ديفيد ديوب... روائي سنغالي ـ فرنسي بلا تناقضات

لورا كابيل ترجمة: سعد البازعي

اعتاد الروائي السنغالي - الفرنسي ديفيد ديوب في طفولته أن يرى جنوداً لا يختلفون عن «ألفا ندياي»، الراوي في روايته «في الليل كل الدم أسود». الرجال الذين حاربوا في السنغال من أجل فرنسا ما بين الحربين العالميتين كانوا يشتركون غالباً في الاستعراضات الوطنية. ومع ذلك، حين بدأ ديوب يقرأ رسائل الجنود الفرنسيين، لم يستطع العثور على تلك التي أرسلها جنود المشاة الذين كانت بلادهم الأفريقية تحت الاستعمار.
يقول ديوب، وهو أستاذ للأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر في جامعة باو (جنوب غربي فرنسا)، في مقابلة معه هذا الشهر: «لم أقتنع لأننا في السنغال نعلم ما فعلوه من أجل فرنسا؛ ذلك ما حفزني لكتابة رسالة متخيلة من جندي سنغالي».
ومنذ إطلاقها في فرنسا عام 2018، أسهمت رواية «في الليل كل الدم أسود» في ملء الفراغ. ونال ديوب الذي يبلغ الخامسة والخمسين عدة جوائز، إحداها جائزة الغونكور للمرحلة الثانوية، وهي جائزة شقيقة لجائزة الغونكور الشهيرة يصوت عليها طلبة المرحلة الثانوية. والنسخة الإنجليزية من رواية «في الليل كل الدم أسود» الآن في القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية، وسيعلن الفائز الأربعاء (منذ نشر هذا المقال، أعلن الفائز، وكانت رواية ديوب هي الفائزة فعلاً).
وقد أسهمت رواية «في الليل كل الدم أسود» أيضاً في الكشف عن تاريخ استعماري في تاريخ القصة الفرنسية، فقد حققت أليس زينيتير شهرة مماثلة حين نشرت رواية «فن الخسارة»، وهي رواية متعددة الأجيال جرت أحداثها قبل وفي أثناء حرب الاستقلال الجزائرية. وترجم الرواية إلى الإنجليزية فرانك وين، ونشرتها في الولايات المتحدة في مارس (آذار) دار نشر فرّار، ستروس وجيرو.
ومع أن النظريات التقدمية حول العرق وما بعد الكولونيالية أشعلت حرباً ثقافية شعواء في فرنسا، مستدعية تهماً بالأمركة، فإن نجاح ديوب وزينيتير يثبت أن هناك أيضاً رغبة في مزيد من النقاش المفتوح حول تاريخ فرنسا في أفريقيا.
واكتشفت زينيتير، المنحدرة من أصول جزائرية، أن كتابة الرواية ساعدتها على تجنب الدخول في جدل استقطابي عام. وذكرت في مقابلة مصورة: «إنها تجعل من الممكن تعليق الحكم لكي نستكشف حياة تختلف عن حياتنا».
ويقول ديوب: «يمكن للأدب أن يكون طريقة لتحريك الناس قبل أن يلجئوا إلى تفسيرات عقلانية للتاريخ؛ قد يكون مفتاحاً لمعرفة أن الذاكرة ضرورية للتوصل إلى إحساس بالتوازن في فرنسا».
وحسب ما يرى الروائي السنغالي، فقد تحقق التوازن بين ثقافتيه على نحو طبيعي إلى حد كبير. وهو قد ولد في باريس لأم فرنسية وأب سنغالي جاء إلى فرنسا للدراسة، ثم انتقلت الأسرة بعد ذلك إلى داكار انتقالاً لم يجد فيه الصبي ذو الخمسة أعوام ما يثير بصفة خاصة.
«كنت محظوظاً أن أسرتي الفرنسية والسنغالية تصرفتا مع والدي على نحو مفعم بالود؛ غمرني الجانبان بكثير من الحب»، حسب ما يقول، مضيفاً: «لم أجد أي نوع من التضاد بين هويتي الثقافيتين».
وبعد إنهائه الثانوية، عاد ديوب إلى باريس ليدرس الأدب. وبينما غرست والدته فيه، وهي قارئة نهمة، حباً لعدد كبير من الكتاب الفرنسيين والأفارقة، انصب اهتمامه في الجامعة على «أنوار» القرن الثامن عشر، الحركة الإنسانوية التنويرية التي قادها أمثال فولتير ودنيس ديديرو. يقول ديوب ضاحكاً: «انجذبت إلى نشاطهم والتزامهم بحقوق الإنسان. لن أقول إنني فقدتهم، ولكن كانت لديَّ في ذلك الوقت مُثُل سياسية».
