تسخين في الإعلام الأميركي استعدادا للانتخابات

{بلومبيرغ} و {سي إن إن} في المقدمة قبل عام ونصف العام من انطلاقها

راتب مليون دولار لهايلمان للإشراف على تغطية شركة «بلومبيرغ» للانتخابات  -  وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية 2016 («الشرق الأوسط»)  -  مارك هالبرين أبرز مقدمي  «بلومبيرغ»
راتب مليون دولار لهايلمان للإشراف على تغطية شركة «بلومبيرغ» للانتخابات - وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية 2016 («الشرق الأوسط») - مارك هالبرين أبرز مقدمي «بلومبيرغ»
TT

تسخين في الإعلام الأميركي استعدادا للانتخابات

راتب مليون دولار لهايلمان للإشراف على تغطية شركة «بلومبيرغ» للانتخابات  -  وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية 2016 («الشرق الأوسط»)  -  مارك هالبرين أبرز مقدمي  «بلومبيرغ»
راتب مليون دولار لهايلمان للإشراف على تغطية شركة «بلومبيرغ» للانتخابات - وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تستعد لخوض الانتخابات الرئاسية 2016 («الشرق الأوسط») - مارك هالبرين أبرز مقدمي «بلومبيرغ»

يبقى عام ونصف قبل انتخابات رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة، لكن، ها هو الإعلام الأميركي يستعد لها منذ الآن.
في كتاب «كرونكايت»، الذي كتبه المؤرخ الأميركي دوغلاس برنكلي، وهو عن وولتر كرونكايت، أشهر مذيع تلفزيون أميركي (توفي عام 2009)، قال كرونكايت إنه، مع ظهور التلفزيون، صار السياسيون الأميركيون يبدأون حملاتهم الانتخابية قبل مدة طويلة من الانتخابات نفسها؛ وذلك لأن التلفزيون صار «دعاية مجانية» للسياسيين. في الماضي، كان السياسيون يستقلون قطارات خاصة، ويزورون مدن أميركا وأريافها، ويعقدون الليالي السياسية في محطات السكة الحديدية.
وقال كرونكايت إنه، بصفته صحافيا، يؤيد ويعارض هذه الظاهرة الجديدة. يؤيدها لأنها تثير النقاش حول المرشحين، وسياساتهم، وشخصياتهم. ويعارضها لأن مرشحين يستغلون الإعلام في «دعاية مجانية». ويتعمدون إصدار تصريحات، وعقد مؤتمرات صحافية، بحثا عن «تلميع».
في الوقت الحاضر، طبعا، تطور التلفزيون، وظهر الإنترنت، وتزيد تدريجيا فرص السياسيين الذين يريدون «تلميع» أنفسهم. لكن، كما قال كرونكايت، تزيد أيضا فرص تقديم أعمال صحافية تثري النقاش. (ولا بأس بزيادة الإعلانات لشركات الإعلام).
خلال الشهرين الماضيين، حدث الآتي:
أولا: أضافت شركة «بلومبيرغ» الإعلامية (تلفزيون، إذاعة، إنترنت) 20 شخصا إلى قسم جديد مخصص للسياسة، برئاسة صحافيين شابين كبيرين، راتب كل واحد مليون دولار في العام.
ثانيا: عينت شركة «سي إن إن» (تلفزيون، إذاعة، إنترنت) 20 صحافيا جديدا، وقالت إنها ستعين 20 آخرين.
ثالثا: عينت صحيفة «بوليتيكو» (صحيفة صغيرة تصدر في واشنطن، وتركز على الكونغرس والإدارة. لكن موقعها في الإنترنت ناجح جدا) 10 صحافيين جددا. رغم أن عدد صحافييها 180 شخصا.
وفعلت أشياء مماثلة أجهزة إعلامية أخرى، مثل صحف ومواقع: «هافينغتون بوست» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال»، ومثل مواقع: «ياهو نيوز» و«غوغل نيوز» و«أمازون نيوز». (هذه ظاهرة جديدة: حتى شركات الخدمات وماكينات البحث دخلت عالم الأخبار).
في تغطية الانتخابات المقبلة، انضمت شركة إعلامية رئيسية جديدة (بالإضافة إلى الخمس الكبار: «إيه بي سي» و«سي بي إس» و«إن بي سي» و«سي إن إن» و«فوكس»). هذه هي شركة «فيوشن» (يمكن أن تكون ترجمة الكلمة: خلطة من نوع جديد).
تريد هذه الشركة مخاطبة جزء كبير، وجديد، ومتزايد، من الشعب الأميركي: اللاتينيين (تقريبا 10 ملايين مواطنين أميركيين، وتقريبا 10 ملايين مهاجرين غير قانونيين). منذ 20 عاما تقريبا، تقدم قنوات تلفزيونية برامج باللغة الإسبانية لهذه الشريحة من الشعب الأميركي.
