رشاد حسين.. المحارب الأميركي ضد الإرهاب

التطرف في معركة الدفاع عن الإسلام

رشاد حسين.. المحارب الأميركي ضد الإرهاب
TT

رشاد حسين.. المحارب الأميركي ضد الإرهاب

رشاد حسين.. المحارب الأميركي ضد الإرهاب

تسلطت الأضواء على رشاد حسين، المسلم الهندي الأصل (37 عاما)، بعد أن أعلنت الإدارة الأميركية في فبراير (شباط) 2015 تعيينه مبعوثا خاصا ومنسقا للاتصالات الاستراتيجية لمكافحة التطرف والإرهاب خلال قمة مكافحة التطرف العنيف التي استضافها البيت الأبيض والخارجية الأميركية، وشارك فيها وفود أكثر من 70 دولة ومنظمة أجنبية.

يتسلم رشاد حسين مهام منصبه الجديد في شهر أبريل (نيسان) المقبل، حيث يحتل مكتبا صغيرا داخل وزارة الخارجية الأميركية. ومن مهام المنصب الجديد تنسيق معلومات ما بين مركز الدراسات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب وبين عدة مراكز أخرى، وسيرأس خلية من محللي الاستخبارات تتكون من 80 شخصا تتولى التنسيق مع وكالات حكومية أخرى لتطوير الاتصالات الاستراتيجية ضد الإرهاب والتطرف.
وأوضحت الخارجية الأميركية، أن رشاد سيرأس مركز الاتصالات لمكافحة الإرهاب الذي أنشئ في عهد وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون عام 2010، وسيضاف له مهام أخرى تتعلق بالتواصل مع المؤسسات الحكومية المعنية بمكافحة التطرف.
ويبدو أن شهر فبراير هو شهر الحظ للأميركي الهندي الأصل رشاد حسين، ففي نفس الشهر من عام 2010 أعلن الرئيس أوباما تعيينه مبعوثا للولايات المتحدة إلى منظمة التعاون الإسلامي. وقبلها في فبراير 2009 انضم رشاد حسين إلى مكتب المستشار القانوني للبيت الأبيض بعد أن عمل كمستشار في فريق أوباما الانتقالي (ما بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 إلى يناير/ كانون الثاني 2009).
ورشاد محمد حسين هو محامٍ أميركي بارع، امتلك خبرة خلال عمله بالدوائر السياسية الحكومية في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي وفي وزارة العدل كمحامٍ للمحكمة وفي مكتب المدعي العام. وخلال عمله كمبعوث الولايات المتحدة إلى منظمة التعاون الإسلامي سافر إلى الكثير من الدول وشارك في مئات المؤتمرات الدولية، واجتمع بزعماء وقادة دول إسلامية.
ويملك السيد حسين علاقة وثيقة بالرئيس أوباما، وقد ذكرت صحيفة «واشنطن بوست»، أنه بعد الانتخابات الرئاسية في عام 2008 وفوز الرئيس أوباما قامت كاسندرا بتس (زميلة أوباما بكلية الحقوق بجامعة هارفارد وزميلة رشاد حسين في جامعة نورث كارولينا) بترشيح رشاد لتعيينه بمكتب مستشار البيت الأبيض. وعمل رشاد في البيت الأبيض على أمور الأمن القومي ووسائل الإعلام الجديدة وقضايا العلم والتكنولوجيا.
وأشار بن رودس، نائب مستشارة الأمن القومي للاتصالات، إلى أن رشاد بدأ في تقديم المشورة للرئيس أوباما بشأن القضايا المتعلقة بالإسلام ورفع التوعية لدى الإدارة الأميركية في ما يتعلق بالمسلمين وجهود التوصل معهم وبعد انضمامه إلى مكتب المستشار القانوني للبيت الأبيض. وأوضح رودس أن رشاد ساهم في صياغة جزء من خطاب أوباما بجامعة القاهرة وكان من بين الفريق المرافق للرئيس أوباما خلال زيارته للقاهرة وإلقاء الخطاب في عام 2009.
وتقول بعض المصادر، إن الرئيس أوباما كان معجبا بقدرات رشاد وجديته في العمل وعلاقاته بمختلف المؤسسات الإسلامية، ولذا قام في 12 فبراير عام 2010 باختيار رشاد حسين ليتولى منصب المبعوث الأميركي الخاص إلى منظمة التعاون الإسلامي (OIC) وهو لم يتجاوز 31 عاما، وتعد منظمة التعاون الإسلامي ثاني أكبر هيئة حكومية دولية يعد الأمم المتحدة وتضم 57 عضوا، وهو منصب يقتضي العمل بشكل وثيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي والدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية بهدف بناء شراكات في جميع أنحاء العالم وتوسيع مشاركة المسلكين داخل الولايات المتحدة.
وقال الرئيس أوباما عند تعيين رشاد حسين مبعوثا إلى منظمة التعاون الإسلامي، إنه «محامٍ بارع وعضو موثوق بين فريقي من موظفي البيت الأبيض». وأضاف: «لقد لعب رشاد دورا رئيسيا في تطوير علاقات الشراكة التي دعوت إليها في القاهرة ولأنه حافظ للقرآن فهو عضو له مكانة رفيعة في المجتمع المسلم الأميركي وأنا أشكره على تحمل هذا العمل الهام».
وخلال عمله مبعوثا لمنظمة التعاون الإسلامي عقد رشاد اجتماعات ثنائية مع عدد من القادة منهم الرئيس حميد كرزاي في أفغانستان والرئيس السابق عبد الله غل في تركيا، والملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية الراحل، والرئيس محمد نجيب رئيس وزراء ماليزيا، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي إحسان أوغلو.
وكان رشاد صريحا وقويا في دعوته لمكافحة الإرهاب وفي السفر في رحلات مكوكية إلى بلدان مثل أفغانستان وباكستان واليمن لحضور مناقشات حول مكافحة التطرف الإسلامي والإرهاب. وقال في كلمة أمام اجتماع وزراء خارجية 56 دولة ذات أغلبية مسلمة: «من واجبنا القضاء على هذا الفكر تماما وإلقاء اللوم على السياسة الخارجية لأي بلد ليس هو الحل ولا توجد أي سياسات تبرر ذبح الأبرياء».
ويقول أحد زملاء رشاد ممن عمل معه أثناء عمله مبعوثا لمنظمة التعاون الإسلامي: «كان من أفكار رشاد لمكافحة التطرف هو ضرورة تحسين التعليم العلماني والديني وزيادة فرض الحصول على تعليم جيد لتعزيز فرص الحصول على وظائف وضرورة معالجة الشعور بالحرمان من الحقوق السياسية في المجتمعات الإسلامية».
وتقول المصادر، إنه خلال تلك الفترة نجح رشاد حسين في تفعيل تعاون الولايات المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي في مجال الصحة والتنمية وتوسعت الشراكات في ريادة الأعمال والتكنولوجيا، وكانت منظمة التعاون الإسلامي نشطة في إدانة التطرف العنيف والهجوم على الأقليات الدينية. وعملت الولايات المتحدة مع منظمة التعاون الإسلامي في ما يتعلق بقرارات الأمم المتحدة لمواجهة التعصب وازدراء الأديان وكان للمنظمة دور أكبر في الشؤون الدولية فكانت أول من دعا لإقامة حظر جوي في ليبيا ووجهت انتقادات شديدة لنظام الرئيس بشار الأسد.
