من بين كافة دول الاتحاد الأوروبي أو أعضاء الحلف الأطلسي، تعد فرنسا الأكثر تشدداً إزاء سياسات تركيا سواء الإقليمية كما في سوريا والعراق وليبيا والبحر الأبيض المتوسط أم في إطار علاقاتها مع المنظمة الأوروبية والحلف، حيث إن أنقرة تجاور باريس. وما زال المراقبون يتذكرون الأجواء المسممة التي هيمنت على قمة الأطلسي في لندن في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2019 والاتهامات المتبادلة بين الرئيس ماكرون ونظيره التركي رجب طيب إردوغان. وبقي التوتر سيد الموقف بين العاصمتين لا بل ازداد توتراً صيف وخريف العام الماضي ووصل إلى حد التجريح الشخصي عندما شكك إردوغان بحالة «الصحة العقلية» للرئيس الفرنسي الذي اتهمه بـ«تأجيج الكراهية» ضد الإسلام والمسلمين على خلفية دفاع ماكرون عن حرية التعبير بما في ذلك الرسوم الكاريكاتورية.
بيد أن الأمور مالت إلى التهدئة مع بداية 2021 عندما بدأت تركيا تسعى لـ«تطبيع» علاقاتها مع الاتحاد على خلفية استعداد الأوروبيين لفرض عقوبات على أنقرة بسبب أنشطتها شرق المتوسط. ثم حصل تواصل مباشر مرتين بين ماكرون وإردوغان الأول بداية العام الجاري والثاني في الثاني من شهر مارس (آذار) الماضي، الأمر الذي فتح الباب لتنشيط التواصل الدبلوماسي من غير أن يعني ذلك أبداً أن المواضيع الخلافية قد زالت بين الطرفين بسحر ساحر.
وأكثر من مرة، أكدت باريس أن ما يهمها «ليست تصريحات الأتراك بل أفعالهم وسياساتهم». ولعل أبرز دليل على أن فرنسا لم تغير مقاربتها للمسائل الخلافية مع أنقرة، أن ماكرون في حديثه بمناسبة زيارة رئيس حكومة الوفاق الليبية إلى باريس الأسبوع الماضي، شدد على أن استعادة السيادة الليبية الكاملة تتم برحيل القوات الأجنبية والمرتزقة مشيراً بالاسم إلى تركيا وروسيا.
في هذه الأجواء المستجدة، جرت زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الرسمية إلى باريس حيث التقى طيلة ساعتين نظيره الفرنسي جان إيف لودريان. وتأتي الزيارة عقب تواصل هاتفي بين الرجلين منتصف مارس الماضي وقبل أيام من القمة الأوروبية التي ينص أحد بنودها على تفحص ما إذا كان يتعين على الاتحاد فرض عقوبات إضافية على تركيا.
لكن هذا الاحتمال يبدو اليوم بعيداً لأن أنقرة عادت لتغليب الدبلوماسية على الأعمال الاستفزازية وهي بصدد «تحييد» الأطراف المناوئة لها وعلى رأسها فرنسا. واستبق جاويش أوغلو لقاءاته الباريسية بإصدار تصريحات تذهب كلها في اتجاه التهدئة مستفيداً من المنصة التي وفرتها له صحيفة «لوبينيون» «الرأي» في طبعتها ليوم أمس حيث رسم صورة «مثالية» لسياسات بلاده. وفيما خص فرنسا، اعتبر جاويش أوغلو أن زيارته لباريس «تعكس رغبة الطرفين في تعزيز علاقاتهما» لا بل قدرتهما على إيجاد «نقاط تلاقٍ ومصالح مشتركة بصدد الملفات الخلافية الإقليمية».
وعمد الوزير التركي إلى جرد كامل للملفات الخلافية بدءاً بالملف السوري حيث يتواجه الطرفان بشأن العلاقة مع الأكراد. وقال جاويش أوغلو إن الطرفين «يتقاسمان الأولويات نفسها» مشيراً إلى إيصال المساعدات الإنسانية وضرورة التقدم في المسار السياسي والمحافظة على وحدة وسلامة الأراضي السورية، علماً بأن أنقرة تحتل مساحات من هذه الأراضي في الشمال والشمال الغربي من سوريا.
