تحولات البيوت والأمكنة والبشر في مجموعة قصصية سعودية

يقدم القاص والروائي السعودي أحمد الحقيل في مجموعته الجديدة «بيت» الصادرة عن دار «روايات» الشركة التابعة لمجموعة «كلمات» ومقرها الشارقة، قصصاً تنهل من أجواء ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كفضاء زمني يؤطر أغلب نصوص المجموعة، سواء بالتصريح المباشر أو عبر الإشارة في ثنايا السرد ضمنياً إلى ذلك الفضاء بملامحه وشوارعه واهتمامات من عايشوه، إذ تتشكل صورة زمن كامل من خلال العلامات التجارية للسيارات، والتوسع العمراني، وظهور الأحياء السكنية الجديدة، وما يترتب على الانتقال من الأمكنة، بما يحمله من خسارة الألفة وفقدان الجيران وذكريات الطفولة التي لم تكن تعرف الأبواب الموصدة أو الحدود بين العائلات في عقود مضت.
يستعير النص الأول بعنوان «ويرحل ابن بطوطة»، عين طفل يتذكر مشهد رحيل الجيران إلى منزلهم الجديد سنة 1986؛ إذ يزاوج بطل القصة خلال استحضاره الأحداث بين زمنين، أحدهما عندما كان في الحادية عشرة من عمره، والزمن الآخر بعد أن صار متزوجاً ولديه أطفال. يتحول شروده إلى لحظات استذكار مشبعة بنوستالجيا إلى زمن يظهر من سياق النص أنه كان أكثر براءة. وبذاكرته البصرية، يعيد الرجل بناء ماضي الجيران في آخر يوم لهم قضوه بمنزلهم القديم، قبل أن ينتقلوا لتختفي وجوههم وتندثر تلك العلاقة إلى الأبد. وتتمحور قصص أخرى حول خسارة العلاقات البسيطة التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل الطفرة النفطية، إلى أن بدأت تتآكل تدريجياً. فكان حدث الانتقال من الأحياء القديمة إلى التجمعات العمرانية المستحدثة مؤشراً على انعكاس آثار التحوّل الجديد على الأفراد والعائلات. وإذا ما استعرنا لغة ابن الحادية عشرة، يمكن القول إن نص العتبة في مجموعة «بيت»، يحكي عن فقدان البساطة والحرمان من ميزة التواجد في بيوت الآخرين أثناء الطفولة.
بقراءة أخرى، أصبح «البيت الحديث» في منظور نصوص الحقيل معادلاً لغياب الجيران وانتهاء زمن التحلق معهم حول مائدة الطعام. ولا يغفل الكاتب عن استحضار الروائح وتشغيل الحواس التي لا تطغى على الجانب البصري الأكثر هيمنة.
ويرصد المؤلف ما لا يراه الآخرون في تحولات البيوت وما وراء تبدل ملّاكها. وهذا كان محور القصة الثانية «بيت» التي تتناول ما الذي مرّ على صالة المنزل من أحداث وأثاث وعقود زواج واستضافة الأصدقاء لبعضهم في غياب الزوجات، ومغامرات السهر والطبخات الفاسدة، وكل ما يمكن أن يحدث لإنسان في حياة بيتية تصبح معادلاً لسنوات عمره.
تستضيف المجموعة في بعض صفحاتها نصوصاً تخلو من الحبكات التقليدية، لتعتمد على تداعيات ذات مزاج فلسفي، كما في القصة الثالثة التي تحاول مقاربة الموت بمسحة فانتازية تحكي عن ميتات متعددة قد يشهدها البشر، بالاتكاء على ثيمة تناسخ الأرواح باعتبارها في منطق النص حقيقة وليس مجرد فرضية مطروحة في بعض الأفكار الميثولوجية. إجمالاً، تزدحم قصص أحمد الحقيل في هذه المجموعة بغابة من الحيوات الكثيفة، ضمن موضوعات سردية متنوعة، بعضها تقارب حكايا ذات جذر تاريخي إن لم نقل أسطورياً، كما في النص الأخير «من الهامش: رسائل ما بعد الموت» إلى جانب ثلاثة نصوص أخرى استبق عناوينها بإحالتها إلى الهامش، دون أن يعثر القارئ على مبرر لوجود نصوص داخل العمل تبدو منفصلة عن الاشتغال المركزي الذي احتكمت إليه القصص الأخرى منذ بداية الكتاب، وإن كانت لغة القاص تضفي على النصوص حالة من الاتساق، إلى جانب الصبر على حفر المشاهد ومنحها طاقة جمالية تنجح في إشباع نهم القارئ.