وقد جذب رشاد حسين الأضواء ليس فقط لمهام المنصب الجديد الذي يتولاه، بل أثار الجدل مع اتهامات بعض الشبكات الإعلامية بمساندته لجماعة الإخوان المسلمين وتشككت في علاقاته مع بعض المتطرفين ودعمه لمنظمات عرف عنها تبنيها للفكر المتشدد.
فقد اعتبرت تيارات سياسية ودوائر إعلامية تولي رشاد منصب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والاتصالات لمكافحة الإرهاب هو نوع من المهادنة مع قوى التطرف والإرهاب، واعتبرت رشاد نفسه متطرفا إسلاميا، حيث أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى علاقات رشاد بجماعة الإخوان المسلمين وجماعات جهادية فلسطينية، وكانت علاقته ودفاعه عن البروفسور سامي العريان منذ عام 2004 هي أحد الأدلة التي استندت إليها الصحيفة. وقد أدين البروفسور سامي العريان، أستاذ علوم الكومبيوتر بجامعة جنوب فلوريدا أمام المحاكم الأميركية بتهمة مساعدته لمنظمات إرهابية فلسطينية، وتمت إقالته من الجامعة وترحيله من الولايات المتحدة مؤخرا.
وقد تم اعتقال العريان في عام 2004 بتهمة دعم وتوفير مساعدات مالية لمنظمة الجهاد الإسلامي الفلسطينية التي تصنفها الولايات المتحدة على أنها منظمة إرهابية وتصفها بأنها الأكثر عنفا في العالم. وفي عام 2006 اعترف العريان بتهمة التآمر لتقديم خدمات للمنظمة وتأييده للتفجيرات الانتحارية التي تقوم بها المنظمة. وفي تلك الفترة دافع رشاد حسين (الذي كان طالبا يدرس القانون بجامعة ييل في ذلك الوقت) عن البروفسور العريان. وأكد أنه تم اضطهاده لدوافع سياسية ونشر مقالات في عام 2004 يدافع عن العريان. وقد نفي كل من رشاد حسين والبيت الأبيض دفاع رشاد عن العريان وأشارا إلى أنه تم تحريف تصريحات نسبت لرشاد حسين.
وقالت الصحيفة، إن الرئيس أوباما يتعاطف مع المتطرفين، وإنه اختار الرجل المناسب لتنفيذ سياساته، وإنه خلال عمل رشاد حسين في منظمة التعاون الإسلامي عمل على تخويف الحكومات الغربية من توجيه انتقادات للإسلام بما في ذلك توجيه انتقادات للجماعات المتطرفة وقالت الصحيفة إن رشاد روج لفكرة الإسلاموفوبيا.
وقبل عمله مع الرئيس أوباما شارك رشاد في أغسطس (آب) عام 2008 في كتابة ورقة بحثية بمعهد بروكينغز تحت عنوان «إعادة صياغة معركة الأفكار: فهم دور الإسلام في سياسات مكافحة الإرهاب» شدد فيها رشاد على رفضه لأولئك الدين يرتكبون أعمالا إرهابية باسم الدين ومن يستخدمون المبررات الإسلامية للقيام بأعمال القتل والإرهاب. وطالب فيها صناع القرار السياسي برفض استخدام اللغة التي توفر الشرعية الدينية للإرهاب مثل الإرهاب الإسلامي أو التطرف الإسلامي وطالب بأن تحل محل هذه المصطلحات عبارات أكثر تحديدا وتوصيفا مثل إرهاب تنظيم القاعدة.
وطالب رشاد في ورقته البحثية الولايات المتحدة بأن تشجع انخراط مزيد من المنظمات الإسلامية والمؤسسات المعتدلة في الحياة الأميركية وحدد في ذلك الوقت مجلس الفقه الإسلامي في شمال الولايات المتحدة. وتشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن هذا المجلس له ارتباطات وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين.
ويبدو أن هذا النهج في التفكير هو ما شد انتباه الرئيس أوباما الذي طالما شدد منذ قدومه للسلطة على أن الولايات المتحدة في صراع مع مجموعات إرهابية وليست مع العالم الإسلامي.
فمند تولي الرئيس أوباما مهام منصبة في يناير 2009 بدأ رشاد حسين عمله مع مجلس الأمن القومي في تطوير ومتابعة تنفيذ الخطوط العريضة التي أوضحها الرئيس أوباما في خطابه بجامعة القاهرة، وقبل عمله في البيت الأبيض كان حسين ضمن الفريق القانوني الاستشاري لأوباما.
ويشير بعض المدافعين عن رشاد حسين إلى أنه عمل أيضا على حماية الأقليات الدينية وتحسين حياة المسيحيين واليهود والأقليات الدينية الأخرى التي تعيش في البلدان ذات الأغلبية المسلمة وسعى لمكافحة معاداة السامية ومحاولات إنكار الهولوكوست ونشر مواد معادية للسامية في العالم الإسلامي، داعيا إلى يذل الجهود في العالم الإسلامية لإنهاء الصور المهينة للكرامة البشرية التي تولد التعصب والكراهية.
وولد رشاد في ولاية وايومنغ الأميركية لأبوين هنديين هاجرا إلى الولايات المتحدة وانتقلا بين عدة ولايات إلى أن استقرا في ولاية تكساس، حيث وعمل والده محمد حسين مهندسا في مجال التعدين، أما والدته رقية وأخته لبنى فكانتا تعملان في مجال الرعاية الصحية وهو نفس المجال الذي سلكه أخوه الأصغر سعد.
وخلال دراسته الثانوية بمدرسة غرين هيل بتكساس كان رشاد عضوا في فريق مناقشة السياسات العامة للمدرسة وفاز في بطولة نقاش ولاية تكساس وعدد من المسابقات الوطنية. وكان رشاد من الطلبة المتفوقين الذين عرفوا بالذكاء والجد في التحصيل الدراسي. وقد استطاع رشاد الحصول على درجة البكالوريوس في غضون عامين، متخصصا في الفلسفة والعلوم السياسية من جامعة كارولينا الشمالية بمدينة تشابل هيل. وحصل على درجة الماجستير في اللغة العربية والدراسات الإسلامية من جامعة هارفارد كما حصل على درجة JD في القانون والتي تعادل الدكتوراه من جامعة ييل وهي برامج متخصصة لمن يرغب في اكتساب مهارات خاصة في أحد أفرع القانون. وخلال دراسته بجامعة ييل شغل رشاد منصب رئيس تحرير مجلة القانون. وبعد تخرجه عمل رشاد كموظف قانوني في محكمة الاستئناف الأميركية للدائرة الخامسة، كما عمل مدير لمكتب التواصل العالمي بمجلس الأمن القومي وقبلها عمل مساعد خاص للنائب العام الأميركي في واشنطن، حيث كان يتولى بعض القضايا الجنائية.
وحصل رشاد على درجتي الماجستير في الإدارة العامة والدراسات العربية والإسلامية من جامعة هارفارد وقام بكتابة بعض المقالات والمؤلفات حول الأمن القومي والقانون الدستوري والحريات المدنية. وفي عام 2013 حصل رشاد حسين على جائزة الشرف المرموقة التي تمنح للأشخاص الذين يقدمون خدمات استثنائية جليلة للوكالات الحكومية الأميركية التي تقوم بإنجازات ذات أهمية قومية.



علاقات واشنطن بأميركا اللاتينية «ترتّبها» حساباتها الآيديولوجية والمالية

لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)
لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)
TT

علاقات واشنطن بأميركا اللاتينية «ترتّبها» حساباتها الآيديولوجية والمالية

لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)
لقاء الرئيسين ترمب وميلاي الأخير (السفارة الأميركية في بوينس آيرس)

أعلنت الولايات المتحدة بلسان وزير الحرب بيت هيغسيت، يوم الثلاثاء قبل الفائت، أن قواتها المسلحة نفّذت 3 عمليات هجومية شرق المحيط الهادئ ضد 4 زوارق ادّعى انها كانت تحمل كميات ضخمة من المخدِّرات، وأن 14 عنصراً من طواقمها قتلوا في تلك العمليات «كانوا ينتمون إلى منظمات إرهابية معروفة» إلا أنه لم يذكر أسماءها ولم يكشف عن أي معلومات تؤكد ضلوعها في تهريب المخدرات. وفي نهاية الأسبوع قبل الماضي، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أنها أدرجت على قائمة الأشخاص المُعاقبين «لعلاقتهم» بتجارة المخدرات، المعروفة باسم «قائمة كلينتون»، أسماء كل من الرئيس الكولومبي غوستافو بترو، وزوجته فيرونيكا ألكوسير، ونجله البكر نيكولاس، ووزير الداخلية آرماندو بينيدتّي. وكان بترو قد أعلن قبل ذلك أنه تقدّم بشكوى لدى القضاء الأميركي ضد الرئيس دونالد ترمب الذي وصفه بـ«المجرم»، وبأنه من زعماء تجارة المخدرات. في المقابل، كان الرئيس الأميركي يعلن قبيل الانتخابات العامة الأرجنتينية - التي فاز فيها الرئيس خافيير ميلاي بفارق ملحوظ ومفاجئ على خصومه - عن مساعدة مالية للأرجنتين بمقدار 40 مليار دولار، في حين تعاني العائلات الفقيرة في الولايات المتحدة من خفض غير مسبوق في الخدمات الصحية والاجتماعية.

أعلنت الولايات المتحدة أخيراً عن خطوة جديدة تصعيدية في حملتها العسكرية ضد ما تصفه بـ«تجارة المخدرات في القارة الأميركية»، إذ قرّرت إرسال أحدث حاملة للطائرات وأكبرها في أسطولها البحري «جيرالد فورد»، والسفن الحربية المواكبة لها، إلى منطقة البحر الكاريبي، وكانت قد سبقتها إلى هناك 8 سفن حربية أميركية منذ أغسطس (آب) الفائت.

جاء ذلك الإعلان بعد الهجوم العاشر الذي شنّته القطع البحرية الحربية الأميركية في المياه الدولية ضد زورق، قتل فيه 6 أشخاص، وأصيب آخرون بجراح، وزعمت واشنطن يومذاك أنه تابع لإحدى منظمات الاتجار بالمخدرات. وتفيد المعلومات المستقاة من وزارة الحرب الأميركية «البنتاغون» بأن القوات البحرية المنتشرة في المنطقة تضمّ، بجانب حاملة الطائرات والطاقم المواكب لها، غواصة ومقاتلات من طراز «إف 35» المتطورة، وأكثر من 2000 عنصر، تابعين لمشاة البحرية «المارينز».

قرع طبول الحرب بحجة مكافحة المخدِّرات

إضافة إلى ما سبق، هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه يعتزم شنّ حملة برّية لملاحقة منظمات الاتجار بالمخدرات، التي يعتبرها عدواً في نزاع مسلّح مع بلاده. وكانت واشنطن قد سرّبت إلى وسائل إعلام أن ترمب ينوي مهاجمة مرافق إنتاج الكوكايين وطرق الإمدادات داخل فنزويلا.

أيضاً، وجّه ترمب اتهامات مباشرة إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، واصفاً إياه بواحد من زعماء تجارة المخدِّرات، بينما كان شون بارنيل، الناطق بلسان وزارة الحرب الأميركية، يعلن أن وجود حاملة الطائرات «جيرالد فورد» في المنطقة «سيعزّز القدرات الأميركية لرصد ومراقبة وتفكيك العملاء والأنشطة غير المشروعة التي تشكّل خطراً على رفاه الوطن الأميركي». ومع أن بارنيل لم يكشف عن موعد وصول حاملة الطائرات إلى الكاريبي، فإنها كانت قد شوهدت مطلع الأسبوع قبل الفائت، وهي تعبر مضيق جبل طارق من البحر المتوسط باتجاه المحيط الأطلسي، وعلى متنها نحو 5 آلاف جندي.

واشنطن تبذل جهداً ملحوظاً ومثيراً للجدل لدعم الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلاي

من جهة ثانية، وبعدما كان الرئيس ترمب قد أعلن أخيراً أنه أعطى الضوء الأخضر إلى وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لشنّ «عمليات سرّية» داخل فنزويلا، كتب وزير الحرب الأميركي هيغسيت، على منصة «إكس» مهدّداً: «إذا كنتَ مهرّباً للمخدِّرات في منطقتنا، فسنعاملك كما عاملنا تنظيم (القاعدة) من قبل. سنلاحقك في النهار والليل، ونتعقّب شبكاتك، ونرصد أعوانك ونقتلك». وللعام، أسفرت العمليات التي نفّذتها البحرية الأميركية حتى الآن في منطقة الكاريبي عن مقتل ما يزيد عن 50 شخصاً.

الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو (آ ب)

مادورو: واشنطن تخطط لإسقاط الشرعية

في هذه الأثناء، ندّد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بما أسماه «المخطّط الأميركي لإسقاط النظام الشرعي» في بلاده، وأردف قائلاً إن زمن اللجوء الى «وكالة الاستخبارات المركزية» لقلب أنظمة الحكم في أميركا اللاتينية قد ولّى. وتابع مادورو أن حكومته (اليسارية) «تنظر بقلق شديد» إلى استخدام الاستخبارات الأميركية ضد فنزويلا، وإلى «السياسة العدوانية التي تنتهجها واشنطن بهدف تغيير النظام عن طريق المناورات التخريبية والقوة». ثم ذكر أنه كلّف البعثة الفنزويلية الدائمة لدى الأمم المتحدة تقديم شكوى أمام مجلس الأمن الدولي للمطالبة بمساءلة الإدارة الأميركية، واتخاذ تدابير عاجلة تحول دون التصعيد العسكري في منطقة الكاريبي.

هذا، وكان وزير الخارجية الفنزويلي، إيفان خيل بينتو، قد صرّح في حديث خاص مع «الشرق الأوسط» أخيراً، بأن بلاده وجّهت رسالة واضحة إلى واشنطن، مفادها: «إنهم - أي الأميركيين - سيواجهون ردّاً غير محسوب في حال شنّهم هجوماً عسكرياً ضد فنزويلا». وأردف أن بلاده «جاهزة منذ سنوات لأي نوع من الاعتداءات... وخلال الأشهر الأخيرة عزّزنا التجهيزات الدفاعية، ونشرنا الميليشيا البوليفارية المسلحة في مناطق عديدة لصدّ أي هجوم».

الآثار الملموسة لحرب واشنطن الاقتصادية

غير أن تصريحات المسؤولين الفنزويليين لا تخفي التداعيات الاقتصادية للحملة التي تشنّها الإدارة الأميركية ضد نظام مادورو، ناهيك من الضغوط السياسية والنفسية التي يتعرّض لها هذا النظام اليساري.

ومع أن الرئيس الفنزويلي أكّد، في ظهوره مطلع الأسبوع أمام مواطنيه، أن إجمالي الناتج المحلي قد ازداد منذ بداية السنة الجارية بنسبة 7 في المائة - وهي تقديرات تبنّتها المنظمات الاقتصادية الإقليمية - توقّع بيان صادر هذا الأربعاء عن «صندوق النقد الدولي» أن النمو الاقتصادي في فنزويلا لن يتجاوز واحداً في المائة هذا العام، وأن نسبة التضخّم قد تصل إلى 270 في المائة، بل يدّعي خبراء أنها قد تتجاوز 400 في المائة.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن التراجع الاقتصادي الذي تشهده فنزويلا منذ سنوات، مشفوعاً باضطرابات سياسية واجتماعية مستمرة، أدّى إلى انكماش اقتصادها إلى ما يعادل 30 في المائة من حجمه التاريخي، عندما كانت خامس قوة اقتصادية في أميركا اللاتينية، بعد البرازيل والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا.