لكن، تتخصص «فيوشن» في اللاتينيين الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية. وستركز على انتخابات رئاسة الجمهورية. طبعا، لأن الذين يتكلمون الإنجليزية، أو خليطا من اللغتين داخل منازلهم (تقريبا 7 ملايين)، يشتركون أكثر في السياسة الأميركية.
ربما لهذا، كتب بول فارهي، صحافي الشؤون الإعلامية في صحيفة «واشنطن بوست»: «سياسة، وسياسة، وسياسة، ومزيدا من السياسة ...»، يقصد أن الإعلام الحديث، والإعلام الاجتماعي، طورا التغطية الإخبارية السياسية بصورة لم تكن موجودة قبل 20 أو 30 عاما.
وقال سام فايست، مدير مكتب تلفزيون «سي إن إن» في واشنطن: «نخطط لأن تكون الحملة الانتخابية المقبلة هي أكبر تغطية صحافية خلال العامين المقبلين. سوف نصرف مزيدا من المال على حملة 2016 أكثر مما صرفنا على أي موضوع في تاريخنا».
وقال فارهي: «مثلما في انتخابات عام 2008، تتميز سباقات الديمقراطيين والجمهوريين نحو رئاسة الجمهورية في هذا العام بأنها مفتوحة. لا يوجد أي مرشح مضمون من أي حزب. ويبشر هذا بالخير للصحافيين. يبشر بساعات وساعات من الحوار، والنقاش، والمقابلات، ويجب ألا ننسى أن هناك حملتين انتخابيتين: الانتخابات التمهيدية، وانتخابات رئاسة الجمهورية. ويجب ألا ننسى طفرة الإعلام الحديث والإعلام الاجتماعي. ستكون هذه (بونانزا) (سوقا مربحة)».
«بونانزا» للصحافيين، و«بونانزا» للسياسيين، و«بونانزا» لشركات الإعلانات. طبعا، الناس الأكثر اهتماما بالسياسة هم، بصورة عامة، أكثر تعليما وأكثر ثراء. وهذا هو نوع الناس الذي تفضله شركات الإعلانات.
لكن، قال قائد حملة انتخابية لسياسي في بداية الطريق: «بسبب كثرة اهتمام شركات التلفزيونات بالسياسة، زاد عدد المعلقين على عدد الصحافيين. زاد الكلام، وقلت المعلومات. زادت النظريات، وقلت الحقائق».
زادت الحقائق أو قلت، زادت حمى تغطية المنافسات السياسية. قال بنجامين بولين، خبير في معهد «بوينتر» للصحافة في سنت بيترزسبيرغ (ولاية فلوريدا): «أخيرا، تعلم الصحافيون الدرس الذي يعرفه جيدا تلاميذ وتلميذات المدرسة الأولية: حب المنافسة، ومن أحسن ممن؟ ربما لأنهم صاروا آباء وأمهات يشجعون فرق كرة القدم لأولادهم وبناتهم، ويهتفون للذي ينتصر على الآخر».
يقصد أن المنافسات (أحيانا، شرسة وعنيفة) هي جزء من الثقافة الأميركية. ولا بأس بمنافسات السياسيين. وخاصة، عندما ينشرون غسيلهم القذر.
لا يوجد تفسير غير هذا التفسير لحمى التغطية الصحافية السياسية، خاصة انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، وخاصة الرواتب الخيالية لصحافيين شبان، وصل بعضها إلى 150 ألف دولار في السنة (تقريبا 12 ألف دولار في الشهر). وعن هذا قال مسؤول الحملات الانتخابية في واشنطن: «إنها فرصة جيدة جدا ليكون الصحافي مراسلا سياسيا. لكن، هذه رواتب خيالية سخيفة».
لكن، لا يتفق معه في هذا جون هايلمان، الذي (مثل زميله مارك هالبرين) وقع عقدا براتب مليون دولار في العام مع شركة «بلومبيرغ» الإعلامية، للإشراف على تغطية الحملة الانتخابية المقبلة. هذه شركة إعلامية مترامية الأطراف، وكانت تركز على الأخبار المالية، ثم ضمت إليها الأخبار السياسية، وصاحبها هو مايكل بلومبيرغ، ملياردير، وعمدة نيويورك السابق. هايلمان هو مؤلف (مع هالبرين) كتاب «غيم تشينج» (تغيير اللعبة) عن انتخابات عام 2008 (الرئيس باراك أوباما ضد السيناتور جون ماكين). ويعتبر الكتاب مرجعا في تغطية الانتخابات. ومثلما قال خبير معهد «بوينتر» عن التشابه بين منافسات كرة القدم والمنافسات السياسية، واضح من اسم الكتاب أنه عن «لعبة»، لعبة منافسات قوية، وحادة، وأحيانا قذرة.
وقال هايلمان: «ستكون هذه الانتخابات الرئاسية أكبر خبر من أي خبر آخر في أميركا. ستكون على مدى العامين المقبلين. لهذا، تركز عليها شركة (بلومبيرغ)، ولهذا تعهدنا بأن نقدم لها أكبر تغطية انتخابات في تاريخ أميركا».



الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
TT

الجريمة... مشاهدة عالية ومصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")
من "ادخلوا المتهم" ("إر ام سي")

شهدت وسائل الإعلام الفرنسية خلال العقد الأخير تحوّلاً جذرياً في طبيعة المحتوى الذي تقدّمه للجمهور. فقد انتقلت قضايا القتل والحوادث الجنائية من مجرد أخبار هامشيّة تحتل حيزاً ضئيلاً في النشرات الإخبارية، إلى ظاهرة إعلامية كاسحة تستحوِذ على اهتمام ملايين الفرنسيين. بل إن بعض المراقبين ما عادوا يترددون في وصف هذا الاهتمام بـ«الهَوَس الجماعي»، وهو وصف تدعمه أرقام المشاهدة الخيالية، والمبيعات القياسية للمجلّات المتخصّصة، والملايين من المتابعين على المنصّات الرقمية.

غير أن هذه الظاهرة لم تعُد مقتصرة على الحيِّز الإعلامي فحسب، بل تجاوزته لتصبح أداة سياسية فعّالة تستخدمها مختلف الأطراف السياسية لتحقيق مكاسب انتخابية وتمرير أجندات معيّنة، ما بات يثير تساؤلات جوهرية حول تأثير هذه التغطية المكثّفة على المجتمع الفرنسي ومنظومته القيَمية.

شعار "المعهد الوطني للسمعي البصري" INA (إينا)

الأرقام المُذهلة

الأرقام لا تكذب، وهي تؤكد بما لا يدَع مجالاً للشكّ أن القضايا الجنائية أصبحت جزءاً أساسياً من النظام الإعلامي للفرنسيين. فقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة «فيافوس» بمناسبة «المؤتمر السنوي للصحافة» في مدينة تور، بوسط فرنسا، عام 2025، عن أن 69 في المائة من الفرنسيين يتابعون بانتظام التغطية الإعلامية للحوادث والقضايا الجنائية. والأكثر دلالة أن 71 في المائة من هؤلاء المهتمّين يبحثون بشكل استباقيّ ومتعمّد عن معلومات حول القضايا الجنائية، بينما يتابع 26 في المائة منهم هذه الأخبار بشكل يوميّ ومُنتظم.

هذه المؤشّرات تنفي الزَّعم القائل بأن الاهتمام بالجريمة مجرّد فضول عابر أو اهتمام سطحي، بل هو سلوك متجذِّر وعميق يشكِّل جزءاً من الروتين اليومي لشريحة واسعة من المجتمع الفرنسي.

وعلاوة على ذلك، أكّد 62 في المائة من المُستجوَبين أنه «من الضروري» أن يتطرّق السياسيون إلى الحوادث الجنائية في خطاباتهم وبرامجهم، ما يوضح كيف تحوّلت هذه القضايا من مواضيع إعلامية بحتة إلى قضايا ذات أبعاد سياسية واجتماعية تشكّل الرّأي العام وتؤثّر في الخيارات الانتخابية.

التوسّع الكمّي في التغطية الإعلامية

من جهة ثانية، كشفت دراسة أخرى أجراها «المعهد الوطني للسمعي البصري» (INA) في فرنسا عن تطوّر مثير للقلق، فقد ازدادت حصّة الحوادث الجنائية في المساحة التحريرية لوسائل الإعلام بنسبة 73 في المائة بين عامي 2002 و2021.

هذه الزّيادة الهائلة تعني أن ما يقرُب من ثلاثة أرباع المساحة الإضافية في النشرات الإخبارية والبرامج أصبحت تخُصص لتغطية الجرائم والحوادث.

وتكشف المعطيات الجديدة عن منطق تجاريّ واضح، هو أن مثل هذه البرامج تحقّق نسب مشاهدة عالية، وبالتالي، تجني عوائد إعلانية ضخمة. وهذا ما يفسّر التفاوت في تغطية القنوات، فبينما تكاد الحوادث الجنائية تنعدم في القنوات العمومية والثقافية، كقناة «آر تي» الثقافية التي تخصّص أقل من 1 في المائة للأخبار الجنائية، فإنها تمثّل أكثر من 9 في المائة من تركيبة القنوات الإخبارية الخاصة كقناة «تي إف أو إم 6» مع تركيز خاص على أعمال العنف ضد الأشخاص، ولا سيما النساء والأطفال. وللعلم، هذا التفاوت ليس عبثياً، بل يعكس نموذج التمويل والضّغوط التجارية التي تخضع لها كل قناة. ذلك أن القنوات الأكثر اعتماداً على المنطق التجاري والإعلانات - إضافة إلى وسائل الإعلام المحلّية - تميل إلى منح حيّز أكبر لهذا النوع من الأخبار.

السبب بسيط، وهو أن الحوادث الجنائيّة سهلة الإنتاج، بسبب تعاون المصادر الأمنية والقضائية بسهولة مع الصحافيين، الأمر الذي يجعل كلفة إنتاج هذا المحتوى منخفضة بالمقارنة مع كلفة إنتاج التحقيقات الاستقصائية الأخرى، كما أن أرباحها كبيرة.

شعار قناة "دوبل في 9" (آ ف ب/غيتي)

مصدر إيرادات للقنوات الصغيرة

وبالفعل، غدت البرامج المتخصّصة في القضايا الجنائية مصدر إيرادات رئيس للقنوات الصغيرة بفضل أرقام المشاهدة الاستثنائيّة التي تحقّقها. وكمثال، هناك قناة «آر إم سي» التي استطاعت أن تتصدر المشهد لسنوات بفضل برنامج «أدخلوا المتهم»، وهو برنامج انطلق عام 2000 ووصل إلى موسمه السادس والعشرين عام 2024.

ويتناول هذا البرنامج القضايا الجنائية الكبرى في فرنسا، مستعيناً بإعادة تمثيل الأحداث وشهادات المحقّقين والخبراء، مع أسلوب سردي درامي يُصور في ديكورات مُظلمة توحي بالغموض.

الأرقام كشفت عن أن حلقات الموسم الثالث والعشرين من البرنامج حققت نحو 513.000 مشاهدة لكل حلقة، وهذه أرقام وإن بدت متواضعة مقارنة بالبرامج الترفيهية الكبرى، فإنها استثنائية بالنسبة لقناة صغيرة.

الوضع نفسه ينطبق على قناة صغيرة أخرى تدعى «دوبل في 9» التي نجحت بفضل برنامج «تحقيقات جنائية» في تحقيق نسب مشاهدة عالية؛ إذ سجلت حلقة من ديسمبر (كانون الأول) 2020 رقماً قياسياً هو 1.3 مليون مشاهدة، مع متوسط نِسَب مشاهدة عامة تصل إلى 600 ألف في الحلقة الواحدة. هنا أيضاً يقدّم البرنامج تحقيقات معمّقة في قضايا جنائيّة معقدة، مع تركيز خاص على الجوانب الإنسانية والنفسيّة للجرائم، وقد تكون استمرارية البرنامج لأكثر من 15 سنة، على الهواء، دليلاً قاطعاً على نجاحه التجاري وقدرته على الاحتفاظ بجمهوره.

قنوات أخرى كبيرة، مثل «تي إف1» و«كنال بلوس» و«فرانس 2»، لم تتخلف عن الركب، بل أطلقت هي الأخرى برامج متخصّصة، أو أفردت حيّزاً كبيراً ضمن برامجها الوثائقية لتغطية القضايا الجنائية، في سباق محموم للاستحواذ على حصّة من هذه السوق الإعلامية المربحة.

يوتيوب: ثورة رقمية في تغطية قضايا الإجرام

على صعيد موازٍ، إذا كانت القنوات التلفزيونية التقليديّة قد استثمرت بكثافة في برامج الجريمة، فإن منصّات التواصل الاجتماعي، وتحديداً «يوتيوب»، شهدت ثورة حقيقية في هذا المجال.

صانعو المحتوى الرقمي أدركوا مبكّراً حجم الطلب الجماهيري على القصص الجنائية، وتمكّنوا من بناء إمبراطوريات إعلامية مستقلّة تنافس القنوات التقليديّة. موقع «ترو كرايم» الفرنسي سجّل وجود أكثر من 67 قناة فيديو متخصّصةً في محتوى الجريمة، ما يعكس حجم هذه الصناعة الإعلامية الناشئة.

«ماك سكيز»

في هذا السياق، يُعد صانع المحتوى الفرنسي الشاب «ماك سكيز» النموذج الأبرز لهذا النجاح الرقمي؛ إذ أطلق قناته على «يوتيوب» عام 2018، وفي غضون ست سنوات فقط، وصل عدد المُشتركين إلى ما يقارب مليوني مشترك بحلول عام 2024، وهذا رقم يفوق حجم جمهور العديد من البرامج التلفزيونيّة المتخصّصة. ثم إن محتواه الأسبوعي يحصد بانتظام ملايين المشاهدات، ما يجعله أحد أنجح صانعي المحتوى الفرنسي على الإطلاق.

طبعاً، هذا النجاح لم يأتِ من فراغ، ذلك أن كل حلقة تحتاج لما بين 7 و10 أيام من البحث والتحضير، ويعمل معه فريق محترف يضمّ محرّرين للفيديو، وخمسة رسّامين، وثلاثة فنّانين متخصّصين في الرسوم الثّلاثية الأبعاد.


هل الذكاء الاصطناعي بريء من «تحريف الأخبار»؟

زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
TT

هل الذكاء الاصطناعي بريء من «تحريف الأخبار»؟

زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)
زيادة الاعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

مرة أخرى تتجدد المخاوف بشأن زيادة انتشار «المعلومات المضللة» مع الإعلان عن نتائج بحث جديد، تظهر «تحريف» الذكاء الاصطناعي للأخبار. وفي حين أبدى خبراء مخاوف من تقويض ثقة الجمهور في الأخبار، شددوا على ضرورة «حوكمة» الذكاء الاصطناعي.

وفق بحث نشره اتحاد الإذاعات الأوروبية وهيئة الإذاعة البريطانية، الأسبوع الماضي، فإن «تطبيقات الذكاء الاصطناعي باتت تحرّف محتوى الأخبار في نصف ردودها تقريباً». وتابع البحث أن «45 في المائة من ردود الذكاء الاصطناعي احتوت على مشكلة واحدة كبرى على الأقل، و81 في المائة منها تتضمن شكلاً من أشكال المشاكل».

وكان البحث المشار إليه قد درس 3 آلاف ردّ على أسئلة عن الأخبار من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، هي «تشات جي بي تي» و«جيميناي» و«كوبايلوت» و«بربليكستي» بـ14 لغة مختلفة. وشارك فيه 22 مؤسسة إعلامية للخدمة العامة من 18 دولة. بينها؛ فرنسا وألمانيا وإسبانيا وأوكرانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.

وبيّن البحث أن ثلث إجابات مساعدي الذكاء الاصطناعي أظهرت أخطاء جسيمة في المصادر، مثل الإسناد المفقود أو المضلل أو غير الصحيح، كما تضمنت 72 في المائة من ردود «جيميناي» مشاكل كبيرة في المصادر، مقارنة بأقل من 25 في المائة للتطبيقات الأخرى. وأضاف أنه «كانت هناك مشاكل في الدقة في 20 في المائة من ردود جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي محل الدراسة».

«اتحاد الإذاعات الأوروبية» أعرب، في تعليق له على الحصيلة، عن «مخاوفه» من أن يتسبب ذلك في «تقويض ثقة الجمهور في الأخبار»، خصوصاً مع زيادة الاعتماد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي بديلاً لمحركات البحث التقليدية. وقال جان فيليب دي تيندر، مدير الإعلام في «اتحاد الإذاعات الأوروبية»، في بيان صحافي نقلته «رويترز»، إنه «عندما لا يعرف الناس ما الذي يثقون به، ينتهي بهم الأمر إلى فقدان الثقة في أي شيء على الإطلاق».

من جهتها، صرّحت الدكتورة سالي حمود، الباحثة الإعلامية اللبنانية في شؤون الإعلام المعاصر والذكاء الاصطناعي، وأستاذة الإعلام والتواصل، لـ«الشرق الأوسط»، بالقول إن «الذكاء الاصطناعي، حتى هذه اللحظة يفتقر إلى كثير من الحوكمة، ما يجعل ردوده منحرفة وغير دقيقة بحسب المعلومات التي يجري تلقينه بها... والتحريف إنما يستهدف دعم سردية معينة على أخرى، ما جعل الذكاء الاصطناعي جزءاً من الصرع والحروب الحالية».

وأكدت حمود على «ضرورة أن يعي الصحافيون ذلك، وأن يضعوا ما ينتجونه من محتوى على المنصّات الرقمية في محاولة تغيير السرديات السائدة وتقليل انحراف الأخبار والمعلومات»، مشيرة إلى محاولات عدة لـ«حوكمة الذكاء الاصطناعي» ومشددة على «ضرورة مشاركة الجميع؛ باحثين وعلماء وإعلاميين في وضع أسس التعامل مع الذكاء الاصطناعي».

حمود اعتبرت من جانب آخر، أنه «لا بد من التعاون العربي في هذا المجال لحماية اللغة والسردية والفكر والثقافة العربية في ظل سيطرة السرديات الغربية»، وسط تزايد الاعتماد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي كمصادر للأخبار. وللعلم، وفق تقرير الأخبار الرقمية لعام 2025 الصادر عن «معهد رويترز» فإن نحو 7 في المائة من جميع متصفّحي الأخبار على الإنترنت و15 في المائة ممّن تقل أعمارهم عن 25 سنة يستخدمون تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الحصول على الأخبار.

محمد فتحي، الصحافي المصري المتخصص في الإعلام الرقمي، علّق أيضاً على هذا الموضوع فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الذكاء الاصطناعي – في رأيه – يمثّل اليوم بالفعل تحدّياً وجودياً لسلامة المعلومات. وهو بدلاً من تحريف الأخبار... يختلق النموذج اللغوي الكبير حقائق تبدو مقنعة شكلاً، لكنها مضللة وغير صحيحة، ما يضخم التضليل المعلوماتي والتزييف العميق بكميات هائلة وبمصداقية شكلية فقط». وأردف فتحي: «هذا الواقع يبدّد الخط الفاصل بين الحقيقة والزيف، ويهدد ثقة المستخدمين في المحتوى الرقمي»، لافتاً في هذا الصدد إلى دراسة أخرى أفادت بأن «قدرة الإنسان على تمييز الفيديوهات المزيّفة تصل إلى نحو 24.5 في المائة فقط للفيديوهات العالية الجودة».


«قيود البنتاغون» تفتح نقاشاً دستورياً حول حرية الصحافة الأميركية

مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)
مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)
TT

«قيود البنتاغون» تفتح نقاشاً دستورياً حول حرية الصحافة الأميركية

مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)
مبنى "البنتاغون" بضواحي مدينة واشنطن (آ ب)

لم يكن خروج عشرات الصحافيين من مكاتبهم داخل مبنى «البنتاغون»، مقر وزارة الحرب الأميركية، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حدثاً إدارياً عابراً. فالمشهد، الذي بدا أقرب إلى احتجاج جماعي صامت، كشف عن عمق التحوّل في علاقة المؤسسة العسكرية الأميركية بالإعلام، وأعاد إلى الواجهة سؤالاً قديماً جديداً هو: هل لا تزال الديمقراطية الأميركية قادرة على التوفيق بين مقتضيات الأمن القومي وحق المواطن في المعرفة؟

«البنتاغون» مغلق أمام الإعلام

القرار الذي أصدره وزير الحرب، بيت هيغسيث، بفرض وثيقة جديدة على الصحافيين المعتمدين داخل «البنتاغون»، تحظر عليهم طلب أو تداول أي معلومة غير مصرّح بها مسبقاً، فجّر عاصفة من الاعتراضات في الأوساط الإعلامية والقانونية.

الوثيقة، الممتدة على إحدى وعشرين صفحة، تحمل طابعاً تنظيمياً ظاهرياً، لكنها عملياً تعيد تعريف حدود العمل الصحافي في واحدة من أكثر المؤسّسات نفوذاً في العالم. إذ تنصّ على أن أي محاولة للاتصال بمسؤول من دون إذن رسمي تُعد «تشجيعاً على خرق القانون».

وزارة الحرب دافعت عن الإجراء بصفته «خطوة لحماية المعلومات الحسّاسة»، لكن معظم المؤسسات الإعلامية الأميركية الكبرى رأت فيه سابقة خطيرة تتعارض مع التعديل الأول للدستور الأميركي الذي يضمن حرية التعبير والصحافة، ويمنع الحكومة من فرض رقابة مسبقة.

وعن هذا علّق البروفسور جوناثان تيرلي، أستاذ القانون الدستوري في جامعة جورج واشنطن بالعاصمة الأميركية: «الشفافية ليست امتيازاً تمنحه الحكومة للإعلام، بل واجب دستوري لضمان المحاسبة العامة. وما يجري في البنتاغون يختبر صلابة هذا المبدأ في زمن صعود النزعات السلطوية».

وحدة غير مسبوقة في صفوف الإعلام

اللافت أنه في مشهد نادر، توحّدت مؤسسات إعلامية أميركية من مختلف الاتجاهات؛ من «فوكس نيوز» و«نيوزماكس» المحافظتين إلى «واشنطن بوست» و«سي إن إن» و«نيويورك تايمز» الليبرالية، في رفضها التوقيع على الوثيقة.

وأصدرت هذه المؤسسات بياناً مشتركاً قالت فيه إن «الصحافة الحرّة لا يمكن أن تعمل تحت إشراف الجهات التي يُفترض أن تراقبها».

وحدها شبكة «وان أميركا نيوز»، المقرّبة من الرئيس دونالد ترمب، وحركة «ماغا» (لنجعل أميركا عظيمة) وافقتا على الشروط الجديدة، لتصبح الوسيلة الوحيدة التي احتفظت بحق الوصول الدائم إلى مكاتبها داخل «البنتاغون». أما بقية المراسلين فقد غادروا المبنى حاملين ملفّاتهم وأجهزتهم في مشهد وصفته «واشنطن بوست» بأنه «الأكثر رمزية منذ الحرب العالمية الثانية»، حين أُغلقت أبواب وزارة الدفاع (الحرب، اليوم) أمام المراسلين لأول مرة منذ تأسيسها عام 1943.

بين الأمن القومي وحق المواطن

تكمن خطورة الأزمة، وفق عدد من الخبراء، في انتقالها من كونها مسألة تنظيم إداري إلى قضية دستورية وديمقراطية تمسّ جوهر النظام الأميركي.

ففي بلد تبلغ فيه ميزانية الدفاع نحو تريليون دولار سنوياً، يغدو الوصول إلى المعلومات العسكرية والسياسات الدفاعية جزءاً أساسياً من حق الجمهور في مراقبة كيفية إنفاق أمواله العامة.

ويوضح مايكل أوهانلون، الباحث في معهد بروكينغز، أن «الجيش الأميركي مؤسسة وطنية، لكنها ليست فوق المساءلة. وبالتالي، من دون إعلام حرّ، يصبح الحديث عن الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية مجرّد شعار».

غير أن البيت الأبيض تبنّى رواية مختلفة. إذ قال الرئيس ترمب، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع هيغسيث: «لسنا بحاجة إلى صحافيين يتجوّلون بين جنرالاتنا كما لو كانوا في نزهة. نحن نحمي أسرار بلدنا». وأردف أن «الحكومة تحمي أسرارها؛ لا لأنها تخفي شيئاً، بل لأنها لا تثق بمَن يحاولون تسييسها». وهذه عبارة فسّرها مراقبون على أنها استمرار في نهج الإدارة الذي يرى في الإعلام «طرفاً معادياً» وليست «سلطة رقابية».

الوزير بيت هيغسيث (آ ب)

المعركة القانونية المقبلة

من جهة ثانية، استعانت نقابة مراسلي «البنتاغون» بمكتب محاماة لرفع دعوى أمام القضاء الفيدرالي، مطالبة بإلغاء الوثيقة بوصفها تقييداً غير دستوري لحريّة الوصول إلى المعلومات.

وتشير مصادر قانونية إلى أن الدعوى قد تتحوّل إلى قضية مفصلية في تاريخ القضاء الأميركي، على غرار قضايا «أوراق البنتاغون» خلال السبعينات التي أرست مبدأ حق الصحافة في نشر الوثائق السرّيّة إذا كان النشر يخدم المصلحة العامة.

ويقول المحامي توماس ديفين، الخبير في قضايا الشفافية، إن «النزاع الحالي لا يدور حول امتيازات الصحافيين، بل حول حق كل مواطن في معرفة ما تفعله حكومته بأمواله وباسمه. فحين تُغلق المعلومة، تُغلق الديمقراطية معها».

تسييس المؤسسة العسكرية

ولكنَّ جانباً آخر من الجدل يتّصل بشخصية الوزير نفسه. فبيت هيغسيث، وهو مقدّم سابق في الجيش ومذيع يميني سابق في «فوكس نيوز»، يُعدّ من أبرز المدافعين عن سياسات ترمب الإعلامية. ولقد بنى فريقه داخل الوزارة على قاعدة الولاء السياسي، وفق ما كشفت عنه تسريبات صحافية عدة. ولذا، يرى محلّلون أن ما يحدث راهناً في «البنتاغون» انعكاس لتسييس متزايد للمؤسسة العسكرية، وتحويلها من جهاز بيروقراطي مهني إلى سلاح في معركة ترمب المفتوحة مع الإعلام. ذلك أن القرار ليس فقط حول إدارة الوصول إلى المعلومة، بل حول مَن يملك رواية القوة في واشنطن: الصحافة أم السلطة؟

أيضاً، يرى مراقبون أن النتائج المُحتملة لهذا النهج قد تؤدي إلى تداعيات عدّة، أبرزها:

- إضعاف الرقابة المدنية. مع حرمان الصحافيين من مصادرهم غير الرسمية، ستتقلص قدرة الإعلام على الكشف عن التجاوزات أو مراقبة النفقات العسكرية.

- انزلاق قانوني محتمل. إذا أقرّت المحاكم بصلاحية الوثيقة، سيصبح ذلك سابقة قد تشجّع مؤسسات فيدرالية أخرى على فرض قيود مشابهة.

- تآكل الثقة العامة. في ظل انقسام سياسي حاد، قد يعمّق هذا القرار الشكوك في صدقية المؤسسات الرسمية وحيادها.

ولكن من منظور أوسع، تُعد «قيود البنتاغون» جزءاً من جدل أعمّ حول إعادة تعريف الشفافية في الحقبة الترمبية. إذ إن الإدارة الحالية تطرح نموذجاً يرى في الانضباط الإعلامي شرطاً للأمن القومي، في حين يرى منتقدوها أن الشفافية -في حد ذاتها- هي ضمانة هذا الأمن. بل يقول البعض إنه «في الديمقراطيات، المعرفة لا تهدِّد الدولة، بل الجهل هو الذي يهددها».

وهكذا في ضوء ما تقدّم، ما عادت قضية «البنتاغون» صراعاً عابراً بين الصحافة والسلطة، بل صارت اختباراً لمناعة النظام الأميركي أمام نزعة السرّيّة الحكومية. فكلّما ضاقت مساحة الوصول إلى المعلومة، تراجع حضور المواطن في المعادلة السياسية، وتحوّلت الديمقراطية إلى طقسٍ شكليّ خالٍ من الجوهر الرقابي.

وكذلك، بين مَن يرفع شعار الأمن القومي ومَن يتمسّك بحق المعرفة، تقف الولايات المتحدة أمام سؤالها المؤسس والأصعب منذ قيامها: مَن يراقب مَن في واشنطن؟