مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو

شهدت 4 رؤساء و3 انقلابات عسكرية خلال أقل من 10 سنوات

مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو
TT

مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو

مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالأمس، أن عملية «برخان» العسكرية التي يخوضها جيش بلاده في منطقة الساحل الأفريقي، بما فيها جمهورية مالي، ستنتهي في غضون أسابيع، لتتحول وفق «تغيير عميق» إلى تحالف دولي لمكافحة المتطرفين في المنطقة. وأوضح ماكرون خلال مؤتمر صحافي: «في نهاية المشاورات (...) سنبدأ تغييرا عميقا لوجودنا العسكري في منطقة الساحل»، مؤكدا نهاية «برخان» وإبدال ما سماه تحالفا دوليا يضم دول المنطقة بها.
لقد بدأ التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل في يناير (كانون الثاني) 2013، بعملية «سيرفال» لطرد تنظيم «القاعدة» من شمال مالي، لتتحول في أغسطس (آب) 2014 إلى عملية «برخان» التي يبلغ قوامها 5100 جندي فرنسي وتنشط في دول الساحل الخمس، موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو. ومما ذكره ماكرون إنه في غضون أسابيع ستعلن عن آليات وأجندة لإنهاء هذه العملية العسكرية، وتحويلها إلى قوة دعم للجيوش المحلية الراغبة في ذلك. وكان قد سبق للرئيس الفرنسي أن أعلن خلال العام الماضي رغبته في تقليص عدد القوات الفرنسية الموجودة في الساحل الأفريقي لمحاربة الجماعات الإسلامية المسلحة. كذلك هدد ماكرون بالانسحاب من مالي بعد الانقلاب الذي وقع فيها نهاية مايو (آيار) الماضي. وفي أي حال، يأتي هذا القرار في ظل تصاعد تيار مناهض للوجود العسكري في مالي وبعض دول غرب أفريقيا، ومطالب متصاعدة في مالي، بالذات، بضرورة التعاون العسكري مع روسيا.
عندما انقلب ضباط من الجيش في مالي على الرئيس الانتقالي، نهاية مايو (أيار) الماضي، خرجت مظاهرة مؤيدة لتحركهم، كان في مقدمتها شاب يرفع لافتة تطالب برحيل فرنسا التي تنشر 5100 جندي في البلد لمحاربة الإرهاب، ولكن الشاب المتحمس يقترح إبدال روسيا بفرنسا، لأنه مقتنع بأن مالي عاجزة عن الوقوف وحدها، وعليها أن تختار الوصي عليها من بين القوى العظمى.
مالي، التي تحمل اسم واحدة من أعرق الإمبراطوريات التاريخية في غرب أفريقيا، استقلت عن فرنسا عام 1960. ولكن منذ ذلك الوقت عجز الماليون عن إقامة مشروع «الدولة الوطنية»، بسبب الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، والفشل في تحقيق الوحدة الوطنية بين الجنوب الذي تقطنه قبائل الماندينغ الأفريقية، والشمال الذي يقطنه الطوارق والعرب. ومنذ 2012 دخلت مالي في منعرج خطير، حين سيطر تنظيم «القاعدة» على ثلثي مساحة البلاد في الشمال، وبدأ يزحف نحو العاصمة باماكو في الجنوب. حينها قاد ضباط من أصحاب الرتب المتوسطة انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس الراحل أمادو توماني توري، لتدخل البلاد في مرحلة انتقالية قادها الرئيس ديونكوندا تراوري، الذي استغاث في شهر يناير (كانون الثاني) 2013 بالرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، طالباً منه التدخل عسكرياً لمنع سقوط العاصمة باماكو في أيدي الإرهابيين، فأطلق هولاند عملية «سيرفال» العسكرية، التي ما تزال مستمرة حتى اليوم تحت اسم «برخان».
طيلة هذه السنوات كان الفرنسيون يتحدثون عن تكاليف بشرية ومادية باهظة للحرب على الإرهاب في مالي، ويعلنون بين الفينة والأخرى نيتهم الانسحاب، بيد أنهم في النهاية رفعوا عدد جنودهم من 3500 جندي عام 2013. ليصل عام 2020 إلى أكثر من 5100 جندي، ونجح الفرنسيون في تصفية عشرات القادة البارزين في «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، من أبرزهم أمير التنظيم عبد المالك دروكدال.
وخلال شهر سبتمبر (أيلول) 2013 نصّب الماليون إبراهيم بابكر كيتا رئيساً جديداً للبلاد، وكانت مهمته الأولى هي حل المعضلة الأمنية. غير أنه لم ينجح في ذلك رغم أن الماليين أعادوا انتخابه عام 2018، وبعد مرور سنتين من ولايته الثانية و7 سنوات من حكمه، نفد صبر الماليين حين أدركوا أنه بدّل الحرب على «القاعدة» في جبال وعرة بأقصى الشمال، بالمواجهة في وسط البلاد وفي الجنوب. ودخل «تنظيم داعش» المنطقة بقوة، وتكرّس الشرخ الاجتماعي والعرقي في البلاد، وانهار الاقتصاد، فخرجت مظاهرات وبدأ عصيان مدني.
لقد اقترنت معارضة الرئيس كيتا بالموقف المعادي لفرنسا، لأن كيتا في نظر أغلب الماليين هو الرئيس الذي جلبه الفرنسيون، كما أن فشله في تحقيق الأمن هو فشل للجيش الفرنسي. وبالتالي، فإن الانقلاب الذي أطاح بكيتا في أغسطس (آب) الماضي، رافقته مطالب صريحة بطرد القوات الفرنسية. إلا أن فرنسا عارضت انقلاب أغسطس، ودعت الضباط الذين قادوه إلى تسليم الحكم للمدنيين والعودة إلى الوضع الدستوري. وعندها قرر الجيش تعيين رئيس مدني انتقالي، هو باه أنداو، على أن يكون زعيم الانقلاب الكولونيل أسيمي (هاشمي) غويتا، نائباً للرئيس الانتقالي، وحُددت مهلة 18 شهراً لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في البلاد.
ولكن عند منتصف المسافة، بعد مرور 9 أشهر من هذه المهلة، وقعت الانتكاسة. إذ قرر الوزير الأول، بموافقة من الرئيس الانتقالي، يوم الاثنين 24 مايو (أيار) الماضي مباشرة بعد عودة الرئيس من زيارة إلى باريس، إعفاء وزيري الدفاع والأمن الوطني من منصبيهما، وهما ضابطان من أبرز قادة انقلاب أغسطس الماضي. على الإثر، وقع انقلاب جديد، وصفه وزير الخارجية الفرنسي بأنه «انقلاب داخل انقلاب»، أما الرئيس إيمانويل ماكرون فقد هدّد بسحب قواته من مالي، وأعلن رسمياً تعليق التعاون العسكري «مؤقتاً» مع الجيش المالي. واليوم، يتحدث الماليون عن محاولة باريس قلب الطاولة على ضباط محسوبين على موسكو، حين أوعزت إلى الرئيس الانتقالي بإقالتهم من الحكومة، وإبعادهم عن مركز اتخاذ القرار، لكن الضباط كانوا أسرع منه... فأقالوا الرئيس وتحكّموا في مقاليد الحكم.

حلبة الصراع
لم يعد الصراع بين باريس وموسكو في أفريقيا جنوب الصحراء صراعاً خفياً، خاصة بعدما أصبحت روسيا اللاعب الأقوى في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي علقت باريس المساعدات التي كانت تقدم لها وأوقفت التعاون العسكري معها، في أعقاب اتهام حكومتها بـ«التواطؤ» في حملة معلومات مضللة ضد باريس تدعمها روسيا. ويعتقد الصحافي الموريتاني موسى ولد حامد، المدير الناشر لصحيفة «بلادي» الناطقة باللغة الفرنسية، أن «روسيا تحاول منذ سنوات دخول أفريقيا جنوب الصحراء، وقد اقتربت بالفعل من أن تنتزع جمهورية أفريقيا الوسطى من النفوذ التقليدي الفرنسي. وعلى الرغم من وجود قاعدة عسكرية فرنسية في هذا البلد، فإن مَن يباشر الحياة السياسية والأمنية هم الروس وأعوانهم، وهناك أكثر من 3 آلاف مقاتل من مجموعة فاغنر (الأمنية) الروسية».
ويرى الصحافي الموريتاني، المتابع لتطور الأحداث في أفريقيا منذ أكثر من عقدين، أن «لدى روسيا خطة محكمة لزيادة نفوذها في أفريقيا، وخاصة مناطق النفوذ الفرنسي». ويؤكد أن التحرك الروسي أخذ أبعاداً دبلوماسية وعسكرية وأمنية، حتى إعلامية، وهو يقوم على استغلال أخطاء الفرنسيين وتحريك مشاعر عدوانية تجاه فرنسا، عبر إحياء ذكريات حقبة الاستعمار.
في المقابل، من المؤكد أن الفرنسيين لن يخسروا معركة النفوذ في هذه المنطقة بسهولة، وهذا ما يؤكده الباحث السياسي المالي الدكتور فاكابي سيسوكو، الذي يعتبر أن الماليين الذين يطالبون بطرد القوات الفرنسية «يتجاهلون أن فرنسا ترسل أبناءها للموت في مالي منذ نحو 10 سنوات، إنها لا تفعل ذلك من أجل عيون الماليين، وإنما لحماية مصالحها».
أما الناشطة السياسية الشابة آدام ديكو، التي تقود جمعية شبابية لترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية في مالي، فتعتقد أن «فرنسا لن تتنازل عن مالي، لأنها بوابة تسعى الدول العظمى دخول المنطقة عبرها، وفرنسا تريد التحكم في هذه البوابة».
لكن ولد حامد يرى أن إدارة الرئيس ماكرون في «وضعية حرجة ومأزق حقيقي»، ويفسر ذلك بأن «فرنسا مقبلة على انتخابات رئاسية في غضون عام، وهو ما يحد من الخيارات أمام ماكرون، فلا يمكنه التصرف كما يحلو له»، ومن جهة أخرى «تعرضت السياسات الفرنسية في الساحل لضربة قوية بعد مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي، وما أعقبه من انقلاب عسكري وأوضاع غير مستقرة، في بلد كانت تراهن عليه فرنسا في حربها على الإرهاب».
وتابع الصحافي الموريتاني أن «خروج تشاد من المشهد وضع الفرنسيين في ورطة، لأن مالي وبوركينا فاسو والنيجر ليست دولاً قادرة على أن تكون حليفة في الحرب على الإرهاب. وأكبر مشكلة واجهت الفرنسيين منذ تدخلهم العسكري هي أن مالي نفسها غير موجودة، ولم تنجح في أن تكون شريكاً في هذه الحرب، فهي لا تملك جيشاً ولا سلطة سياسية ثابتة تتمتع بالشرعية. أما موريتانيا فهي البقعة الهادئة الوحيدة في المنطقة، لكن بؤر التوتر تحيط بها من كل جانب».
وهكذا أصبح المستقبل غامضاً أمام مشروع مجموعة دول الساحل الخمس، الذي أسس برعاية فرنسية عام 2014. وهو ما يعقد الأمور أكثر بالنسبة لفرنسا. بل إن الأوضاع ساءت أكثر حين برز التيار المعادي لفرنسا، وتغلغل في الشارع المالي. وهو ما يفسره الصحافي الموريتاني بأنه «موقف نابع من اعتقاد الماليين بأن فرنسا موالية لحركات الطوارق في الشمال، التي تطالب بالانفصال».

حضن «الدب الروسي»
الشاب قاسم كوليبالي يقود حالياً مبادرة سياسية شبابية لدعم الانقلاب الأخير في مالي، وهو ينشط من أجل تدخل عسكري روسي في مالي، مبرراً ذلك بأن «روسيا ستكون شريكاً أفضل لنا. علاقاتنا معها قديمة جداً، ولكن يجب إعادة إحيائها، ووضعها في نفس مستوى التعاون الذي يربطنا مع الشركاء الآخرين، وخاصة فرنسا». ويضيف كوليبالي أنه نظّم رفقة مجموعة من الشباب «المتطوّعين» حملات إعلامية وجولات ميدانية من أجل «شرح الوضع الجيو استراتيجي الصعب الذي توجد فيه مالي، كما وجّهنا رسائل إلى السفارة الروسية في باماكو، وأجرينا اتصالات مع العاملين فيها، لإقناع موسكو بضرورة التحرك جدياً لمساعدة مالي».
وخلال النقاشات التي يجريها كوليبالي مع الماليين في الشوارع، ومع وسائل الإعلام المحلية، فإنه يستحضر موقف الزعيم الاستقلالي الراحل موديبو كيتا، أول رئيس لدولة مالي بعد استقلالها عن فرنسا عام 1960. وكان موديبو كيتا اشتراكياً حتى النخاع، وربطته علاقات قوية مع الاتحاد السوفياتي، وحصل من موسكو على تمويلات كبيرة خلال حقبة الستينات، على حد تعبير قاسم كوليبالي. وفي الوقت ذاته يهاجم كوليبالي الفرنسيين، فيقول: «من الواضح أننا لم نحقق أي نتائج إيجابية من التعاون مع فرنسا والاتحاد الأوروبي. وبعد مرور 10 سنوات تقريباً على الوجود العسكري الفرنسي في الأراضي المالية، الوضع يزداد سوءاً، ولا يمكننا أن نستمر في هذا التوجه»، بل إنه يتفاءل أكثر حين يقول إن «الشراكة مع روسيا من شأنها أن تسرّع في القضاء على الإرهاب».
في المقابل، الناشط السياسي بصيرو بن دومبيا، لديه وجهة نظر مختلفة، إذ يقول: «لا أعتقد أن مغادرة فرنسا ستنهي الإرهاب، حتى مجيء روسيا لن ينهيه. الأزمة أعمق من ذلك، ولكن يجب أن ندرك أنه في مجال التعاون العسكري لا شيء مجاني. وروسيا التي ترتفع المطالب بدخولها إلى مالي، هي التي تدخّلت في سوريا لمنع سقوط نظام بشار الأسد، وهي تدخلت عبر شركات أمنية خاصة، ولم تطلق رصاصة ولا صاروخاً إلا وهناك فاتورة ستدفع مقابله، إنهم تجّار ولا يعطون بالمجّان».
في هذا السياق، يوضح الصحافي الموريتاني موسى ولد حامد أن «روسيا مختلفة عن بقية القوى العظمى الحاضرة في أفريقيا، فهي لا تبحث عن الثروات أو الخيرات أو المواد الأولية، بل تبحث عن سوق لبيع الأسلحة، ومالي تمثل واحدة من أكبر هذه الأسواق في أفريقيا». وهذا ما يعني أن توطين الإرهاب في مالي ومنطقة الساحل، يخدم روسيا أكثر من القضاء عليه. ثم يتابع، أن روسيا والصين «قدمتا أكبر خدمة لقادة انقلاب باماكو، حين اجتمع مجلس الأمن الدولي للحديث عن انقلاب مالي، ولم يتمكن من اتخاذ أي قرار ضد الانقلابيين، بسبب روسيا والصين. وهذا ما أثار الشكوك حول العلاقة بين الانقلابيين وموسكو، خاصة أن هناك من يشير إلى ضباط شباب، من قادة الانقلاب الأخير، تربطهم علاقات وطيدة بروسيا... وسعى عدد منهم لإبرام صفقات سلاح مع موسكو، كانت مثار جدل واسع في الإعلام الفرنسي والمالي».
ورغم الدعوات المتزايدة بضرورة انسحاب فرنسا ودخول روسيا إلى مالي، يرفض المحامي المالي عمر كوناري ذلك السيناريو، فيعلّق: «أنا لست مع الانسحاب المفاجئ للقوات الفرنسية، كما أنني لست مع مجيء مفاجئ وفوضوي للقوات الروسية. موقفي هو أن يكون هناك تفكير معمق للتوصل إلى مخرج يوافق عليه الجميع، مع رفض الخضوع لضغط الشارع». ويقدم المحامي وجهة نظر بدأت تتردد كثيراً في الشارع المالي، وهي إمكانية التعايش بين باريس وموسكو في مالي، ضمن إطار تحالف دولي لمحاربة الإرهاب. ويوضح المحامي أن «الأراضي المالية شاسعة، وفي حين يوجد الفرنسيون والأوروبيون في الشمال والشرق، يمكن لروسيا أن تتدخل عسكرياً في الجنوب أو الغرب... وهذا مهم لمحاربة الإرهاب».
ختاماً، وباختصار، ما يخشاه الماليون هو العودة دوماً إلى المربع الأول. فخلال أقل من 10 سنوات مرّ على البلد 4 رؤساء، و3 انقلابات عسكرية، واقتراعان رئاسيان. وفي كل مرة، عادت الأمور أسوأ مما كانت عليه، وثمة أصوات قليلة تدعو إلى البحث عن «خلل بنيوي» يجب تصحيحه، داعية إلى «إعادة تأسيس» الدولة وفق عقد اجتماعي جديد. هذا على الأرجح ما يراه الماليون، إلا أن القرار سينتظر حسم الصراع بين «الديك الفرنسي» و«الدب الروسي» و«التنّين الصيني» في صحراء مالي الغنية بالعواصف.

أرض مالي الملغّمة!
> مالي التي تحولت إلى ساحة لصراع القوى العظمى، ينتظرها «مستقبل غامض» حسب رأي الصحافي الموريتاني موسى ولد حامد، وبالتالي فإنها لن تكون شريكاً جاداً لأي طرف دولي، سواء كان فرنسا أو روسيا، وإنما قد تكون ساحة للصراع أو سوقاً للبيع.
ويضيف ولد حامد: «لا أعتقد أن الماليين قادرون على الخروج من هذه الأزمة في المنظور القريب، لأنها أزمة داخل كثير من الأزمات. فالبلد يعاني معضلة في التماسك الاجتماعي، وتشكلت هويات صغرى أقوى من الهوية الوطنية. وبالتالي أصبحت الأرضية في مالي ملغّمة، والسلطة المركزية فاقدة للشرعية وغير مستقرة، والطبقة السياسية هشة، والجيش غير موجود، إنها دولة يمكن وصفها بالفاشلة».
ولكن ولد حامد يعتقد أن أخطر ما تواجهه مالي في المستقبل القريب هو «غياب شخصيات سياسية محورية قادرة على أن تجمع الناس، ما عدا الإمام محمود ديكو الذي لا يثق فيه الفرنسيون، ولكنهم قد يضطرون للقبول به، مع أنه لا يملك خطة للخروج بمالي من هذه الوضعية».
أما الناشطة السياسية الشابة آدام ديكو، التي تقود جمعية شبابية لترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية في مالي، فتتمسك بالأمل وتعتقد أن الشرط الأول للخروج بمالي من هذه الوضعية هو «احترام المهلة المحددة للفترة الانتقالية، لأن ما نخشاه هو بقاء الانقلابيين في الحكم». وتضيف أن «الفترة الانتقالية ليس مطلوباً منها أن تحل جميع مشكلات مالي، لأن الإصلاح عملية تتطلب الوقت».
ومن جانبه، لا يولي الدكتور فاكابي سيسوكو أي اهتمام للمدة الزمنية للفترة الانتقالية، بل يعتقد أن تنظيم انتخابات شفافة وديمقراطية هو الأهم، ويقول في هذا السياق: «حين نشاهد عسكريين قادرين على اقتحام المجال السياسي بهذه الطريقة، وإقالة رئيس انتقالي هم من اختاروه، وفق آليات هم من وضعوها... فما هو الضامن أنهم لن يعودوا في نهاية الفترة الانتقالية لتغيير قواعد اللعبة من جديد، فيقلبوا نتائج الانتخابات الرئاسية حين يهزم مرشحهم؟ وما هو الضامن بأنهم لن يقرروا في النهاية تمديد الفترة الانتقالية بطريقة أحادية ببساطة، لأنهم يملكون السلاح؟».



تايي أتسكي سيلاسي... دبلوماسي مخضرم عضد موقف إثيوبيا دولياً في أزمة التيغراي

 تايي أتسكي سيلاسي
تايي أتسكي سيلاسي
TT

تايي أتسكي سيلاسي... دبلوماسي مخضرم عضد موقف إثيوبيا دولياً في أزمة التيغراي

 تايي أتسكي سيلاسي
تايي أتسكي سيلاسي

منصب رئيس الجمهورية في إثيوبيا شرفي، لا يتمتع شاغله بأي صلاحيات تنفيذية، وفقاً للدستور، الذي يعدّه رمزاً لوحدة الدولة وسيادتها. لكن مع ذلك، يرى مراقبون ومحلّلون أن خبرات تايي أتسكي سيلاسي، التي تمتد لما يزيد على 4 عقود في العلاقات الدولية، وتوافقه مع آبي أحمد رئيس الوزراء و«رجل إثيوبيا» القوي، من المزايا التي تؤهله للعب دور مؤثر في المشهد السياسي، لا سيما في مجالات حلِّ النزاعات الداخلية وتحقيق الوحدة الوطنية. وهذا، دون شك، تَوقُّع مبرّر لدى النظر إلى دوره في تعضيد موقف بلاده في الأمم المتحدة خلال أزمة إقليم التيغراي، ودعوته أخيراً لحوار مع مصر بشأن ملف «سد النهضة» المعقّد.

مسيرة دبلوماسية

وُلد تايي أتسكي سيلاسي يوم 13 يناير (كانون الثاني) 1956 في بلدة ديبارك، الواقعة في منطقة شمال غُندر بإقليم الأمهرة، الذي يُعَدَّ القلب السياسي والتاريخي لإثيوبيا، ويضم أبرز المجموعات العرقية النافذة في البلاد. وتلقَّى تعليمه العالي متخصصاً بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتخرَّج في جامعة أديس أبابا، ثم تابع دراسته الأكاديمية بالحصول على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة لانكستر البريطانية.

خدم تايي أتسكي سيلاسي بلاده في عدد من المحافل الدولية بصفته دبلوماسياً، وبدأ مسيرته العملية فور تخرجه بالعمل في وزارة الخارجية الإثيوبية، إذ شغل مناصب عدة من بينها مستشار إدارة أوروبا الغربية، ثم أصبح رئيساً لتلك الإدارة. وشملت أولى مهامه الدبلوماسية العمل في سفارتَي بلاده في استوكهولم وواشنطن.

كذلك، عمل تايي قنصلاً عاماً لإثيوبيا في مدينة لوس أنجليس بالولايات المتحدة، ثم مديراً لشؤون أوروبا والأميركتين. وشغل منصب سفير فوق العادة في سفارة إثيوبيا لدى مصر في الفترة ما بين عامَي 2017 و2018، وهو المنصب الذي يجعل البعض يتوقَّع منه لعب دور بارز في الفترة المقبلة، لا سيما مع ظل النزاع بين القاهرة وأديس أبابا بشأن «سد النهضة».

بعد ذلك، وفي عام 2018 مثَّل الرجل إثيوبيا في الأمم المتحدة بصفته ممثلها الدائم في نيويورك، إبّان فترة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ إثيوبيا، وحينذاك لعب دوراً محورياً في الرد على الانتقادات الدولية لأديس أبابا خلال الصراع في إقليم التيغراي.

في عام 2023، عمل رئيس الجمهورية الجديد (68 سنة) مستشاراً للسياسة الخارجية لرئيس الوزراء آبي أحمد، ما قرّبه أكثر من دوائر الحكم والسلطة. وبالفعل، خلال الأشهر الأخيرة، وتحديداً منذ فبراير (شباط) الماضي، أدار تايي ملف السياسة والعلاقات الخارجية لبلاده بصفته وزيراً للخارجيّة، وبرز اسمه عبر تصريحات إعلامية في مختلف الملفات، قبل أن ينتخبه البرلمان رئيساً لإثيوبيا خلفاً لسهلي ورق زودي التي غدت عام 2018 أول امرأة تتولى هذا المنصب.

انتخابه رئيساً

وحقاً، أعلن رئيس البرلمان الإثيوبي تاغيس شافو، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، «انتخاب تايي أتسكي سيلاسي رئيساً جديداً لجمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية، مع امتناع 5 نواب فقط عن التصويت». وأدى الرئيس المنتخب اليمين الدستورية بحضور رئيس الوزراء آبي أحمد، قبل أن تسلمه الرئيسة المنتهية ولايتها الدستور.

تايي أتسكي سيلاسي... دبلوماسي مخضرم

عضد موقف إثيوبيا دولياً في أزمة التيغراي، ودعم هذه التكهنات منشور «مُبهم» للرئيسة المنتهية ولايتها عبر حسابها على «إكس»، أشارت فيه إلى «التزامها الصمت طوال سنة كاملة». وقد نقلت الـ«بي بي سي الأمهرية» (خدمة هيئة الإذاعة البريطانية باللغة الأمهرية) عن مصادر قريبة من زودي قولها إنها «لم تكن سعيدة... بل كانت تنتظر بفارغ الصبر نهاية فترة ولايتها».

انتقادات للرئيسة السابقة

ويشار إلى أن المرأة التي ترأست إثيوبيا بعد أشهر من تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء، وجّهت خلال فترة رئاستها دعوات عدة للسلام في جميع أنحاء البلاد، بيد أنها تعرّضت لانتقادات بحجة أنها «لم تتكلّم أكثر عن العنف القائم على النوع الاجتماعي طوال الحرب التي استمرّت سنتين في التيغراي».

مقابل ذلك، في خطابه الأول بصفته رئيساً منتخباً، دعا تايي إلى بناء «سلام شامل مستدام»، والحفاظ على النظام الدستوري، و«سيادة القانون». وقال: «إن عملية الحوار الوطني في إثيوبيا تظهر التزام البلاد بضمان السلام في جميع الجوانب».

ثم عبر استغلال خبراته الدبلوماسية، أشار الرئيس الجديد إلى «بذل جهود لتعزيز علاقات بلاده مع دول الجوار لزيادة المصالح الوطنية»، متعهداً بـ«الاهتمام بالعمل ذي المنفعة المتبادلة فيما يتعلق بالسلام والأمن والقضايا الاقتصادية من خلال التعاون الإقليمي». وأيضاً، أكد أن بلاده «ستواصل تعزيز جهودها لتحقيق رغبتها في التطور والنمو معاً في المنطقة».

أوضاع القرن الأفريقي

لم يغفل تايي أتسكي سيلاسي في خطابه ذاك منطقة القرن الأفريقي، التي شهدت توتراً في الفترة الأخيرة، وتكلّم عمّا وصفها بـ«دبلوماسية إثيوبية مفتوحة ومتسقة لإحلال السلام في القرن الأفريقي... بما في ذلك حل الصراع في السودان». وذهب أبعد، متعهداً بأن «تلعب أديس أبابا دوراً مهماً في ضمان السلام والأمن في القرن الأفريقي». وأردف قائلاً: «سنعمل على زيادة نفوذ إثيوبيا وتأثيرها الإيجابي في (منظمة) بريكس، وسنعزز التعاون مع الاتحاد الأفريقي والمؤسسات الدولية».

هذه التصريحات شجَّعت المراقبين على اعتبار انتخابه «فصلاً جديداً في تاريخ البلاد»، وبالأخص، في ظل ما تواجهه إثيوبيا من انقسامات داخلية وتحدّيات اقتصادية وصراعات سياسية مع دول الجوار.

مُدافع شرس عن الحكومة

لقد دافع تايي بقوة عن موقف حكومته إبّان الصراع بين قوات الحكومة الاتحادية من جهة، ومقاتلي «الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي»، من جهة أخرى.

وأيضاً قال، أمام مجلس الأمن الدولي في منتصف عام 2021، وكان حينذاك سفيراً لبلاده لدى الأمم المتحدة، إن «طريقنا إلى الحوار والحل السياسي لن تكون مباشرة أو سهلة»، مضيفاً: «نركز في الوقت الحالي على كبح جبهة تحرير التيغراي، وعلى عمليات الإنقاذ، والوصول إلى مواطنينا الذين يعانون بشدة». وتحدّى الأمم المتحدة عندما أعلن رفض أديس أبابا أن يبحث المجلس النزاع في التيغراي، متذرّعاً بأنه «شأن داخليّ».

كذلك انتقد تايي تقارير الأمم المتحدة التي تحدَّثت عن «مجاعة تهدد الإقليم»، قائلاً: «نحن نختلف بشكل قاطع مع تقييم المنظمة الدولية بشأن المجاعة»، وإن الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية «لم تجمع هذه البيانات بطريقة شفافة وشاملة». وأضاف أن أديس أبابا «أتاحت الوصول إلى التيغراي من دون قيود، وهي ممتنة لوصول المساعدات الإنسانية الدولية، إلا أن الوضع في الإقليم لا يستدعي اهتمام مجلس الأمن».

وهنا، يشار إلى أن رئيس الوزراء آبي أحمد، كان قد أمر بشنّ هجوم عسكري واسع على إقليم التيغراي (شمال إثيوبيا) لنزع سلاح قادة «الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي»، الحزب الحاكم في الإقليم، في حين أدّت أعمال العنف إلى قتل آلاف المدنيين وإجبار أكثر من مليونَي شخص على ترك منازلهم.

قضية «سد النهضة»

ملف آخر برز فيه اسم الرئيس الجديد أخيراً، لا سيما أنه سبق له شغل منصب وزير الخارجية، إذ بدأ يلعب دوراً لافتاً في أزمة «سد النهضة» الذي تبنيه إثيوبيا على الرافد الرئيسي لنهر النيل، وتخشى مصر أن يؤثر في حصتها من المياه.

والمعروف أن هذه الأزمة ما زالت تراوح في مكانها بعد عقد من المفاوضات التي انتهت دون نتيجة، وقد دفعت مصر للجوء لمجلس الأمن الدولي غير مرة.

في أغسطس (آب) الماضي، دعا تايي أتسكي سيلاسي، الذي كان وقتها وزيراً للخارجيّة الإثيوبية، مصر إلى «تجاوز الخلافات». وأعلن أن «أبواب بلاده مفتوحة للحوار والتفاوض معها؛ لإنهاء ملف الخلافات بشأن سد النهضة».

الدعوة هذه جاءت بعد تفاقم الخلافات مع الصومال على خلفية توقيع أديس أبابا «مذكرة تفاهم» مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، خلال يناير الماضي، وتعترف بموجبها أديس أبابا باستقلال الإقليم مقابل حصولها على ميناء وقاعدة عسكرية على البحر الأحمر.

هذه الاتفاقية رفضها الصومال ودول عربية عدة. وأعلنت مصر دعمها للصومال، وأرسلت مساعدات عسكرية لمقديشو، كما أنها تعتزم المشارَكة في قوات حفظ السلام في الصومال.

وعلى غرار دعوة تايي للحوار مع مصر بشأن أزمة «سد النهضة»، فإنه استخدم نهجاً مماثلاً حيال الأزمة مع الصومال عبر تشديده على أن «الخلافات يجب أن تحل عبر المفاوضات». لكن خطابه حمل، في الوقت ذاته، إشارات عدائية تجاه القاهرة عبر مطالبته بـ«الإحجام عن الاستعانة بقوى خارجية لتهديد أمن بلاده».

والحال، أن إثيوبيا عدّت تقديم مصر مساعدات عسكرية للصومال أمراً «يرقى إلى مستوى تدخل خارجي»، بحسب بيان لوزارة الخارجية في أغسطس الماضي.

من ناحية ثانية، ما كان اهتمام تايي أتسكي سيلاسي بملف «سد النهضة» مرتبطاً بشغله حقيبة الخارجية، لكنه كان محوراً من محاور كلمته الأولى أمام البرلمان عقب أدائه اليمين الدستورية رئيساً لإثيوبيا. وهو في أي حال أكد «اكتمال بناء السد وجولته الخامسة من الملء»، وتابع: «السد يمثل معلماً رئيسياً في رحلة التنمية في البلاد». ختاماً، لكون تايي دبلوماسياً محترفاً ومحنكاً، فهو يشدد باستمرار على أهمية دور إثيوبيا في تحقيق السلام والأمن الإقليميَّين، ويعوّل مراقبون على خبرته سفيراً سابقاً لدى مصر، وممثلاً لبلاده لدى الأمم المتحدة «لتعزيز مصالح أديس أبابا على الساحة الدولية». غير أنهم يتساءلون، في الوقت عينه، عمّا إذا كان سيتجاوز صلاحيات منصبه الشرفية، ويسهم في الحل العملي للنزاعات الداخلية والإقليمية، عبر التزام شعارات الوحدة والحوار، وفي خضم تحديات عدة تواجهها بلاده اقتصادياً وسياسياً. يتولى تايي رئاسة إثيوبيا بعد فترة سادت فيها تكهنات عدة بشأن خلاف

بين رئيسة الجمهورية سهلي ورق زودي ورئيس الحكومة آبي أحمد