أضف إلى ذلك أن فنزويلا، بمواجهة حرب اقتصادية أميركية ضروس عليها، تواجه اليوم أيضاً خطر انسداد السُّبل أمامها للحصول على قروض من المصارف الدولية، ما يحرمها من فرص الاستثمار اللازمة لإنعاش اقتصادها.

الرئيس الكولومبي غوستافو بترو (آ ب)

بين عداء كولومبيا... ودعم الأرجنتين

من جهة ثانية، مقابل التصعيد الأميركي ضد فنزويلا، الذي يندرج في سياق السياسات التي نهجتها الإدارات السابقة... لكن بمزيد من الشدة والتهديد بالتدخل العسكري المباشر، تصعّد إدارة الرئيس ترمب أيضاً ضد كولومبيا التي كانت تعتبر حليفاً تاريخياً لواشنطن. ومقابل ذلك، تبذل الولايات المتحدة جهداً ملحوظاً ومثيراً للجدل - حتى في أوساط الغالبية الجمهورية - لدعم الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير ميلاي، الذي يعتنق جميع مبادئ دونالد ترمب، بل يزايد عليها.

إذ قرر ترمب أخيراً، كما هو معروف، منح الأرجنتين، الغارقة في بحر من الديون، تبدو عاجزة عن سدادها، مساعدة بمقدار 40 مليار دولار. وبطبيعة الحال، طرح هذا القرار تساؤلات في الأوساط السياسية والاقتصادية الأميركية حول دوافع هذه الخطوة وجدواها. والمثير في الأمر أنها تأتي في حين تواصل إدارة ترمب خفض المساعدات الاجتماعية والخدمات الصحية للمواطنين الأميركيين.

أيضاً، ما يجدر ذكره أن الرئيس ترمب سئل أخيراً لدى استقباله نظيره الأرجنتيني في البيت الأبيض، عن «دوافع» هذا القرار، وكيف سيعود بالفائدة على «المصالح الأميركية» التي جعل الدفاع عنها عنوان ولايته، فأجاب: «بكل بساطة، إننا نساهم في ترسيخ فلسفة عظيمة في بلد عظيم». وأضاف وزير الخزانة الأميركي، من جانبه: «الأرجنتين حليف بالغ الأهمية»، مؤكداً أن دوافع القرار «سياسية بحتة»، ولا علاقة لها البتة بالحسابات الاقتصادية.

بالتوازي، مع أن خافيير ميلاي يفاخر بأنه «التوأم الآيديولوجي» للرئيس ترمب، فقد كان هو السبّاق في إطلاق حملة التقشّف القصوى. إذ طرح برنامجه تحت عنوان «إعلان الحرب على التبذير الحكومي»، لكن انتهى به الأمر إلى تفريغ الخدمات العامة من مضمونها... من غير أن يقدّم أي حل للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الأرجنتين، والتي كان فشل الحكومات السابق في معالجتها باب وصول ميلاي إلى الرئاسة.

بالمناسبة، الرئيس ترمب كان قد أعلن بوضوح عشية الانتخابات العامة الأرجنتينية، التي أجريت يوم الأحد قبل الماضي وفاز فيها ميلاي، أن استمرار تيار الأخير السياسي اليميني مرهون ببقاء ميلاي في السلطة. وذهب إلى حدّ التحذير بأن واشنطن «لن تضيّع الوقت» إذا فشل التحالف اليميني الحاكم الذي يقوده ميلاي.

في غضون ذلك، تشكّك الأقلية الديمقراطية في الكونغرس الأميركي، ومعها بعض الأصوات الجمهورية، في شرعية المساعدة المالية التي منحها ترمب لحليفه الأرجنتيني. وهذا، من منطلق أن «استخدام المال العام بهدف التأثير في انتخابات أجنبية»، ولا سيما أن الإدارة الحالية لا تكفّ عن فرض خفض جذري للمساعدات الخارجية المخصصة لبرامج إنمائية وصحية تنقذ أرواح الملايين في أنحاء العالم. كذلك، ثمة شكوك عميقة في قدرة الأرجنتين على سداد هذا القرض الذي يخضع للمساءلة في الكونغرس، وبخاصة أن وزارة الخزانة الأميركية لم تعلن عن أي ضمانات أو شروط لاسترداده.

ولعل، ما يزيد التساؤلات والشكوك حول هذه الخطوة، أن ترمب قال صراحةً بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات الأرجنتينية: «لقد ربحنا مالاً كثيراً». وهو ما يؤكد صحة التقارير المالية التي كشفت أن عدداً من صناديق الاستثمار الكبرى في الولايات المتحدة هي التي حقّقت أرباحاً طائلة بفضل تعاملها بالسندات الأرجنتينية.

حقائق

الوجود العسكري الأميركي في الكاريبي

في انتشار حربي إقليمي غير مألوف، باشرت الولايات المتحدة، مطالع شهر أغسطس (آب) الفائت، إرسال قِطع من أسطولها البحري إلى منطقة البحر الكاريبي، شملت أسراباً من الطائرات المقاتِلة ووحدات من «المارينز» (مشاة البحرية). وحول هذا الأمر قالت واشنطن إن الهدف من وجودها «محاربة عصابات المخدِّرات» التي تنشط في تلك المنطقة وتُغرق السوق الأميركية بها.

بين القطع البحرية التي توجد حالياً في المنطقة التابعة للقيادة الجنوبية في الجيش الأميركي طرّادات ومدمّرات وسفن هجومية برّمائية وغواصة. وينتظر أن تنضم إليها في الأيام المقبلة حاملة الطائرات «جيرالد فورد» المزوّدة بوقود نووي، وهي الأكبر والأحدث في الأساطيل الأميركية، تُرافقها مجموعة من سفن الدعم والإمداد والمواكبة. يضاف إلى كل هذا عدد غير معروف من الهليكوبترات والمقاتِلات المتطورة وما يزيد عن 4500 عنصر من مشاة البحرية، وخمسة آلاف جندي يُشكلون طاقم حاملة الطائرات.

هذا الانتشار الحربي الذي أمر به الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا سابقة له في العقود المنصرمة، ولا يُذكر مثيل له سوى في عام 1989 عندما غزت الولايات المتحدة جزيرة غرينادا. وتفيد معلومات صحافية، نقلاً عن خبراء عسكريين، بأن التشكيلة البحرية الأميركية الموجودة حالياً قبالة السواحل الفنزويلية تضم قطعاً حربية مخصّصة لعمليات إنزال بري واسعة.

أما المسؤولون الأميركيون فيكرّرون في تصريحاتهم القول إن «الهدف من هذا الحشد البحري هو محاربة عصابات تهريب المخدرات وتفكيك شبكاتها بحراً وبراً». لكن الناطقة بلسان البيت الأبيض كانت قد صرّحت، في بداية هذا الانتشار، بأن «الرئيس ترمب كان واضحاً عندما قال إنه عازم على استخدام كل الموارد التي في متناوله لوقف دخول المخدرات الولايات المتحدة وإحالة المسؤولين عن ذلك إلى القضاء...»، لكنها أضافت أن «موقف الحكومة الأميركية من النظام الفنزويلي هو أن نيكولاس مادورو ليس رئيساً شرعياً». ولقد ردّ مادورو يومها على ذلك بقوله: «لن نسمح لأي إمبراطورية بأن تمسّ أرض فنزويلا المقدسة»، مؤكداً أن بلاده تملك الأسلحة اللازمة لصدّ أي عدوان.

جدير بالذكر أن «جيرالد فورد» هي أكبر سفينة حربية في التاريخ، إذ يبلغ طولها 336 متراً، ويزيد وزنها عن مائة ألف طن. ومن الدفاعات المجهزة بها 75 طائرة مقاتِلة، من بينها طائرات «إف - 18 إيه» التي لا تملك منها سوى القوات المسلحة الأميركية. أي أنه بوصول هذه الحاملة إلى الكاريبي سيكون للأسطول الأميركي الموجود هناك أكثر من مجموع المقاتِلات التي يملكها سلاح الجو الفنزويلي، ومعظمها روسية الصنع من طراز «سوخوي - سو 30»، أو أميركية من طراز «إف - 16».



زهران ممداني «اشتراكي نيويورك» الشاب أعاد خلط أوراق الحزب الديمقراطي الأميركي

حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين
حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين
TT

زهران ممداني «اشتراكي نيويورك» الشاب أعاد خلط أوراق الحزب الديمقراطي الأميركي

حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين
حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين

فوز زهران (يُكتب «ظهران» باللغة الأوردية) ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، يجعل منه أول مسلم يتولى هذا المنصب في تاريخ كبرى مدن الولايات المتحدة وعاصمتها الاقتصادية. ثم إنه يشكّل نقطة تحوّل لافتة في مسار الحزب الديمقراطي الأميركي. ذلك أن هذا المسلم اليساري ذا الأصول الهندية - الأوغندية، البالغ من العمر 34 سنة، تمكّن من إلحاق هزيمة مدوّية بمنافسيه الديمقراطيين التقليديين والجمهوريين على حد سواء، في لحظة سياسية يعاني معها حزبه من «أزمة هوية»، وذلك في أعقاب خسارته البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والنواب لصالح دونالد ترمب وحزبه الجمهوري في انتخابات عام 2024.

ولد زهران - أو ظهران - ممداني، وهو مسلم شيعي من الطائفة الاثني عشرية، في كمبالا عاصمة أوغندا عام 1991 لعائلة مثقفة من أصول هندية، وذلك بعدما عادت إليها من المنفى الذي فرضه نظام الرئيس الأوغندي السابق عيدي أمين في السبعينات على ذوي الأصول الآسيوية.

والده هو الأكاديمي المعروف الدكتور محمود ممداني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا، وصاحب مؤلفات مؤثرة حول الاستعمار وما بعده في أفريقيا. ووالدته ميرا ناير، المخرجة العالمية ومنتجة الأفلام الوثائقية التي تتناول قضايا العدالة الاجتماعية والهوية. وهي هندوسية الديانة، لكنها - مثل زوجها - خريجة جامعة هارفارد العريقة.

ممداني الابن انتقل طفلاً إلى نيويورك، ولاحقاً، درس في كلية بودن، الجامعية الخاصة الراقية بولاية مين، حيث تخرج عام 2014 بدرجة البكالوريوس في الدراسات الأفريقية، ثم حصل على الجنسية الأميركية عام 2018.

في بودن، كان ممداني عضواً مؤسساً لفرع منظمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، قبل أن ينخرط في العمل السياسي منظّماً لحملات انتخابية لمرشحين اشتراكيين ديمقراطيين، فشلت كلها.

ولكن، عام 2019، قرّر الترشح نائباً في برلمان ولاية نيويورك ممثلاً عن منطقة أستوريا في مقاطعة كوينز (إحدى مقاطعات مدينة نيويورك الخمس)، على أساس إصلاح الإسكان والشرطة والسجون والملكية العامة للمرافق، حيث أيده «الاشتراكيون الديمقراطيون في أميركا». إلا أن إعلان فوزه في الانتخابات التمهيدية خلال يونيو (حزيران) 2020 استغرق قرابة شهر، وذلك بعدما تمكن من إلحاق الهزيمة بالنائبة الديمقراطية المخضرمة أرافيلّا سيموتاس، التي كانت تشغل المقعد منذ أربع ولايات متتالية، ليفوز في الانتخابات العامة دون معارضة جمهورية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. ومن ثم، أعيد انتخابه أيضاً من دون أي معارضة في عامي 2022 و2024.

على صعيد آخر، تعرّف ممداني عام 2021 على راما دواجي، الرسامة السورية - الأميركية، عبر تطبيق المواعدة «هينج». وتمت الخطوبة في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وتزوّجا في حفل مدني بمدينة نيويورك أوائل عام 2025، وأعقب ذلك حفل زفاف خاص في دبي، حيث أمضت راما معظم طفولتها، ولا تزال عائلتها تقيم هناك. أيضاً أقام العروسان الشابان لاحقاً حفل زفاف استمر ثلاثة أيام في منزل ممداني بأوغندا.

وللعلم، وُلدت راما دواجي في مدينة هيوستن، بولاية تكساس، عام 1997، لأبوين سوريين مسلمين، وانتقلت إلى دبي في سن التاسعة. ودرست فنون التواصل في جامعة فيرجينيا كومنولث بالولايات المتحدة، وحصلت لاحقاً على ماجستير في الفنون الجميلة بتخصص الرسم التوضيحي من كلية الفنون البصرية في مدينة نيويورك.

كان اسماً مغموراً

لم يكن اسم ممداني معروفاً على نطاق واسع عندما أعلن ترشحه لمنصب عمدة نيويورك في خريف 2024، إلا أن حملته الحماسية التي ركّزت على أزمات السكن وتكاليف المعيشة، سرعان ما وجدت صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الناخبين. ذلك أنه دعا إلى تجميد الإيجارات، وتوفير النقل العام بالحافلات مجاناً، وخفض تكاليف حضانات الأطفال، وإنشاء متاجر بقالة مملوكة للمدينة تبيع بأسعار الجملة، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولاراً في الساعة بحلول عام 2030.

برنامج يساري لمدينة رأسمالية

وحقاً، تحوّل ممداني، الذي يوصف بأنه «اشتراكي ديمقراطي»، إلى رمز جديد للجيل التقدّمي داخل الحزب، بعدما استطاع حشد أصوات الطبقة العاملة والشباب والمهاجرين في مدينة تُعدّ الأغلى معيشة في الولايات المتحدة. وجاء فوزه، بالأمس، ليمنح هذا الجناح اليساري زخماً سياسياً ومعنوياً كبيراً، ويفتح في المقابل نقاشاً حاداً داخل الحزب حول الوجه الذي يجب أن يقدّمه للناخبين خلال السنوات المقبلة.

إذ بينما يرى قادة الحزب «الوسطيون»، وفي مقدمهم زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز، أن تقديم وجوه معتدلة مثل أبيغيل سبانبَرغر وميكي شيريل اللّتين فازتا بمنصبي حاكمتي ولايتي فيرجينيا ونيوجيرزي، هو الطريق الآمن والأمثل لاستعادة الناخبين المستقلين، يعتقد الجناح «التقدمي» (اليساري) أن تجربة ممداني تؤكد استمرار جاذبية الخطاب الاجتماعي الاقتصادي المناصر للطبقات الدنيا والمتوسطة، لا سيما في المدن الكبرى.

هذا، ومع أن نيويورك تُعد مركزاً مالياً عالمياً، قدّم ممداني بالفعل خطاباً يسارياً صارماً، ركّز فيه على ما وصفه بـ«حق الناس في العيش الكريم». فقد دعا إلى فرض ضرائب أعلى على الأثرياء والشركات الكبرى لتمويل التعليم العام والإسكان الميسّر، مع تشديد الضوابط على أسعار الإيجارات ووقف عمليات الإخلاء القسري.

وكذلك طرح أفكاراً لإصلاح جهاز الشرطة... وهو بعدما كان قد وصفه سابقاً بأنه «يعاني من عنصرية بنيوية»، حاول فيما بعد تبني خطاب أكثر توازناً تجاهه يؤكد التعاون مع الشرطة مع تعزيز الحلول الاجتماعية للحد من الجريمة.

استراتيجية رقمية

اعتمدت حملة ممداني على استراتيجية رقمية مبتكرة في التواصل مع الناخبين؛ إذ استخدم مقاطع فيديو قصيرة على «إنستغرام» و«تيك توك» و«يوتيوب» أظهرت تفاعله المباشر مع سكان المدينة.

وقدّم صورة شبابية قريبة من الناس، بعيدة عن النمط السياسي التقليدي. وكانت مشاهد التقاطه صور «سيلفي» في شوارع مانهاتن، ووجبات الإفطار الرمضانية في مترو الأنفاق جزءاً من هذه الصورة التي أكسبته ثقة جمهور متنوع عرقياً ودينياً وثقافياً.

خلفية دينية وعرقية... وتحفظات حزبية

من جهة أخرى، شكّلت خلفية ممداني الإسلامية والهندية - الأفريقية عاملاً إضافياً في جاذبيته، خصوصاً بين أكثر من مليون مسلم يعيشون في المدينة. ولقد حرص على جعل إيمانه جزءاً من هويته السياسية، من دون أن يحوّله إلى شعار ديني؛ إذ قال في أحد خطاباته: «أعلم أن تولّي منصب عام بوصفي مسلماً يعني التضحية بالسلامة الشخصية، لكنه أيضاً وسيلة لتأكيد أن هذه المدينة تتّسع للجميع».

ولعل هذا البُعد، المتعدد الثقافات، ساعده على بناء تحالف انتخابي واسع ضمّ شباناً، وأفارقة، وآسيويين، ولاتينيين، ومهاجرين جدداً، ما جعل منه مرشحاً عابراً للحدود التقليدية للسياسة المحلية.

أيضاً، في حين حظي ممداني بدعم شخصيات بارزة من الجناح «التقدّمي» مثل السيناتور بيرني ساندرز والنائبة ألكسندريا أوكازيو كورتيز، اللذين رأيا في فوزه «برهاناً على أن اليسار الأميركي ما زال يمتلك القدرة على الإقناع»، فإنه في المقابل، دفع عدداً من القادة الديمقراطيين «الوسطيين» للنأي بأنفسهم عنه. ومن هؤلاء السيناتور تشاك شومر، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، الذي تجنّب دعمه علناً. كذلك علّق أحد أساتذة السياسة في جامعة نيويورك قائلاً: «كثيرون من الديمقراطيين يعتبرون أن ممداني يطرح رسالة جيدة، لكن من خلال رسول سيئ». وطبعاً، لم يتأخر الرئيس دونالد ترمب في مهاجمته، واصفاً إياه بـ«الشيوعي الصغير» الذي يريد «هدر أموال دافعي الضرائب»، وأضاف أن الولايات المتحدة «فقدت شيئاً من سيادتها بانتخابه».

الموقف من إسرائيل وفلسطين

لا يُخفي ممداني دعمه العلني للقضية الفلسطينية وانتقاده الحاد لسياسات الحكومة الإسرائيلية. ففي عام 2023، قدّم مشروع قانون لإنهاء الإعفاءات الضريبية للجمعيات المرتبطة بالمستوطنات الإسرائيلية، كما عبّر عن تأييده لحملات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.

هذه المواقف أثارت جدلاً واسعاً داخل الحزب وخارجه، واستغلها عدد من الجمهوريين لاتهامه بالتطرف. لكنه ردّ بأن «انتقاد سياسات دولة لا يعني معاداة شعبها»، وبأنه «لا مكان لمعاداة السامية في نيويورك»، متعهداً بزيادة تمويل برامج مكافحة جرائم الكراهية.

نموذج غير قابل للتعميم

في أي حال، يرى العديد من المراقبين أن فوز ممداني في نيويورك لا يمكن تعميمه على مستوى الولايات المتحدة؛ إذ إن المدينة تُعد استثناءً سياسياً واجتماعياً، بحكم تنوعها السكاني وطابعها الليبرالي التاريخي.

دانيال شلوزمان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جونز هوبكنز، يرى أن «مسألة ممداني دليل على أن اليسار الأميركي ما زال يمتلك إمكانات، لكن نيويورك ليست نموذجاً يمكن تطبيقه في ولايات مثل أوهايو أو أريزونا». ويضيف: «التحدّي الحقيقي أمام الديمقراطيين هو ترجمة هذا النوع من الرسائل الاجتماعية التقدمية إلى لغة مفهومة للناخبين في الولايات المتأرجحة التي تحسم مصير الانتخابات الفيدرالية».

نحو إعادة تعريف الديمقراطيين لأنفسهم

من ناحية ثانية، فتح صعود ممداني النقاش مجدداً حول هوية الحزب الديمقراطي. فبينما يرى «الوسطيون» أن الطريق إلى استعادة البيت الأبيض يمرّ عبر الاعتدال والتقارب مع المستقلين، يعتقد «التقدميون» أن فوز ممداني يثبت أن خطاب العدالة الاجتماعية لا يزال قادراً على إلهام الناخبين، خصوصاً الشباب والطبقة العاملة.

هذا الجدل يزداد حدة مع استمرار تراجع شعبية الحزب؛ إذ أظهر استطلاع لـ«وول ستريت جورنال» خلال يوليو (تموز) الماضي، أن 63 في المائة من الأميركيين ينظرون إليه نظرة سلبية، وهي أدنى نسبة تأييد له منذ أكثر من ثلاثين سنة.

بالتالي، يمكن قراءة تجربة ممداني من زاويتين: الأولى، أنها أظهرت قدرة التيار التقدّمي على تعبئة الناخبين حول قضايا معيشية ملموسة؛ والثانية، أنها كشفت عن محدودية هذا الخطاب خارج المدن الكبرى.

ولئن كان فوز ممداني قد أنعش آمال الجناح اليساري في الحزب، فإنه في المقابل زاد من قلق المعتدلين الذين يخشون أن يؤدي تبنّي مثل هذه السياسات إلى خسائر انتخابية في الولايات المتأرجحة التي تُعدّ مفتاح الفوز بالرئاسة والكونغرس. وفعلاً، تواجه قيادة الحزب راهناً صعوبة في الموازنة بين الجناحين: فكيف يمكن الجمع بين الطموح الاجتماعي والاقتصادي للتيار «التقدّمي»، وبين واقعية الجناح «الوسطي» الضرورية لكسب أصوات المستقلين؟

قد يكون الحل، وفق خبراء، في تبنّي «مقاربة هجينة» تمزج بين الحسّ الاجتماعي والاقتصادي الذي عبّر عنه ممداني، وخطاب معتدل قادر على طمأنة الناخبين التقليديين. فالرسالة «التقدّمية» الصافية قد تنجح في المدن الكبرى، لكنها وحدها ليست كافية لضمان الانتصار في الولايات الحاسمة. ولإدارة هذا الانقسام الداخلي، قد يتوجب على القيادات «المعتدلة» و«التقدمية» فتح «غرفة حوار» داخلي لتحديد الأولويات الانتخابية المقبلة (الانتخابات النصفية 2026، والرئاسية 2028).

