رحيل الشاعر العراقي سعدي يوسف

رحيل الشاعر العراقي سعدي يوسف
TT

رحيل الشاعر العراقي سعدي يوسف

رحيل الشاعر العراقي سعدي يوسف

رحل الشاعر العراقي سعدي يوسف في أحد مستشفيات العاصمة البريطانية صباح السبت بعد مرض عضال عن 87 عاماً.
ويعتبر سعدي يوسف أحد أبرز الشعراء العراقيين المعاصرين بعد جيل الرواد الأوائل، بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. إلا أنه اختلط طريقه الخاص بكتابته عن الحياة اليومية، أو ما بات يعرف بـ«قصيدة التفاصيل الصغيرة» التي ارتبطت باسمه، وأثرت تأثيرها على عدة أجيال من الشعراء الذين أعقبوه.
ولد سعدي يوسف في مدينة أبي الخصيب بالبصرة، عام 1934. أكمل دراسته الثانوية في البصرة، وتخرّج في دار المعلمين العالية في بغداد 1954. وسجن لفترة في العهد الملكي بتهمة انتمائه للحزب الشيوعي العراقي.
وبعد خروجه من السجن، عمل في التدريس ثم الصحافة الثقافية، وغادر العراق في الستينيات لأسباب سياسية ليعمل مدرساً في الجزائر في أعقاب الانقلاب الذي قاده حزب البعث في الثامن في فبراير (شباط) 1963. ومن الجزائر، انطلق عربياً، حيث كان مواظباً على النشر في مجلة «الآداب» اللبنانية. وهناك كتب واحداً من أفضل دواوينه، وهو «الأخضر بن يوسف ومشاغله»، الذي اشتهرت بتسميته.
عاد للعراق بداية السبعينيات بعد تأسيس الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث. وبعد انهيار الجبهة، غادر العراق مرة أخرى عام 1979 مثله مثل عشرات المثقفين العراقيين المعارضين لحزب البعث...
في غربته الثانية، تنقّل سعدي بين مدن كثيرة مثل بلغراد، ونيقوسيا، وباريس، وبيروت، وعدن، ودمشق ليستقر أخيراً في لندن، حيث حصل على الجنسية البريطانية.
عرف سعدي يوسف بإنتاجه الغزير، ابتداء من ديوانه الأول «القرصان»، الذي نشره عام 1952. وقد نشر قبل فترة المجلد السابع من أعماله الشعرية. وهو يبرر غزارته الشعرية، حيث يكتب قصيدتين أو ثلاثاً في اليوم الواحد، بقوله: «ليس لدي ادعاءات، إنني مستعد أن أتخلص من 90 في المائة مما أكتب، أستطيع أن أحذف كل ما كتبت وأكتفي فقط بعشر قصائد أقول إنها هي كل ما كتبت، ولكن حتى أصل إلى هذه القصائد العشر لا بد أن أكتب ألف قصيدة. وأنا لا أضع ما أكتبه موضع القداسة، لأن على المرء ألا يعجب إعجاب التباهي بما كتب، لأن الفن يظل دائماً بعيداً، ومهما بلغ الإنسان من نجاح، أو مما ظنه هو أو الآخرون نجاحاً يظل الفن بعيداً، نحن نحقق شيئاً ونقترب خطوة إلى الأمام، ولكن الفن يبتعد خطوة».
إلا أن كثيراً من النقاد والمتابعين، وحتى محبي الشاعر، يرون أن صوته قد خفت أو أصابه الوهن في الخمس عشرة سنة الأخيرة، حيث كرس يوسف الكثير من وقته لكتابة نصوص وتعليقات على أحداث سياسية وثقافية، أو «قصائد» سريعة على موقعه في «فيسبوك»، ضمنها مواقف حادة غالباً ما تتحدر إلى مستوى الشتائم التي مست مقدسات دينية، وطاولت كثيرين، مؤسسات وأشخاصاً، ومنهم أصدقاؤه ورفاقه العراقيون. وهذا ما أثار الجدل حول كتاباته هذه عربياً وعراقياً.
بالإضافة للشعر، لسعدي يوسف رواية تحت عنوان «مثلث الدائرة» ومسرحية «عندنا في الأعالي» ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان «نافذة في المنزل المغربي»، وعدد من اليوميات والنصوص السياسية والأدبية مثل «يوميات الأذى» و«يوميات ما بعد الأذى».
وعرف سعدي يوسف بترجماته الكثيرة أيضاً، وقد نشر نحو عشرة كتب ضمت تراجم لقصائد شعراء أمثال والت ويتمان ولوركا وكافافي ويانيس ريتسوس. كما ترجم كتباً لكتاب مثل النيجيري وولي سوينكا والإنجليزي جورج أورويل والياباني كينزابورو أوي، والأميركي هنري ميللر.
ومن الجوائز التي حصل عليها، جائزة سلطان بن علي العويس، التي سحبت منه لاحقاً، بسبب قصيدة أساء فيها إلى مؤسس الجائزة، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة «كافافي» من الجمعية الهلينية، وفي عام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلف أجنبي، وفي عام 2008 حصل على جائزة المتروبولسن مونتريال الكندية.



مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي
TT

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

مجتمع الشعراء في مهرجان الشارقة للشعر العربي

لا نكاد نجد على طول الخريطة العربية اليوم مهرجاناً للشعر العربي الفصيح يجمع هذا العدد الهائل سنوياً من الشعراء إلا في الشارقة. إنه مهرجان يتجاوز بالتأكيد صفة الحدث الثقافي التقليدي الذي يستضيف شعراء بارزين من العالم العربي ويقيم لهم أمسيات أنيقة مؤثثةً بجمهور تفاعلي يضمن التواصل الضروري بين المبدع والمتلقي. وهكذا، نجد في هذا المهرجان سمات عديدة تميزه عن طابع الموسمية الذي يهيمن عادةً على الفعل الثقافي في كثير من فعالياتنا العربية، ونخص بالذكر تلك التي تُعنى بالثقافة والفن، لا سيما الشعر. جملة ما يمكن أن يخلص إليه من تابع أو حضر فعاليات هذا المهرجان هو أنه سعى ونجح إلى حد كبير في صنع مجتمع شعري متكامل الأركان يتعايش فيه المبدعون - وإن بصفة مؤقتة - لفترات غير قصيرة يتصل فيها النهار بالليل، فمن ندوات صباحية إلى أمسيات باذخة للشعر إلى سمر ليلي موسيقي في نُزل الشعراء يستمر حتى ساعات متأخرة من الليل على أنغام الطرب العربي الأصيل من أقطار ومدارس غنائية شتى. ثم يتواصل اللقاء بعدها في بهو الفندق في جلسات متفرقة هنا وهناك حتى ليُخيل للمتابع أن المكان تحول إلى حي سكني يقطنه شعب من الشعراء لا يتحدثون سوى في الشعر وعنه. وبالتوازي مع ذلك، يتناوب الشعراء الضيوف طيلة أيام المهرجان على مكاتب القنوات الفضائية والصحف والإذاعات لتسجيل عدد من اللقاءات الإعلامية التي تصب كلها في أنهار الجدل الشعري والحوار الإبداعي الذي يناقش القصيدة، والقصيدة فقط.

لا أعرف مهرجانات عربية كثيرة للشعر يرفع منظموها في مدنهم لافتات إعلانية كبيرة تروج للحدث الشعري وتعلق صوره في الشوارع والممرات. هناك في الشارقة نجد في كل الشوارع المحاذية لقصر الثقافة الذي يتوسط بفخامته المدينة صوراً للمهرجان تروج لأماسيه الرئيسية. وعند كل مساء نرقب توافد عائلات بأكملها على القصر باحثين عن موائد الشعر ومنصتين لما يقوله الشعراء، مصطحبين مسنّيهم وأطفالهم في مشهد عائلي يحتضن الثقافة كما لم نعتد أن نراه اليوم وسط عالم تسوده آلة النيو ليبرالية الاقتصادية التي همّشت الفنون الجميلة لمصلحة قيم الاستهلاك. وبالانسجام مع النشاط المسائي في قصر الثقافة، وفي الشارقة نفسها خلال أيام المهرجان الشعري، ما إن تمر على ساحل «شاطئ المجاز» الساحر، والذي يعبر اسمه عن توجه المدينة الثقافي، حتى ترى بالعين المجردة شعراء يمشون على الأقدام محتفين بنسائم الشتاء العليل في الشارقة، ومنهمكين في خوض حواراتهم الثقافية حول هذا الكائن الفني الهلامي الذي لا يمنحك بعضه حتى تمنحه كلك وأكثر.

إن مجتمعاً عربياً من الشعراء يمكن القول إنه قد تحقق بالفعل على أرض الشارقة، ولو لأسبوع واحد. جغرافياً حضوره كانت الشارقة وبالضبط بين النُّزل الفندقي والمسرح والمقاهي، حيث يتجمع الشعراء من مختلف الأقطار العربية، ويتحدثون ويتسامرون وقد يتشاجرون أيضاً حول هذا الموقف الشعري أو ذاك. يتحدثون بصوت مرتفع ويصرخ بعضهم، وبعضهم الآخر يكتفي بالصمت متابعاً ما يقوله الأكثر سناً وتجربة. إنهم يسائلون الحداثة الشعرية عن منجزها، فهناك منهم من ينتصر لضرورة الموقف الحداثي أيّاً كان شكل النص، وهناك من لا يزال راديكالياً في موقفه من حيث ضرورة التركيز على قدسية الشكل الذي يُعبر من وجه نظره عن صلابة عمود الشعر وأصالة بنيته. أحاديث تطول وتتوسع إلى تقييم حالة المشهد الثقافي العربي من حيث مساحة حضور الشعر ومصداقية الجوائز والتواصل المفقود أو الموجود على مضض بين الأجيال الشعرية في عالم عربي أثمن ما يغيب عنه هو التواصل. ولعل هذا التواصل يعد من سمات مهرجان الشارقة أيضاً وفضائله، فإذا كان اليوم الأول الافتتاحي للمهرجان يعمد دائماً إلى تكريم تجربة شعرية فردية أو أكثر تنتمي غالباً إلى جيل رائد، فإن الافتتاح أيضاً يتضمن التنويه بعدد من المواهب الشابة التي توَّجَتها قصائدها المنشورة في «مجلة القوافي». هذه الأخيرة تقدم نفسها مجلةً خالصةً للشعر العربي الفصيح، فهي لا تنشر غيره ولا تكتب عن شيء آخر سواه، تتواتر أعدادها شهرياً حتى تتوج ختامها السنوي باختيار بضعة قصائد منشورة على طول السنة كي يُحتفى بها في المهرجان الرئيسي في مستهل السنة الموالية. تتطور حالة التواصل داخل مجتمع الشعراء حتى تصبح أمتن من الصلة العائلية، فتجدهم يتفقدون بعضهم في البهو والغرف مع كل موعد انطلاق للمسرح، يتفقدون بعضهم في مقاعد الباصات ثم يبدأون بالغناء طول مسافة السير، ويشربون قهوة الوصول أمام المسرح منتظرين بدء الأمسية. هكذا إذن تتواصل الحساسيات والحركات والأجيال الشعرية المختلفة بيُسر وسلاسة دون قطائع نظرية أو أخرى نفسية واجتماعية، وهكذا يتوحد الشعر بقرائه ومبدعيه.

إن ما يميز هذا المهرجان ليس صنعه مجتمعاً شعرياً مفترضاً فقط، بل هو أنه بات يحفز كل الشعراء الذين باعدتهم المسافات الجغرافية وفرقتهم سبل العيش على تقديم أنفسهم مع أوراق اعتمادهم الشعري لهذ المهرجان من بوابة القصيدة، والقصيدة فقط، دون وسطاء ودون محسوبيات. ذلك أن من حق أي شاعر أن يحضر مشاركاً في هذا المهرجان، ما دام قادراً على تقديم قصيدته للنشر، وهي وحدها من ستؤهله للمشاركة ضيفاً مُقدّراً، ومن ثم الانضمام إلى أسرة الشعر التي تتعاظم بأفرادها وبأجوائها لتكون مجتمعاً فسيحاً يمد أطرافه من الخليج إلى المحيط.

مجتمع الشعراء الذي تحدثنا عنه ملياً في هذه المقالة يشكل جزءاً من مشروع بدأ بالفعل منذ سنوات ويتعلق بمبادرة «بيوت الشعر» التي أصبحت تتنامى أعدادها في أكثر من قُطر عربي غير الشارقة. حدث ذلك لأول مرة منذ حوالي عشر سنوات حين أطلق حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي مبادرة تهدف إلى إحداث ألف بيت للشعر في العالم العربي يكون نشيطاً طول السنة ويرعى المواهب الشعرية على غرار تجربة «بيت الشعر» في الشارقة. تطور الأمر وتم افتتاح عدد كبير من بيوت الشعر في الأردن ومصر والسودان والمغرب وموريتانيا وتونس. هذا المشروع أسس حالة جديدة في المشهد الثقافي يمكن أن نسميها «اللجوء الشعري» للشعراء داخل بلدانهم إلى مؤسسة «بيت الشعر» التي تعزل نفسها عن ضجيج الحياة الاعتيادية، وتقيم وطناً شعرياً موازياً يحتفي فيه الشعراء بقصائدهم، ويعانقون بعضهم بعد الإنصات والإنشاد والكتابة. إنه وطن الشعراء الذي يتشكل ومجتمع يضم كل أفراد عائلاته الشعرية التي تكبر كل يوم. وفي الحقيقة، لقد أسهم نشاط هذه البيوت داخل كل بلد في خلق حالة الانتماء لوطن القصيدة التي لا يعترف بالحدود الفاصلة ولا ينغلق فيه الفرد الشاعر على انتمائه القطري أو الثقافي أو حتى العرقي والطائفي. كيف يمكن لأي منا أن يتجاوز فرحته بجمالية هذا الإنجاز الذي جعل الشعر مفتاحاً للوحدة العربية في أبهى تجلياتها الفنية والإنسانية!

إن زبدة ما نود قوله عن مهرجان الشارقة للشعر العربي، هو أننا اليوم وفي بلدان عربية كثيرة باتت محجاً للمبدعين بحاجة لدعم فكرة المجتمع الشعري والإبداعي، وليس فقط لفعاليات ثقافية تنشط وتخمد بصفة روتينية بين موسم وآخر. وإذا كانت بشائر هذا التصور الجديد للقاء الشعري قد أصبحت تنضج بوضوح في مراكز ثقافية عربية كبرى كالسعودية والإمارات، فإن الحاجة اليوم باتت ملحة لتعميم وتكريس النموذج على امتداد الخريطة العربية كلها. فمجتمع الشعراء كما هو معلوم يخدم مسيرة السلام وينحاز بالضرورة لقيم الحضارة في مفهومها الكوني، إنه مجتمع مسالم ينتصر للجمال ويناهض الكراهية والتطرف والانغلاق. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتجسد حضوره عربياً، كما تجسد بالفعل في مهرجان الشارقة.

* شاعر من المغرب