«طبيب أرياف»... تعيد إنتاج الصورة النمطية القديمة

محمد المنسي قنديل على خطى توفيق الحكيم

«طبيب أرياف»... تعيد إنتاج الصورة النمطية القديمة
TT

«طبيب أرياف»... تعيد إنتاج الصورة النمطية القديمة

«طبيب أرياف»... تعيد إنتاج الصورة النمطية القديمة

في روايته الجديدة «طبيب أرياف» الصادرة حديثاً عن دار الشروق، يواصل محمد المنسي قنديل أسلوبه السردي في الجمع بين متعة الحكي، وبراعة الاختزال في رسم الشخصيات، والإيقاع المتدفق، لكنه في هذه الرواية يتخلى عن واحدة من أهم ملامح هذا المشروع وهي الارتحال بعيداً في فضاء المغامرة وتشكيل عالم مختلف بمفردات جديدة قادر على إثارة الدهشة والأسئلة.
منذ العنوان تضعنا الرواية على عتبة تناص مع رواية توفيق الحكيم الشهيرة «يوميات نائب في الأرياف» الصادرة عام 1937، وهي عبارة عن مذكرات يومية كتبها في أثناء عمله وكيلاً للنائب العام بإحدى قري صعيد مصر، مقدماً سيرة ذاتية ومتنوعة للمكان، مترعة بالسخرية والفكاهة من خلال حزمة من المشاهد والوقائع والإحداث عاشها البطل على مدار 12 يوماً هي زمن الرواية، ومعاناته من الفساد والرشوة والجهل والبعوض أيضاً. وفي «طبيب أرياف» نجد تماساً شخصياً مع الكاتب نفسه، فقد تخرج في كلية الطب عام 1975، لكنه اعتزل ممارسته وتفرغ للكتابة.
تدور أحداث الرواية في نهاية السبعينات حين كان الراوي طبيباً شاباً، مكلفاً من قبل الحكومة بتسلم عمله في إحدى القرى بصعيد مصر، حيث تطالعنا الطرق غير الممهدة والعربات المتهالكة التي تثير الغبار على الدوام، والباصات التي تمر بالمكان، وهي تحوي من الحيوانات أكثر مما تحوي من البشر. الوحدة الصحية، مقر عمله، تفتقر للنظافة والنظام وتفوح من أدويتها منتهية الصلاحية رائحة العفونة، والمساعد الرئيسي للطبيب وحارس الوحدة «دسوقي» نموذج تقليدي للموظف الريفي الذي تمتزج فيه الطيبة مع الخبث. أما المرضى فقليلو الحيلة، ينتظرون الطبيب بكل احترام، ويفترشون الأرض في انتظاره.
يقع الطبيب في غرام الممرضة «فرح» وتبادله المشاعر نفسها، لكنها علاقة خطرة نظراً لكونها متزوجة، فضلاً عن طبيعة المجتمع، شديدة الصرامة. لم تتزوج «فرح» عن حب وإنما جرياً على عادات قديمة جعلت من اقترانها بابن عمها خياراً مناسباً. زوجها عيسى معتل الصحة، يزور الراوي من أجل التداوي، كما يريد أيضاً أن يقترض منه بعض المال لدفع نفقات سفره إلى دولة حدودية بهدف العمل وفتح باب للرزق بالاستعانة بأحد سماسرة الهجرة غير الشرعية والذي يعرف خبايا الطرق الصحراوية جيداً. يوافق الطبيب في لحظة أنانية شديدة على مساعدة «عيسى» بهدف التخلص منه حتى يخلو الجو له مع حبيبته، لكن التعليمات تصل إلى قسم الشرطة بتعقب رحلة خارج إطار القانون يقوم بها عدد من أهالي القرية بهدف السفر للخارج. تنطلق حملة الشرطة ويصر المأمور على اصطحاب الراوي معهم بصفته الطبية لمعالجة أي حالة طارئة. تستمر الرحلة وسط مخاطر العواصف الرملية القاتلة وفي النهاية يعثرون على أشلاء جميع من سافروا من القرية وقد فتكت بهم الذئاب والضباع. تعرف «فرح» أن حبيبها الطبيب هو من قام بإقراض زوجها المال للذهاب بعيداً في رحلة الموت، فيتحول الحب في قلبها إلى كراهية شديدة وتقطع علاقتها النهائية به وقد صار عدوها الرئيسي.
تمتلئ الرواية بعشرات المشاهد والحبكات الفرعية، لكنها ليست سوى إعادة إنتاج لصور نمطية ودراما مستهلكة سبق للمتلقي أن صادفها كثيراً: «ما إن يتوقف الأتوبيس حتى تندفع الحيوانات قافزة من النوافذ، وينحشر الناس عند الباب، أنتظر حتى يهبط الجميع ثم أنهض منهكاً ومتكاسلاً، أشم رائحة الناس والبيوت وروث البهائم».
حتى عالم الغجر الذين يقطنون في مساحة خاوية على أطراف القرية يتم تقديمه بالصورة القديمة النمطية نفسها التي تكتفي بالقشرة الخارجية: «عالم صاخب وسط موات الليل، يضج بالحركة والضوء، بعيداً عن صمت البلدة في الخلف، مشاعل كثيرة تضيء» الجرن «المكان الذي وقع عليه الاختيار، تنعكس أضواء اللهب على كل الوجوه فتجعلها متوهجة، مصبوغة بحمرة الحياة، يحل رنين الصاجات ودق الطبول».
يبدو بطل الرواية مهزوماً على الصعيدين العاطفي والسياسي. لقد سبق له وأحب حباً يبدو الأكثر عمقاً وصدقاً وإيلاماً، لكن المحبوبة تتضايق من أفكاره التقدمية، كما أنها لم تكن مستعدة أن تنتظر تحسّن ظروفه المادية السيئة كشاب في مقتبل العمر يتلمس خطواته الأولى على درب المهنة والحياة. تفشل قصة الحب وينهار مشروع الارتباط العاطفي للسبب التقليدي الأزلي نفسه: عدم جاهزية البطل مادياً، فضلاً عن عدم التوافق في الرؤى بين الطرفين. على المستوى السياسي، يبدو البطل قادماً من خلفية يسارية تنشد العدل والمساواة، فيصطدم بالسلطة ويكون مصيره المعتقل كسجين رأي. ويبدو أن إدراك المؤلف مدى «تقليدية» مثل هذا الخطوط هو ما جعله يمر عليها سريعاً دون أن يعطيها مساحة كبيرة فجاءت مثل صدى بعيد لبطل يتذكر البدايات الأولى على نحو سريع وعابر: «وحدة مطلقة لا يؤنسها أحد، لا يزيدها التحقيق إلا وحشة، أسئلة غامضة وتهم وهمية، ورحلة عبثية بين الزنزانة ومكتب التحقيق، وكل شيء خاضع لمزاج المحقق، أحياناً يكون متعاطفاً حتى أعتقد أنه سيفرج عني في اليوم التالي، وفي أكثر الأحيان يكون غاضباً حتى يصيبني اليأس».
تنعكس هذه النمطية على مسارات السرد ومناخ الرواية، حيث يفتر الوهج الشديد الذي أضاء رواياته السابقة، وتتراجع روح المغامرة والذهاب إلى عوالم جديدة على القارئ مثل روايته «كتيبة سوداء»، وهي محاولة لإعادة كتابة تاريخ أوروبا في القرن الثامن عشر ببراعة شديدة من خلال عيون بعض المجندين من مصر والسودان والجزائر الذين انخرطوا في كتيبة عسكرية بعث بها حاكم مصر هدية إلى بعض نظرائه في أوروبا، أو كما نجد في روايته «قمر على سمرقند»، حيث الراوي يخوض مغامرة روحية وبوليسية في آسيا الوسطى وتحديداً أوزبكستان... وغيرهما من الأعمال التي حققت له مكانة بين كتاب الرواية في مصر.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