لا شك، يمثّل ممداني جيلاً جديداً من الساسة الأميركيين الذين يسعون إلى إعادة تعريف معنى «اليسار» في بلد رأسمالي حتى النخاع. وفوزه في نيويورك ليس مجرد انتصار محلي، بل اختبار لمستقبل الحزب الديمقراطي نفسه: هل سيتبنى روح التغيير الجريء التي يمثلها هذا الشاب، أم يعود إلى براغماتية الوسط التي كانت دائماً مصدر قوته الانتخابية؟

الجواب، كما يبدو، سيتحدّد خلال السنوات القليلة المقبلة، مع اقتراب المعركة الكبرى في انتخابات 2028.


إعادة صياغة «معادلة النفوذ» في ليبيا بين حفتر والدبيبة

عبد الحميد الدبيبة (آ ب)
عبد الحميد الدبيبة (آ ب)
TT

إعادة صياغة «معادلة النفوذ» في ليبيا بين حفتر والدبيبة

عبد الحميد الدبيبة (آ ب)
عبد الحميد الدبيبة (آ ب)

تلوح مؤشرات «مرحلة جديدة» في ليبيا تتسم بمزيج من «البراغماتية والتحوّط»، بعد سنوات من التجاذب والانقسام بين جبهتي شرق البلاد وغربها، إذ يسعى كل طرف - بما يملكه من قدرات وإسناد اجتماعي - إلى توسيع هامش حضوره على الأرض، من دون الانزلاق مجدداً إلى المواجهة العسكرية المباشرة. في إطار هذه المؤشرات، بدت جبهة شرق ليبيا، التي يعبّر عنها المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» ساعية إلى توسيع نطاق سيطرتها جغرافياً بشكل متسارع، في مواجهة ما يوصف بأنه «انكماش» لجبهة حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة الموجودة في العاصمة طرابلس غرب البلاد. وتوافقاً مع ذلك، يظهر الطرفان المتنازعان انشغالاً ملحوظاً بالعودة إلى «الحاضنة الشعبية»، في محاولة لإعادة التموضع سياسياً وميدانياً، بما يضمن لكل منهما رسم معادلة نفوذ جديدة.

المشير خليفة حفتر (آ ب)

يعكس المشهد الليبي حراكاً متسارعاً وتبدلاً واضحاً في حسابات القوى المحلية والدولية على حدٍّ سواء. وملامح هذه المرحلة الجديدة، وفقاً لآراء سياسيين وأكاديميين ليبيين، تنبع من حالة احتقان شعبي متصاعدة تجاه تكلّس الوضع الراهن، الذي يُنظر إليه نتيجة لهيمنة عائلتي الدبيبة وحفتر على المشهد.

غير أن المعسكر التابع لحفتر يعوّل على رصيده من «مكافحة الإرهاب» خلال السنوات الفائتة، متبنياً خطاباً يلقى صدى واسعاً بين الليبيين، ويعتمد فكرة «استعادة الأمن» في مواجهة واقع «هشّ» أرهق سكان البلاد وعمّق شعورهم بانعدام الاستقرار.

ذوبان تدريجي للعداوات القديمة

وفق هذه «البراغماتية»، بدأت «العداوات القديمة» تذوب تدريجياً. وأخذت تتحوّل المواقف السابقة في شكل اصطفافات اجتماعية جديدة لتسهم في إعادة صياغة «معادلة النفوذ» من جديد، حتى وإن ظلّت بعض الأطراف المحلية تبدي تحفظاً أو حذراً حيال هذا التحوّل.

ولكن ما أبعاد هذه المرحلة؟

وإلى أي مدى تغيّرت الأوزان النسبية بين الأطراف المتصارعة بالفعل؟

وأين تقف السلطة التنفيذية في العاصمة طرابلس من هذا المشهد... الذي يطوي داخله تفاعلات متسارعة؟

قبل الإجابة عن كل هذه التساؤلات، ينبغي التذكير بأن خريطة التوازنات التقليدية في ليبيا ظلّت على حالها بين حكومة «الوحدة الوطنية» و«الجيش الوطني الليبي»، قبل أن يتحرّك الأخير خارج حدود جغرافيته القديمة ويزيد من تمدده جنوباً إلى حيث التموضع في سبها، ثم القطرون وترغن وبراك الشاطئ.

ويُلاحظ أن هذه التحرّكات جاءت انعكاساً لـ«رغبات قبائلية» تطالب بـ«الأمن والأمان»، وتالية للتغيرات التي جرت على المناصب القيادية في «الجيش الوطني الليبي»، وأتت بصدّام وخالد نجلي خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش» إلى مقدمة صفوف المؤسسة العسكرية.

من بنغازي شرقاً إلى حدود الجزائر

تعد المنطقة الشرقية كاملة قلب نفوذ حفتر السياسي والعسكري والأمني، لكن هذا الواقع لم يمنعه من تمدد قواته، أي «الجيش الوطني الليبي»، حتى الحدود مع السودان وتشاد وجزء من الحدود مع النيجر والجزائر بأقصى الجنوب الغربي، مروراً بسرت والجفرة (وسط البلاد).

ومع تولي صدّام خليفة حفتر مهامه الجديدة نائباً للقائد العام، وكذا خالد لـ«رئاسة الأركان العامة»، في عملية ترقٍّ وُصفت بأنها «سلسة»، بدأت أطراف داخلية وخارجية تتعامل معهما بنظرة استشرافية لما قد تؤول إليه الأمور في الآتي من الأيام.

أمام هذه الأوضاع، التي تراوح مكانها في ليبيا منذ إنهاء الحرب على طرابلس (2019 - 2020)، سعت القيادة العامة إلى إحداث «اختراق وخلخلة» في معادلة القوة مع معسكر غرب البلاد، عبر فتح قنوات اتصال مع محسوبين عليه. وحقاً، في لقاء جمع حفتر بوفد من مشايخ وأعيان مدينة الزنتان، الأربعاء الماضي، في مدينة بنغازي، تطرّق الدكتور حمد بالعيد، أحد أعضاء الوفد، إلى هذا «المتغيّر الجديد» في العلاقة عندما قال: «جئنا إلى هنا تلبية لاحتياج الوطن واستجابة لنداء الواجب».

زيارة وفد الزنتان إلى بنغازي – على الرغم من أنها أحدثت ردود فعل غاضبة في أوساط المدينة - فإنها تعدّ «علامة فارقة في تاريخ العلاقة مع شرق ليبيا». إذ تحدّث بالعيد عن «خطورة المرحلة التي تمر بها ليبيا»، فقال: «دعمنا القيادة العامة في الماضي، وندعمها حاضراً، وسندعمها لتكمل مشوارها مستقبلاً؛ لأن (مشروع الكرامة) الذي تمثله هو طوق النجاة للوطن».

طبقاً لذلك، يرى المحلل السياسي أسامة الشحومي أن نفوذ الجيش بدأ «يتوسّع بشكل تدريجي ومدروس على الأرض، ليس فقط عسكرياً، بل سياسياً وإدارياً؛ وهو ما نراه من تحرك قياداته بثقة من الوسط إلى الجنوب»، فضلاً عن «لقاءات لصدام وخالد مع القبائل في إطار توسيع شبكة ولاءات محلية». ثم إن انفتاح صدّام وخالد حفتر بشكل ملحوظ على عديد القبائل في الشرق والغرب والجنوب، خطوة عدّها متابعون تقارباً يطوي صفحات من «الرفض» وينهي «جفوة» بين مشايخ وحكماء من هذه القبائل والقيادة العامة في بنغازي.