ويقول ديوب إن تنشئته على القيم الكونية في فرنسا جعلته بعيداً عن تجربة العنصرية بصفتها لوناً أكاديمياً، وهو حريص على إبقاء كتاباته بعيداً عن ممارسة الأنشطة، ويرى أن أفكاراً مثل التخصيص الثقافي تؤدي إلى «الكبت» –«صنع فلوبير مدام بوفاري مع أنه ليس امرأة»- ويفضل الحديث عن الأدب من حيث هو «حرية».
«علينا ألا نحبس أنفسنا في سجون ذهنية»، حسب تعبيره. (في أثناء حديثنا، تساءل ديوب: ألا ترى أن الأسئلة المتعلقة بالعرق تستورد إلى بلاد لا تناقش فيها تلك القضايا بتلك الطريقة؟).
ومع ذلك، فإن رواية «في الليل كل الدم أسود» تشير بعبارات لا لبس فيها إلى ديناميات العرق وهي تمارس تأثيرها في خنادق الحرب العالمية الأولى. كان الجنود الأفارقة من البلاد المستعمرة يزودون بالسواطير لإحداث مزيد من الخوف. «ألفا»، الشخصية الرئيسية في الرواية، ينطلق في أدائه من الوحشية المتوقعة منه، ويصعد بها إلى مستوى مختلف بالمغامرة ليلاً لقتل جندي ألماني، والعودة بيد الجندي مقطوعة.
كلا الروائيين، ديوب وزينيتير، يعتمد على نصوص المؤرخين لملء الفراغات. يقول ديوب: «قرأتهم بالطريقة التي لا تليق بالأكاديميين: من دون تسجيل ملاحظات. أردت ذلك الذي ترك انطباعاً في نفسي لكي يخرج مرة أخرى حين أبدأ بالكتابة».
حين يتعلق الأمر بالحرب الجزائرية، وجدت زينيتير «كماً هائلاً من الأبحاث»، كما تقول، مضيفة: «إنها تجعل من الأيسر بكثير أن يمضي المرء دون أن يرعبه ارتكاب خطأ جسيم».
كذلك ديوب الذي وجد الإلهام في «ولوف»، اللغة التي تحدثها في أثناء نشأته في السنغال، ليمنح «ألفا» الذي لا يتحدث الفرنسية في الرواية صوتاً خاصاً به. يقول: «حاولت تطويع الفرنسية لتكون أقرب قليلاً إلى لغة «الولوف» حين يجري الحديث بها في مناسبات رسمية، مستعملاً الإيقاع والتكرار».
وينسب إلى الروائي أحمدو كوروما، وهو روائي من ساحل العاج عاش في القرن العشرين، الفضل في منح الفرنسية نكهة أفريقية - نوعاً من «إعادة التخصيص»، حسب تعبير ديوب، في بلاد صارت الفرنسية فيها لغة رسمية تحت الحكم الاستعماري.
لقد ذهل ديوب وزينيتير بردود فعل القراء في فرنسا. يقول إنه عند ظهوره في فعاليات خصصت لـ«في الليل كل الدم أسود» التي باعت 170 ألف نسخة في تلك البلاد، كان الناس يأتونه بـ«رسائل وصور لأجدادهم أو أجداد أجدادهم مع الجنود الأفارقة». وتلقت زينيتير مئات الرسائل من جنود سابقين، حسب ما ذكرت، أسروا لها بتجاربهم في أثناء حرب الاستقلال الجزائرية.
تقول زينيتير: «جعلني ذلك أدرك أن ثمة فراغاً في القصص التي تتناول تلك الفترة. ومن الواضح أنه كان هناك من يخنق الحديث عنها بصوتٍ عالٍ». الآن، هناك فنانون فرنسيون كثر يسيرون في الاتجاه نفسه. «ما زال القلب يغلي»، وهو عمل مسرحي وثائقي صنعته مارغو إسكينازي وأليس كاري، إلى جانب الكاتبة المسرحية أليكزاندرا باديا، استكشف مؤخراً آثار زوال الاستعمار الفرنسي للجزائر على خشبة المسرح.
قد تكون الخطوة المقبلة لهذه الأعمال الوصول إلى المتحدثين بغير الفرنسية في البلاد التي ترتبط بها بحميمية. وما زالت رواية «في الليل كل الدم أسود» تنتظر الترجمة إلى لغة الولوف، في حين أن رواية زينيتير «فن الخسارة» ستترجم إلى العربية العام المقبل - وإن كان ذلك إلى اللهجة المصرية التي ليست بالضرورة سهلة الفهم للقراء الجزائريين.
بالنسبة لديوب الذي سينشر في أغسطس (آب) روايته الآتية حول رحالة أفريقي إلى أوروبا في القرن الثامن عشر، بالفرنسية، سيكون ذلك طريقه لبناء جسور ثقافية. لقد كانت الكتابة -حسب تعبيره- طريقة «للتقريب بين» جذوره السنغالية والفرنسية، وليس -كما يؤكد- «التوفيق» بينهما. «ليس ثمة ما يحتاج إلى توفيق، في نظري».
* خدمة «نيويورك تايمز»