتكرة عن كيفية تنسيقه مع قطع «سبور» ونجحت فعلاً في استقطابهن.

المخمل

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» اجتمع فيها المخمل والتول معاً (ديور)

كما خرج التول من عباءة الأعراس والمناسبات الكبيرة، كذلك المخمل خرج عن طوع الطبقات المخملية إلى شوارع الموضة وزبائن من كل الفئات.

منذ فترة وهو يغازل الموضة العصرية. في العام الماضي، اقترحه كثير من المصممين في قطع خطفت الأضواء من أقمشة أخرى. بملمسه الناعم وانسداله وألوانه الغنية، أصبح خير رفيق للمرأة في الأوقات التي تحتاج فيها إلى الدفء والأناقة. فهو حتى الآن أفضل ما يناسب الأمسيات الشتوية في أوروبا وأميركا، وحالياً يناسب حتى منطقة الشرق الأوسط، لما اكتسبه من مرونة وخفة. أما من الناحية الجمالية، فهو يخلق تماوجاً وانعكاسات ضوئية رائعة مع كل حركة أو خطوة.

تشرح الدكتورة كيمبرلي كريسمان كامبل، وهي مؤرخة موضة، أنه «كان واحداً من أغلى الأنسجة تاريخياً، إلى حد أن قوانين صارمة نُصَّت لمنع الطبقات الوسطى والمتدنية من استعماله في القرون الوسطى». ظل لقرون حكراً على الطبقات المخملية والأثرياء، ولم يُتخفف من هذه القوانين إلا بعد الثورة الصناعية. ورغم ذلك بقي محافظاً على إيحاءاته النخبوية حتى السبعينات من القرن الماضي. كانت هذه هي الحقبة التي شهدت انتشاره بين الهيبيز والمغنين، ومنهم تسلل إلى ثقافة الشارع.

يأتي المخمل بألوان غنية تعكس الضوء وهذه واحدة من ميزاته الكثيرة (إيلي صعب)

أما نهضته الذهبية الأخيرة فيعيدها الخبراء إلى جائحة «كورونا»، وما ولَّدته من رغبة في كل ما يمنح الراحة. في عام 2020 تفوَّق بمرونته وما يمنحه من إحساس بالفخامة والأناقة على بقية الأنسجة، وكان الأكثر استعمالاً في الأزياء المنزلية التي يمكن استعمالها أيضاً في المشاوير العادية. الآن هو بخفة الريش، وأكثر نعومة وانسدالاً بفضل التقنيات الحديثة، وهو ما جعل كثيراً من المصممين يسهبون فيه في تشكيلاتهم لخريف وشتاء 2024، مثل إيلي صعب الذي طوعه في فساتين و«كابات» فخمة طرَّز بعضها لمزيد من الفخامة.

من اقتراحات «سكاباريللي» (سكاباريللي)

أما «بالمان» وبرابال غورانغ و«موغلر» و«سكاباريللي» وغيرهم كُثر، فبرهنوا على أن تنسيق جاكيت من المخمل مع بنطلون جينز وقميص من الحرير، يضخه بحداثة وديناميكية لا مثيل لها، وبان جاكيت، أو سترة مستوحاة من التوكسيدو، مع بنطلون كلاسيكي بسيط، يمكن أن ترتقي بالإطلالة تماماً وتنقلها إلى أي مناسبة مهمة. الشرط الوحيد أن يكون بنوعية جيدة حتى لا يسقط في خانة الابتذال.