ومن جهة ثانية، يلخّص مسؤول ليبي سابق، بشمال غربي ليبيا، التقته «الشرق الأوسط» حال كثير من الليبيين راهناً. إذ قال «ثمة شرائح عديدة من شعبنا، حتى في الغرب، باتت تفضّل الاحتماء بجيش منظّم؛ وإن غلب عليه الطابع العائلي، بدلاً من الارتهان إلى ميليشيات مسلحة منفلتة». وذهب إلى أن هذا «التغيّر في الحسابات» يأتي على خلفية «الويلات التي تجرّها التشكيلات المسلحة على السكان المدنيين كلما دبّت بينها خلافات، فتندلع اشتباكات تخلف مزيداً من القتلى والجرحى».

وخارجياً، أيضاً، بدت المقارنة واضحة بعد الجولات المتعددة التي يجريها «الأخوان حفتر» إلى دول عدة، بداية من تركيا وإيطاليا وأميركا واليونان ومصر، ووصولاً إلى روسيا وبيلاروسيا، لكن يبقى انفتاح القيادة العامة على الأخيرتين «الخطوة الأعمق».

طي صفحة «العداوات القديمة»

في أي حال، يمكن القول إن «الجيش الوطني الليبي» أحرز تقدماً ملحوظاً نحو الجنوب الليبي، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضاً من ناحية «الوجود المؤسسي» مثل إطلاق المشاريع والتقارب من الأطراف المحلية. وهو ما انعكس خلال المشاريع التي دُشّنت في سبها إبّان زيارة وفد القيادة العامة إلى الجنوب، برئاسة صدام حفتر.

ومن مدينة البيضاء شرقاً إلى سبها جنوباً، ومن قبائل المنطقة الوسطى إلى قبائل القذاذفة والحطمان والمشاشية وترهونة، عقد صدّام وخالد حفتر لقاءات متنوعة مع مشايخ وحكماء هذه القبائل، في خطوة عدّها الشحومي «انتقال القوة من السيطرة الأمنية إلى تثبيت الشرعية داخل هذه المناطق».

وهنا تبرز نقطة محورية، رصدها المسؤول الليبي السابق، في إطار ما سماه «الخلخلة في بنية الخصومة السابقة بين شرق ليبيا وغربها»، تتمثل في لقاء ممثلين عن تشكيلات مسلحة من مصراتة مع خالد حفتر الشهر الماضي. غير أنه استدرك فقال: «هذه الاجتماعات لن تنهي العداوات التي تركتها حرب الجيش على طرابلس في يوم وليلة، إذ لا يزال هناك رفض لحركة تمدد القيادة العامة خارج المنطقة الشرقية».

لكن الشحومي تحدث عن مشكلة يواجهها «الجيش الوطني» رغم تمدد نفوذه، تتمثل «في غياب الرؤية السياسية الواضحة... إذ لا توجد خطة طويلة الأمد لإدارة الدولة». ولذا تساءل بقلق: «من يدير المشهد حال غياب حفتر».

تعد المنطقة الشرقية كاملة قلب نفوذ حفتر السياسي والعسكري والأمني

لكن هذا الواقع لم يمنعه من تمدد قواته

حتى الحدود مع السودان وتشاد

وضعية قوات الدبيبة

في معادلة النفوذ والسيطرة الأمنية، تظهر على سطح الأزمة السياسية مقارنات حتمية بشأن الأوزان النسبية بين جبهتي شرق ليبيا وغربها. فما بين تصاعد أسهم نجلي حفتر، يلفت الشحومي، والمسؤول الليبي السابق، إلى أن «المعسكر الغربي يعيش حالة انكماش واضحة».

الشحومي يُرجع هذه الحالة إلى «الانقسامات الداخلية وتآكل الثقة بين الفصائل المسلحة، فضلاً عن العجز عن إنتاج مؤسسات قادرة على إدارة المشهد»، ويتابع: «حتى أنقرة باتت تدرك أن شراكتها المستقبلية قد تكون مع حفتر وليس مع قوات طرابلس، لأن الأولى براغماتية في تعاملاتها؛ وكل خطواتها ستكون مدروسة».

بالنسبة للدبيبة، الذي تتمحور جُل قواته داخل حدود العاصمة، فإنه يعتمد على عناصر وزارتي الداخلية والدفاع بالإضافة إلى تشكيلات مسلحة في العاصمة وفي مدينة مصراتة - مسقط رأسه - كان قد استنفرها جميعاً في صدامه مع «جهاز الردع» بإمرة عبد الرؤوف كارة في مايو (أيار) الماضي.

ولقوات الدبيبة وجود محدود أيضاً في جنوب غربي ليبيا، لكنه يسعى من خلال «اللواء 444 قتال» إلى توسيع نطاق عمله هناك باتجاه الحدود مع تونس. وبجانب ذلك يعمل على توطيد علاقته بمدن تميل إلى صف «الجيش الوطني الليبي» مثل ترهونة.

الجبل الغربي ومراكز التوازن

أما في الجبل الغربي، الذي يضم الزنتان وغريان ونالوت، فإن نفوذ حكومة «الوحدة الوطنية» يبقى قائماً ولكن بنسب متفاوتة. ففي غريان يسيطر الدبيبة عبر أجهزة أمنية محلية، بينما تحتفظ الزنتان باستقلال نسبي وتميل أحياناً إلى التنسيق مع معسكر الشرق أو البرلمان تبعاً للظروف السياسية والميدانية، وهو ما حدث في لقائها حفتر. أيضاً، تتعامل أغلب مدن الجبل مع حكومة الدبيبة بوصفها «سلطة أمر واقع»، لا سيما في الملفات الخدمية والمالية، إذ يعتمد كثيرون من سكان المنطقة على الوزارات والمؤسسات التابعة لطرابلس في تسيير شؤونهم اليومية.

وفي المحصلة، فإن المشهد الليبي الراهن يبدو محكوماً بتوازنات تتأرجح بين النزوع لتوسيع النفوذ العسكري من الشرق في الأنحاء كافة، ومحاولات إعادة التموضع غرباً، وسط غياب أفق سياسي جامع يضمن استدامة الاستقرار.

هذا كله، لا ينفصل عن الإشارات المتكرّرة التي أطلقها حفتر، في أكثر من فعالية اجتماعية بالحديث عن ضرورة أن يكون هناك «حراك شعبي سلمي» لإنهاء الوضع السياسي الذي نعته بـ«المزري». وهنا يتساءل السفير الليبي إبراهيم موسى قرادة، كبير المستشارين السابق في الأمم المتحدة: «هل نحن الآن أمام تحشيدٍ جماهيري جديد، أو إعادة تموضع سياسي مدروسة في مشهد متصلب؟».

في إطار لقاءات عديدة عقدها حفتر مع وفود من أعيان وشيوخ القبائل والمدن من شرق وجنوب ليبيا، وأخيراً من غربها (ترهونة والزنتان)، قال قرادة: «قد يكون هذا مؤشراً على مجموعة من الاحتمالات، من بينها حراك سياسي آت، أو محاولة لخلخلة المشهد الراهن، أو تمهيد لدور تفاوضي فعلي في رسم ملامح المرحلة المقبلة». وانتهى قرادة إلى أن المواطنين الليبيين «أنهكهم تكرار العجز ودوامة الانتظار واجترار الشلل السياسي».وفي هذه الأثناء... تظلّ ليبيا أمام ذلك الوضع عالقة في منطقة رمادية تحكمها «البراغماتية»، إذ تحظى كل من الجبهتين بتعامل دولي منفصل عن الأخرى، تحدّده المصالح والأجندات الخاصة.