الفلسفة في «فخ» الجريمة والكوميديا السوداء

«الشرطي الثالث» للآيرلندي فلان أوبراين في ترجمة عربية

فلان أوبراين
فلان أوبراين
TT

الفلسفة في «فخ» الجريمة والكوميديا السوداء

فلان أوبراين
فلان أوبراين

يُصدِّر الروائي الآيرلندي فلان أوبراين (1911-1966) روايته «الشرطي الثالث» بعبارة لويليام شكسبير تقول: «وحيث إن شؤون البشر غير مؤكدة على الدوام، دعنا نفكر في أسوأ ما قد يحدث»، في إشارة لأجواء الحذر والضبابية التي تحملها لنا منذ عتبتها الأولى، وتصل بالبطل لمجاهل المغامرة والجنون، من خلال رحلة بحثية طويلة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الغرائبي الجامح للأحداث.
وتشير كلمة الناشر لحالة «الغموض» التي اقترنت بهذا العمل، بداية من تأخر نشرها، مروراً بقراءتها النقدية التي جعلتها في مقارنة بالواقعية العجائبية لكافكا. فقد كتب أوبراين الرواية بين عامي 1939 و1940، إلا أنها نُشرت بعد وفاته في عام 1966. وأخيراً، صدرت الترجمة العربية لها عن دار «الرافدين»، بتوقيع المصرية إيناس التركي.

- جريمة واعتراف
وتستهل الرواية التي تقع في 304 صفحات أحداثها بصوت جريمة واعتراف: «لا يعرف الجميع كيف قَتلتُ العجوز فيليب ماذرز، بعد أن حطمت فكه بمجرفتي». هكذا، يصحبنا الراوي «البطل» مستخدماً ضمير المُتكلم على مدار السرد، دون أن يظهر له اسم على مدار الرواية، إلا أن المؤلف يعتني برسم عالمه منذ سنوات طفولته الأولى، فيستدعي والده المزارع، وأمه صاحبة إحدى الحانات؛ يسكن جميعهم تلك الحانة الكاسدة شحيحة الزبائن. يتذكر والده لِماماً، ويتذكر والدته بالشاي الذي قضت عمرها تصنعه وهي تغني أغاني قديمة لتزجية الوقت، ثم يتذكر رحيلهما عن الحياة معاً، واليتم الذي حل فجأة بصبي ينتقل لمدرسة داخلية، ليتأمل أهل المدينة الآيرلندية الصغيرة، ولا يتذكر منها سوى أنه تعرف فيها لأول مرة على فيلسوف يُدعى «دو سيلبي» من كتاب قديم مُهمل في مكتب أستاذ العلوم، فيسرق الكتاب، ويصبح هذا الفيلسوف بأفكاره الجنونية مُرشداً لحياة البطل وحكاياته «ارتكبت أول ذنب كبير من أجل دو سيلبي، ومن أجله ارتكبت أعظم ذنوبي».
لن يظهر الفيلسوف المُتخيل «دو سيلبي» في الرواية سوى عبر أفكاره التي تستلب عقل البطل، حتى أن غاية أحلامه تتلخص في أن يصبح غنياً، ليستطيع كتابة تعليقاته وآرائه الشخصية حول أعمال «دو سيلبي» وهوامشه، ونشر تلك التعليقات في مُجلدات لا مثيل لفخامتها. وتتقاطع على مدار أحداث الرواية أفكار هذا الفيلسوف حول الحياة والزمن والطبيعة والأبدية، حيث يرى أن الأرض ليست كروية، وإنما مستقيمة كحبة سجق، والليل ما هو سوى شكل من أشكال التلوث الجوي، والحياة كلها مجرد هلاوس. ويُمرر الكاتب تلك الأفكار في فضاء السرد، وفق تشبع البطل بها، وإسقاطها على حياته الخاصة.
ونتعرف في بداية السرد على شخصية «ديفني»، الصديق المُقرب للبطل الذي يستطيع إقناعه بسرقة جارهم العجوز «ماذرز» الذي يملك ثروة يمكن بها تسديد ديونهما، وإحياء الحانة التي ورثها البطل عن والديه. ولأن البطل قد تعرض لحادث أفقده ساقه، وصار يستعيض عنها بساق خشبية، فإنه كان يعتمد على «ديفني» وينقاد وراء أفكاره، وزُيّن له إمكانية أن تساعده تلك الثروة على نشر مجلدات حول أفكار «دو سيلبي» التي كان يخشى عليها من الاندثار. واتفقا على تنفيذ جريمة سرقة وقتل جارهم العجوز «ماذرز»، لتبدأ أحداث الرواية بعد تنفيذ تلك الجريمة في الظهور بوجه سوريالي، وآخر كابوسي، لا علاقة لهما بالسياق الهادئ الرتيب لحياة البطل في بيته الريفي الآيرلندي قبل أن يقترف الجريمة.

- روح ودود
يُحاول البطل أن يعرف من شريكه «ديفني» المكان الذي خبأ فيه صندوق المال والمُدخرات يوم ارتكابهما الجريمة الذي قتلوا العجوز من أجله، لكن «ديفني» يُصر على المراوغة بحجة هدوء أصداء الجريمة، حتى يُخبره بعد فترة طويلة بأنه خبأه في منزل العجوز، ويطلب منه أن يذهب بنفسه لإحضاره، وعندما يصل للمنزل يفشل البطل في أن يجد الصندوق، فتباغته الهلاوس «طرأ تغيير من نوع ما عليَّ أو على الغرفة؛ كان طفيفاً للغاية، ولكن خطيراً عصياً على التفسير في الوقت نفسه»، ثم ما يلبث أن يتخيَّل أمامه القتيل «ماذرز» حياً يحتسي الشاي، فتبتلعه الدهشة: هل هو شبحه أم أنه ما زال حياً وهما اللذان تخيلا أنهما قتلاه؟ ينتشله من فزعه صوت وكلمات تأتي من أعماقه هو، فيتجسد له لأول مرة في حياته صوت روحه «لم أصدق أو أعتقد من قبل أن لديَّ روحاً، ولكنني أدركت ساعتئذ أن لديَّ واحدة بالفعل. كما أدركت أن روحي ودود تكبرني في العمر، ولا يهمها سوى مصلحتي الشخصية. أطلقت عليها (جو) لتسهيل الأمر».
ويظل الحوار الفانتازي تبادلياً بين البطل وروحه «جو» التي كانت تُرشده، ويلجأ في أعقاب هذا الرعب إلى حيلة، فيتوجه لقسم شرطة في مفارقة عبثية، حيث يدعي أنه فقد ساعته الذهبية، ويطلب مساعدة الشرطة لإيجادها، مُتصوراً أن دخوله قسم الشرطة قد يجعله يسمع هناك عن أثر صندوق مُدخرات العجوز الذي فشل في العثور عليه «كانت هذه الكذبة هي السبب وراء كل الأشياء السيئة التي وقعت لي بعدها».
في قسم الشرطة، تتضاعف النبرة الكابوسية في الرواية، مُطعمة بلفحة من الكوميديا السوداء اللاذعة، حيث يلتقي شرطيين من بين رجال الشرطة الثلاثة المُنتدبين للعمل بالمكان، ويُلاحظ غرابة مظهرهما، وهوسهما بالدراجات، فلا تُسجل بهذا القسم بلاغات سوى لسرقات الدراجات، وهناك أيضاً يتحول السكان في دراما عبثية إلى دراجات، في فانتازيا ميتافيزيقية تستولى على عالم السرد، فتمتزج شخصيات رُكاب الدراجات بدراجاتهم نتيجة تبادل الذرات بينهم، وهناك تُصدر أحكام ضد العجلات بالإعدام، ونجد دراجات تُدفن، وتُبنى توابيت على شكل دراجات.

- ميتافيزيقا سردية
تلازم هذه العبثية البطل، وتشكل مصيره، حتى أنه ينسى اسمه، وسبب زيارته «المشؤومة» لهذا المكان، ثم ما يلبث أن يتذكر أمر الصندوق المفقود، فيأخذه أحد الشرطيين لطريق مُختصر للأبدية، بجوار نهر، يدخرون فيه أعمارهم فلا يشيخون، بفضل مادة تدعى «الأومينيوم»، تلك التي تُعادل طاقة كل الأشياء وجوهرها التي هي أغلى من كل مال. ووسط كل هذا الغموض والتباساته، يُصبح كل أمله هو الهروب من مستنقع الغرابة الذي سقط فيه، هو المهووس بالتفاصيل الميكانيكية وميتافيزيقية الأشياء ولغز الأبدية: «أحسست أنني وحيد تماماً، ولكن بقي لديَّ أمل بسيط في أن أنجح في الهرب بسلام في نهاية المطاف». ويكاد القارئ من فرط تداخلات فانتازيا السرد أن يميل إلى أن البطل قد دخل نفق أحد الأحلام الكابوسية بعد صدمة قتله الشنيع لجاره العجوز، واختفاء صندوق المال، ليعج السرد بأمواج متلاطمة من التأويلات، تزداد غرابة وتتحول إلى فجوة زمنية. فبعد هروبه من قسم الشرطة الكابوسي، على متن دراجة مُريحة تصل به إلى محيط بيته، يتبعه لقاء غامض بـ«الشرطي الثالث» غريب الأطوار الذي يدفع بالأحداث لسياق مُغاير يُعيد له الأمل في وجود «الصندوق»، ثم ما تلبث أن تُفجر عودته لبيته ولقاء صاحبه وشريكه في الجريمة «ديفني» غرابة الحكاية إلى أقصاها، بعد أن يُفاجأ بفزع صاحبه «ديفني» من أنه ما زال حياً، مؤكداً له أنه مات من ست عشرة سنة، فيُدرك البطل وقتها أنه قد سقط في جب زمني غير مرئي، بالاختفاء أو بالموت.
خلال هذه الخلطة من الكوابيس والعبثية والكوميديا السوداء التي يحياها البطل، ظلت أصداء فيلسوفه «دو سيلبي» تُصاحبه على مدار الرواية، فلم يُغادره حلم كتابة ونشر مطبوعات ضخمة عن أفكاره: «سأعيد دو سيلبي نفسه إلى الحياة كي يُبادلني الحديث ليلاً، ويسدي لي النصح فيما يتعلق بمهامي السامية. وفي كل ثلاثاء، سأجعل نفسي خفياً عن الأنظار».



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.