تتشكل في منعطفات حاسمة في التاريخ، وفي ظروف اجتماعية وثقافية معينة، أجيال شعرية وفنية يمكن أن نسميها بـ«الأجيال الذهبية»، التي تقلب ما قبلها، وتشكل ما يأتي بعدها من أجيال في عملية انقلابية حقيقية.
وهي تسمى بـ«الأجيال» تجاوزاً، فهي ليست محصورة ضمن فترة زمنية محددة، كما أنها ليست مجرد مجموعة ضمت أسماء محددة، أو مدرسة تدعو لأساليب أو أشكال معينة تتزامن مع أساليب أخرى، وهي كذلك ليست اتجاهاً جمالياً يتزامن مع اتجاهات مغايرة.
حصل هذا، مثلاً، في إسبانيا في 1927، مع المجموعة التي سميت بـ«مجموعة 27»، التي ضمت شعراء مثل خورخي غيين، بيدرو ساليناس، رافائيل ألبرتي، فيديريكو غارثيا لوركا، وبيثنتي أليكساندره، وغيرهم.
وكذلك الأمر مع مدرسة نيويورك الشعرية التي ضمت أسماء مثل جون أشبري، وفرانك أوهارا، وكينيث كوتش، وشعراء آخرين ينتمون لمدينة نيويورك فقط، أو مجموعة «الحركة» في بريطانيا، التي ضمت فيليب لاركن وكينغسلي آمسن ودونالد ديفي (شعراء كلهم إنجليز).
عربياً عرفنا مجموعات كهذه مع شعراء أبولو في مصر، أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وصالح جودت في ثلاثينيات القرن الماضي. ولاحقاً في الخمسينيات والستينيات مجموعة مجلة «شعر»، التي لا يجمع بين أعضائها الكثير، ولا يوحدهم سوى أنهم يدعون لنمط شعري معين، قصيدة النثر، وأنهم يكتبون في هذه المجلة، وموجودون في بقعة جغرافية محددة.
الأجيال الذهبية هي التي تتجاوز ما قبلها، وتؤسس لرؤية وبنية وأساليب وأشكال جديدة تمتد في الزمن، مشكلة ملامح ما يأتي بعدها. إنها تلك التي يمكن أن نطلق عليها مصطلحي «ما قبل» و«ما بعد»، كما في كل الظواهر الجمالية والفكرية والفلسفية الكبرى.
بهذا المعنى، عرف الشعر العراقي جيله الشعري الذهبي في الأربعينيات والخمسينيات، وهو الجيل الذي قلب مضمون وشكل شعرنا العربي إلى الأبد، مع بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة. لم يقد هؤلاء الشعراء اتجاهاً معيناً يتجاور مع اتجاهات أخرى، ولا شكلوا «مدرسة»، ولم يكن هناك بيان شعري يعبرون فيه عن رؤية مشتركة، ولا حتى علاقات تجمع بينهم. كانوا مجرد «مجسات» فردية استشعرت، في وقت واحد، بأن أمامها منعطفاً تاريخياً، وأن عموداً شعرياً عمره أكثر من ألف سنة لم يعد صالحاً لوضع أي لبنة عليه، ولا بد من الترميم... أو الهدم!
كان انزياحاً شاملاً شمل الوطن العربي كله. انتهى تاريخ ليبدأ تاريخ آخر. وكما في عملية كبرى كهذه لا بد من ضحايا. وكان هناك ضحايا كثيرون جداً في كل بلد. لم ينج تقريباً سوى محمد مهدي الجواهري. كان استثناء. فهو نفسه كان عموداً، ولا يحتاج أن يستند إلى أي شيء.
وجدت لميعة عباس عمارة نفسها في قلب هذا الجيل الذهبي، زمنياً، وربما أكثر من غيرها، فالسياب والملائكة والبياتي كانوا أصدقاءها وزملاءها في الكلية، ولكنها لم تجد نفسها فنياً. استمرت تكتب كما كانت، وكأن ما حصل لا يعنيها، رغم أن التيار كان جارفاً جداً، حتى الجواهري نفسه حاول مجاراته بقصيدة، ثم تخلى عن الأمر. كانت قصيدة يتيمة!
غير أن لميعة عباس عمارة لم تستطع المقاومة طويلاً. انغمرت بعد تردد في التيار، من دون أن تصل إلى العمق. ظلت عائمة على السطح. ولم تستطع أن تكتب منذ ذلك الزمن حتى رحيلها قبل أيام ما يوازي قصائدها في العمود الخليلي، كما، مثلاً، في قصيدتها في رثاء أخيها:
عاد الربيع وأنت لم تعدِ
يا حرقة تقتات من كبدي
وبينما كان زملاؤها الثلاثة، خصوصاً السياب والملائكة، قد انتقلوا بمضمون القصيدة إلى آفاق إنسانية ووجودية قلما عرفها الشعر العربي من قبل، انسجاماً مع العصر المتغير الذي يعيشون وانقلاباته الهائلة، ظلت لميعة عباس عمارة محافظة على مضامين رومانسية تقليدية ثار أساساً عليها زملاؤها، وإن صبتها بالشكل الشعري الجديد، كما في قصيدة لها كتبتها قبل سنتين، ويمكن أن تشكل قاسماً مشتركاً لقصائدها منذ أن التحقت، مرغمة ربما، بزملائها التاريخيين:
لماذا يحط المساء
حزيناً على نظرتي الحائرة
وفي القرب أكثر من معجب
وأني لأكثر من قادرة؟
أنا طائر الحب
كيف اختصرت سمائي
بنظرتك الآسرة؟
محنة لميعة عباس عمارة
محنة لميعة عباس عمارة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة