نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

وزيرة الخارجية تدخل إلى السياسة من «باب المحاماة»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»
TT

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

نجلاء المنقوش... صوت ليبيا المدافع عن «السيادة الوطنية»

في واحدة من موجات النقد التي تعرّضت لها نجلاء المنقوش، منذ تعيينها وزيرة للخارجية لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في ليبيا، تساءل البعض مستغرباً: كيف لهذه السيدة أن تذهب إلى الجنوب الليبي، وتتفقد المعابر؟ أنسيت أنها وزيرة للخارجية وليست مسؤولة عن الدفاع أو الحكم المحلي؟ إلا أنها ردت في محفل عام عندما علت صيحات المستنكرين: «أخجل أن أتحدث باسم الليبيين في الساحات الدولية ولم تطأ قدمي أرض الجنوب».
استغراب بعض المتسائلين مبعثه الجولات المفاجئة للوزيرة الجديدة، وكثرة ترحالها داخلياً وخارجياً في تحرك نادر لمسؤول ليبي حديث العهد بتوليه هذه المهمة؛ فلم يكد يمضي على تولي المنقوش، التي تسلمت حقيبة الخارجية في حكومة «الوحدة الوطنية» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، غير أيام معدودات إلا وشغلت الرأي العام بتعاطيها مع الملفات المؤجلة والشائكة التي خلفتها الحرب على طرابلس، لذا كان طبيعياً أن تتنوع ردود الفعل حيالها، بين مؤيد، ومتحفظ، أو مُحرض عليها مثل الصادق الغرياني مفتي ليبيا السابق، الذي نعتها بأوصاف جارحة، ودعا لطردها خارج العاصمة طرابلس!
عُرفت نجلاء المنقوش فور اندلاع «ثورة 17 فبراير (شباط) » عام 2011 عندما انخرطت في العمل الإعلامي عبر نشاطها وآخرين بتغطية الأحداث الساخنة التي وقعت في بنغازي آنذاك. ويومذاك كانت تتواصل مع الصحافة الأجنبية لنقل الأحداث الجارية، ومنها المأساة التي ألمت بكتيبة بنغازي العسكرية يوم 20 فبراير 2011.
حينذاك ما كانت المنقوش، المحامية وأستاذة القانون الجنائي بجامعة قاريونس (بنغازي)، صحافية محترفة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها اهتمت بنقل وقائع الثورة وإيصال صوت ليبيا إلى العالم الخارجي بطرق عدة، وخصوصاً بعد قطع شبكة «الإنترنت» عن المدينة. وهنا أتاحت إجادة المنقوش اللغة الإنجليزية التواصل مع الجاليات الأجنبية بالمدينة، فراحت تعمل ضمن فريق على تأمين الغذاء والدواء لأفرادها، قبل إجلائهم من البلاد. وبالفعل، خلال الشهور الأولى للثورة أسهمت المنقوش في انخراط العديد من الشباب الليبي في العمل السياسي وإنضاج تجربتهم. ومن ثم، أصبحت المحامية الشابة منسقة «وحدة الاتصال» ما بين الشارع والمجلس الانتقالي، الذي تولى إدارة شؤون البلاد برئاسة وزير العدل المنشق عن نظام معمر القذافي المستشار مصطفى عبد الجليل. وكان من اختصاصات هذه «الوحدة» تنظيم الحلقات البحثية (السيمينارات) لأعضاء المجالس المحلية والوطنية، وإعداد البرامج التثقيفية والتوعوية. ومن هنا وجدت نجلاء المنقوش نفسها في قلب الأحداث وقريبة إلى حد ما من صانعي القرار.

النشأة والبداية
ولدت نجلاء محمد المنقوش (51 سنة) في مدينة بنغازي حاضرة شرق ليبيا، لأسرة مهتمة بالعلم، تجسّدت في والدها الدكتور محمد عبد الله المنقوش طبيب القلب وأمراض الدم. وهذا الواقع أسهم كثيراً في بناء شخصيتها وفتح المجال العام أمامها باكراً للعمل كمحامية، ثم التعمق الدراسي والالتحاق بالمجتمع المدني كواحدة من الناشطات الليبيات في مجال العمل النسائي.
وفي بنغازي، بعد التخرّج في كلية الحقوق بجامعتها، تدرجت المنقوش - التي تعود أصول عائلتها إلى مدينة مصراتة بغرب ليبيا - في مراحل التعليم المختلفة، قبل أن تحصل على الماجستير في تحويل النزاعات بمركز العدالة وبناء السلام بجامعة إيسترن مينونايت بالولايات المتحدة، ومن ثم تحصل على الدكتوراه في جامعة جورج مايسون ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن.

من «الحرب إلى السلم»
لم تكن بداية المنقوش مع متابعة الوضع الراهن عابرة. إذ كانت الحرب التي تركت أثراً غائراً في نفوس من عايشوها، أيضاً، كاشفة لمن يسعون إلى استمراريتها والتربح من ورائها، ولذا لم تتوقف المنقوش طويلاً عند هذه المحطة، بل ذهبت تُؤسس لحياتها العملية كمحامية وناشطة في المجتمع المدني. وفي هذه المرحلة ظلت عيناها على هموم بلدها التي مزقتها الحروب والاشتباكات مدة 10 سنوات، وما بوسعها فعله مع رفاقها لانتزاعها من قبضة الانقسام السياسي والتحزب الجهوي. هذا السبب كان وراء دراساتها وأبحاثها المهتمة بعملية الانتقال من الحرب إلى السلم، وبناء السلم في المجتمعات، وهو ما تجسد في تدريسها للعدالة التصالحية والتوعية بالتأهيل النفسي عقب الحروب والنزاعات المسلحة.
وللعلم، فإن للمنقوش دراسات منشورة في عام 2015؛ منها الممارسات العرفية والعدالة التصالحية في ليبيا «نهج هجين»، بجانب بحوثها في تحليل النزاعات وفضها بجامعة جورج ميسون. وهذا، بجانب كونها عضواً في «منبر المرأة الليبية من أجل السلام» وهي منظمة نسائية غير حكومية تهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية للمرأة الليبية وتعزيز حقوق المواطنة، والعمل على النهوض بليبيا.

«وزيرة الصدفة»
في الحقيقة، لعبت اعتراضات أعضاء مجلس النواب دوراً في أن تحل نجلاء المنقوش وزيرة للخارجية والتعاون الدولي. إذ كانت رغبة رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة منصبّة أولاً على إسناد الحقيبة إلى لمياء أو سدرة، القريبة من عبد الحكيم بلحاج رئيس حزب «الوطن»، إلا أنه بعد رفضها من قبل البرلمان، وقع اختياره لاحقاً على المنقوش. ومن هنا بدأت السيدة الآتية من شرق البلاد مرحلة من أشد الفترات حساسية في تاريخ الدبلوماسية الليبية؛ أقلها ضرورة ترسيخ مبدأ السيادة الوطنية، ووقف التدخلات الخارجية. وحقاً، انطلقت المنقوش سريعاً لتطالب الرأي العام الخارجي، والدول المهتمة بالملف الليبي بأحقية ليبيا بتطهير أرضها من المقاتلين الأجانب و«المرتزقة»، كي يتمكن الليبيون من إجراء انتخابات نزيهة بعيداً عن ضغط السلاح. لكن هذا المطلب فتح عليها أبواب الغضب والانتقادات، ولا سيما، من المعسكر الموالي لتركيا، ووصل الأمر بأحد وجوهه أن طالب قوات «بركان الغضب» التابعة للحكومة بـ«الخروج ضدها»، ووصفها بأنها «تخدم مشروع الأعداء»، في إشارة إلى المشير خليفة حفتر القائد العام لـ«الجيش الوطني»!

«وين المنقوش»؟
مع هذا، لم تكفّ وزيرة الخارجية عن المطالبة بإخراج «المرتزقة» من ليبيا، ولسان حالها يقول «نحن نعمل على تحرير قرارنا السيادي». وعندما جدّدت مطلبها ذلك أمام مجلس النواب الإيطالي في أبريل (نيسان) الماضي، أثيرت حالة من اللغط بحجة أنها تحدثت فقط عن «المرتزقة» المواليين لأنقرة، وأغفلت مجموعات «الفاغنر» (وهي شركة أمنية روسية) المتهمين بالحرب في صفوف «الجيش الوطني الليبي». غير أن بياناً لوزارة الخارجية الليبي أُعيد نشره في اليوم التالي لزيارتها إلى إيطاليا، فسّر كيف أن بعض المواقع والفضائيات اجتزأت كلمة المنقوش، لأغراض سياسية. ومن ثم، خرجت المنقوش لتؤكد من جديدة ضرورة إخراج «جميع القوات والمرتزقة الأجانب» من أجل تنفيذ بنود «خريطة برلين»، واتفاق الحوار السياسي في تونس وجنيف.
وفي مؤتمر صحافي ضم وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا وألمانيا بطرابلس، أكدت الوزيرة المنقوش على أن «مبدأ السيادة الوطنية أساس غير قابل للتفاوض في استراتيجية الخارجية الليبية». وأردفت أن استقرار بلادها ينعكس بشكل إيجابي على دول الجوار، بما في ذلك أوروبا، قبل أن تنهي حديثها بالتشديد على ضرورة «خروج كل المرتزقة من أراضي الوطن وفوراً».
هنا أخذت موجة الغضب ضد المنقوش تتصاعد. بل ووصل الأمر بقوات من عملية «بركان الغضب» بالذهاب إلى فندق «كورنثيا» مقر المجلس الرئاسي بالعاصمة من أجل مقابلة رئيسه محمد المنفي، والاعتراض على تمسك المنقوش بإخراج «المرتزقة» الموالين لأنقرة بوصفهم «قوات شرعية» أتت إلى البلاد بطلب رسمي من حكومة «الوفاق الوطني»، وانتشر مقطع فيديو للقوات وهي تملأ بهو الفندق الشهير، وأحدهم يسأل في حدة وغضب: «وين المنقوش»؟
وفي حينه، تساءل الجميع: هل تدفع المنقوش ثمن مطالبتها بمغادرة «المرتزقة»؟ لكن الأخيرة لم تكف في جميع المؤتمر الصحافية مع المسؤولين الأجانب - وخصوصاً نظيرها التركي مولود جاويش أوغلو - عن المطالبة بإخراج «جميع المقاتلين الأجانب» من البلاد، كما أن حكومة الدبيبة، بدورها، نفت يومذاك تشكيل أي لجان للتحقيق معها... كما ردّد البعض.

بين سبها والقطرون
وقبل أن ينتصف الشهر الثالث من عُمر حكومة الدبيبة، كانت وزيرة خارجيته الشابة قد قطعت شوطاً لا بأس به على مسارات عدة لتنبئ بتعافي الدبلوماسية الليبية. وها هي بحقيبة يد صغيرة يُطل منها كتاب، وجاكيت بذلة على ذراعها تهبط في مطار سبها الدولي من دون تكلّف، في زيارة تستهدف تفقد غالبية مناطق إقليم فزّان الذي طالما شكا من الإقصاء والتمييز والتجاهل الحكومي. وفي سبها، عاصمة فزّان، خفّت لاستقبال المنقوش قيادات تنفيذية وعسكرية ومعها أعيان ومشايخ بالجنوب، لتمكث هناك أيام تستمع وتدوّن وتناقش مشاكل سكانه.
ومن سبها، الموصوفة بـ«عروس الجنوب»، واصلت المنقوش جولتها إلى مدينة القطرون باتجاه حدود النيجر وتشاد، في أول زيارة لمسؤول ليبي إلى هذه المدينة النائية. وتعهدت من هناك بنقل الصورة الحقيقية عن الوضع في المنطقة، والمطالب التي قُدمت إلى مجلس رئاسة الوزراء بالعاصمة طرابلس. بل إنها لم تكتف بذلك، إذ ذهبت لتفقّد معبر التوم الحدودي مع النيجر، وأصغت إلى حديث المواطنين هناك. وعندما أثارت هذه الجولة غير المعهودة تساؤلات عن حدود مسؤولية وزير الخارجية، وهل بينها تفقد الحدود؟ ردت الوزيرة قائلة «أنا مسؤولة ليبية، ولا أستطيع الحديث عن قضايا الجنوب وما يتعلق بالمنافذ البرية والهجرة غير المشروعة، إذا لم أقم بزيارته، فهذا عيب في حقي».

«الحس العروبي»
من ناحية أخرى، رغم التباين الشعبي حيال شخصية المنقوش، ونظرة البعض لها على أنها تميل إلى «معسكر شرق ليبيا على حساب معسكر الغرب»، فإنها تركت وتترك انطباعاً مُرضياً للغالبية بفضل حسن عرضها أزمة بلادهم في المحافل الدولية، وبملامح وجهها التي تعكس جدية وإحساسا بأهمية المنصب، حتى وصل الأمر بالبعض لترشيحها لرئاسة الوزراء في حكومة ما بعد انتخابات ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بل هناك من أطلق عليها لقب «أنجيلا ميركل ليبيا».
هذا، وزادت المنقوش من شعبيتها عندما أظهرت حسّاً عروبياً بارتدائها للوشاح الفلسطيني الشهير أثناء استقبالها في طرابلس مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هود، وهو مُزين بقبة الصخرة وكلمتي «القدس لنا»، تعبيراً عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، في خطوة لاقت استحسان كثرة من الليبيين والعرب.
ولقد قرأ مقربون من وزيرة الخارجية مجمل تحرّكاتها على المسار الدبلوماسي خلال الأشهر الثالثة الماضية، بأنها لم تنفصل بعد عن كونها شخصية اتسمت منذ بدايتها بحس ثوري، تمثل في انخراطها بالحراك الشعبي الذي أودى بسقوط نظام القذافي لتحقيق حلم الوصول إلى دولة ديمقراطية قائمة على العدل والمساواة، وتؤمن بتداول السلطة. وللتذكير، قبل أن تتسلم المنقوش حقيبتها كان في ليبيا حكومتان تضمان وزيرين للخارجية، الأول محمد طاهر سيالة بالعاصمة، والثاني عبد الهادي الحويج بشرق ليبيا.

حملة تشكيك
أخيراً، كأي شيء في ليبيا، اتسعت دائرة النقد حول مسيرة المنقوش على قصَرها. فهي لم تسلم من الطعن والتشكيك بأنها «تنتصر لجبهة شرق ليبيا على غربها»، وأنها «تربية أميركية» تأسيساً على أنها حصلت على غالبية تعليمها في الولايات المتحدة! بل إن البعض تساءل عما إذا كانت المنقوش قد تحدثت خلال زيارتها مع الدبيبة إلى موسكو عن أوضاع «مرتزقة الفاغنر» في ليبيا؟ غير أن الموقف الليبي الذي عبر عنه الدبيبة خلال اجتماعه مع رئيس وزراء روسيا ميخائيل ميشوستين في موسكو، كان واضحاً إذ طالب بالضغط على شركة «فاغنر» المتهمة بإرسال «مرتزقة» إلى ليبيا، لسحب عناصرها من البلاد.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».