وفي أي حال، يعترف المسؤول التركي بأن الخلافات بين باريس وأنقرة عميقة بالنسبة للأكراد ولا يمكن التغلب عليها إلا بعد «تخلي حلفائنا عن التعاون» مع المنظمات الإرهابية في إشارة إلى الأكراد. وبالنسبة لليبيا، اعتبر جاويش أوغلو أن لباريس وأنقرة أولويات مشتركة هي استقرار ووحدة ليبيا ودعم حكومة الوحدة الوطنية وإعادة توحيد المؤسسات ووقف دائم لإطلاق النار والهجرات من شواطئها باتجاه أوروبا، متخطياً الرؤية والمطالب الفرنسية التي إن توافقت مع مزاعم تركيا في العناوين إلا أن مضامينها مختلفة تماماً.
وروج المسؤول التركي لسياسة بلاده إزاء اليونان نافياً عنها أي «مطامع توسعية» وإزاء قبرص حيث تدعو الطرفين القبرصيين إلى الاتفاق على أهداف المفاوضات. ولا ينسى دور بلاده في جنوب القوقاز حيث يدعو إلى «سلام دائم يوفر الازدهار لأذربيجان وأرمينيا». ونفى جاويش أوغلو أي نية عدائية من قطع بلاده البحرية إزاء الفرقاطة الفرنسية «لو كوربيه» الصيف الماضي داحضاً «المزاعم» بشأنها.
ولا ينسى المسؤول التركي أن يؤكد أن همّ بلاده هو مساعدة الأتراك الذين يعيشون في فرنسا على «الاندماج» في مجتمعاتهم وأن تركيا «حليف لا غنى عنه في محاربة الأشكال الراديكالية»، معبراً عن اغتباطه بالتعاون الأمني القائم بين البلدين في محاربة الإرهاب، مضيفاً أنه في هذه القضية «تعي فرنسا أنها تستطيع الاعتماد على تركيا». في تغريدة عقب اجتماعه بلودريان، كتب جاويش أوغلو أنهما «بحثا العلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف والتطورات الإقليمية والدولية وأن هدفنا هو تعزيز العلاقات مع فرنسا على أساس الاحترام المتبادل». وأفادت مصادر تركية وفرنسية بأنه إضافة إلى العلاقات الثنائية، فإن أربعة ملفات أساسية حظيت بالبحث وهي ليبيا وسوريا والعلاقات الأوروبية ــ التركية وأخيراً التحضيرات الجارية لانعقاد القمة الأطلسية. ولا شك أن لحظة الحقيقة بالنسبة لتركيا بالنسبة للملف الليبي ستحل بمناسبة انعقاد مؤتمر برلين 2 الذي دعت إليه ألمانيا والذي من المنتظر له أن يتناول المسائل العالقة ومنها التدخلات الخارجية المستمرة في شؤون ليبيا الداخلية.
ولاحقاً، أصدرت الخارجية الفرنسية بياناً أشارت، في بدايته، إلى أن الوزيرين «تناولا الملف الليبي، حيث يتعين الالتزام بروزنامة الانتقال السياسي والأمني والانتخابي والعمل بوقف إطلاق النار». واللافت أن باريس لم تشر إلى انسحاب المرتزقة ولا القوات الأجنبية الموجودة في ليبيا، ما يمكن اعتباره رغبة للتهدئة مع أنقرة، والتركيز على الأوجه الإيجابية وحدها. وجاء البيان سريعاً على الملفين السوري والنزاع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، ذاكراً أنه تمت مناقشتهما، كما تمت مناقشة اجتماع الحلف الأطلسي الأسبوع المقبل والقمة الأوروبية يومي 24 و25 الشهر الجاري، مع الإشارة إلى الوضع في المتوسط الشرقي. وفيما يخص العلاقات الثنائية، شدد الوزيران على أهمية تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية وقررا متابعة التشاور.
وزير خارجية تركيا يروج في فرنسا لسياسات «جديدة» لبلاده
وزير خارجية تركيا يروج في فرنسا لسياسات «جديدة» لبلاده
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة