صخب «الطُبول» يُبهج القاهرة في أيام الجائحة

جاء انطلاق «المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية» هذا العام مصحوباً بكثير من الشوق، بعد تأجيله العام الماضي بسبب إجراءات الحكومة المصرية لمواجهة فيروس كورونا آنذاك، فمنذ افتتاحه على مسرح «بئر يوسف» بقلعة صلاح الدين الأيوبي الأثرية بالقاهرة، ويتوافد الجمهور على فقراته باعتباره أحد أسباب البهجة التي طالما اقترنت بهذا المهرجان الفلكلوري الصاخب منذ تنظيمه قبل ثماني سنوات.
تنظم المهرجان مؤسسة «حوار لفنون ثقافات العالم» تحت رعاية وزارة الثقافة المصرية، ويعتبر الفنان انتصار عبد الفتاح، مؤسس ورئيس المهرجان الدولي للطبول، أن دورة هذا العام «استثنائية» على حد تعبيره، ويقول في كلمته لـ«الشرق الأوسط»: «تأكدنا منذ اليوم الأول لافتتاح المهرجان أن الجمهور كان في انتظار الفرح الذي يحمله لهم مهرجان الطبول، رغم الإجراءات الاحترازية، فالجمهور منذ بداية انطلاق المهرجان في دورته الأولى وهو جزء من العملية الإبداعية له، خاصة أن تصميماتي وعملي فيه قائم في جزء كبير منه على الارتجال، والجمهور هو من يمنحنا الطاقة الإيجابية للقدرة على مواصلة طقوسه الخاصة».
وتعد الصيغة التفاعلية للجمهور مع فقرات العزف والطبول، واحدة من سمات مهرجان الطبول، حيث تُقام عروضه في الشوارع والمسارح المفتوحة والحدائق، لضمان حرية تفاعل الحضور مع إيقاعات العارضين، ويعتبر الدكتور انتصار عبد الفتاح أن هذه الدورة حملت الكثير من التحديات بسبب ضغوط «كورونا» يقول: «كان الاستعداد لتلك الدورة مُكثفاً بسبب ضغط الوقت، حيث بدأنا الإعداد للمهرجان بعد قرار الحكومة الأخير بالسماح بانعقاد المهرجانات الفنية، وبسبب ظروف السفر التي تُقيدها كورونا، لم نستطع استقبال فرق الطبول المحترفين من دول العالم الذين كانوا يواظبون على المشاركة بالمهرجان على مدار سنين انعقاده، وخاطبت وزارة الثقافة السفارات الأجنبية في مصر لدعوتهم لمشاركة الجاليات المقيمة في مصر في المهرجان، ورغم أنّ معظمهم غير محترفين فإن البروفات المُكثفة خلال الفترة السابقة والحماس الكبير من جانبهم، استطعنا إقامة هذه الدورة».
يشير الدكتور عبد الفتاح للعديد من الفرق المشاركة هذا العام بكثير من الفخر من بينهم من أطلق عليهم «فرقة القدرات الخارقة»، التي تتكون من مشاركين من ذوي الاحتياجات الخاصة في فقرات ضمن حفلات المهرجان الدولي للطبول.
يقول مؤسس المهرجان: «علمونا المحبة والتفاؤل. بمشاركتهم في الحفلات، فالمهرجان هو دعوة للرقص والبهجة والتفاعل والاندماج مع فقرات الطبول الشعبية، وفرقة (حسب الله) التراثية، والطبول النوبية، والكولومبية، والفلسطينية، والبنغلاديشية، وغيرها الكثير، في تداخل ثقافي غني يطرح معنى التعدد والتسامح التي تمنحها الثقافة والفنون».
يواصل المهرجان أعماله حتى 18 يونيو (حزيران) الحالي، في ستة مواقع بشكل متزامن، لعل أبرزها قلعة صلاح الدين، وقبة الغوري، وبيت السناري في منطقة السيدة زينب، وقصر الأمير طاز، وهي أماكن ترتبط بتراث القاهرة القديمة، في اختيارات يرى الباحث الأثري المصري سامح الزهار فرادتها، وارتباطها الوثيق بثيمة المهرجان، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية أحد أهم المهرجانات الفنية التي تقام في القاهرة العتيقة، لما له من ارتباط كبير بماهية التراث المصري»، ويضيف: «أُثمن فكرة قيام المهرجان في عدة مناطق من بينها قصبة القاهرة المعروفة بشارع المعز (الشارع الأعظم)، وبيت السناري ذو التاريخ الأسطوري وقلعة الجبل وقبة قانصوه الغوري، فكل هذه الأماكن تمثل حقبات تاريخية مختلفة تستعرض قيمة الجغرافيا وحقيقة التاريخ».
ويعتبر الزهار أنّ المهرجان يُبرز الصورة الأدق لهوية مصر عبر استعراض ثالوث التاريخ المقدس، على حد تعبيره، بين الزمان والإنسان والمكان، «فالزمان يمثله التاريخ بما يحويه من حكايات وأساطير خرجت من رحم الحقائق، والإنسان هو الفاعل المُتغير وارتباط الناس بهذا الاحتفال يأتي من أهالي وقاطني القاهرة القديمة، أما المكان فهو الثابت الوحيد هنا وهو مسرح الأحداث وتتجلى فيه عمارة المدينة القديمة».
وتشارك فرق من ثلاثين دولة في المهرجان من الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر، منها فلسطين وسوريا الفلبين وإندونيسيا والسودان وبنغلاديش وباكستان واليمن والكونغو الديمقراطية، فيما اختيرت دولتا كولومبيا وجنوب السودان لتكونا ضيفتي شرف المهرجان.
ويرى الباحث الأثري سامح الزهار أنّ «السياحة الفنية الموسيقية هي أحد أهم أشكال السياحة غير التقليدية، وهي منتشرة في العالم خاصة في الهند والصين وأجزاء من أوروبا، وتقدم طبائع الشعوب من خلال لغتهم الموسيقية، بالإضافة إلى استعراض الثقافات المختلفة عبر المشاركات الدولية، وفي الظروف الحالية التي تجتاح العالم من أوبئة - كورونا وغيره - كان لزاماً إقامة مثل هذه المهرجانات لما لها من وقع نفسي بديع فالموسيقى - خاصة التراثية منها - لها أثر بالغ على الحالة النفسية للأفراد والجماعات». ويضيف في لمحة تاريخية، أنّ «في القاهرة القديمة قبل قرون عدة، عالج السلطان المنصور قلاوون في (بيمارستانه) القلاووني الحالات النفسية والعصبية باستخدام الموسيقى عبر فرق تعزف بالآلات الوترية تحديدا الكمانجات، وهذا وفق ما أورده لنا شيخ مشايخ مؤرخي العصور الوسطى تقي الدين المقريزي رحمه الله».