عقيل الموسوي: روايتي أنجبت «دارا الزرادشتي» وكان أذكى مني!

الروائي البحريني يقول إنه لا يكتب سيرة ذاتية لكن شيئاً يتسرب منه

الروائي البحريني عقيل الموسوي
الروائي البحريني عقيل الموسوي
TT

عقيل الموسوي: روايتي أنجبت «دارا الزرادشتي» وكان أذكى مني!

الروائي البحريني عقيل الموسوي
الروائي البحريني عقيل الموسوي

وسط العزلة التي فرضها وباء «كورونا»، كتب الروائي البحريني عقيل الموسوي، روايته الثانية «دارا الزرادشتي»، التي استحضر فيها متحف الملل والنحل والثقافات والحضارات التي تكتنزها بلاد فارس، مستلهماً شخصية الزاهد المتصوف «دارا» الذي اتخذ من الترحال والسفر والتنقل عبر الأمكنة وسيلته للاستكشاف، قاطعاً المسافات من أجل التزود بالمعرفة والعلم والإيمان.
رأى الناقد البحريني د. فهد حسين، «أن رواية (دارا الزرادشتي) تؤكد ما يمتلكه الكاتب من موهبة حقيقية في الكتابة الإبداعية من جهة، ورؤيته لهذا الجنس الإبداعي وكيف يوظف الأبعاد المختلفة داخل فضاء العمل، فهو بهذا النص يملك ناصية اللغة، وسبكها وربط جملها بحرية سلسة، وبعفوية من دون تكلف، بل أعتقد أنه كتبها بحب وشغف ورغبة وتفاعل حقيقي من أجل إبراز بعضٍ من تاريخنا الإنساني».
في حين وصفها الناقد جعفر المدحوب، بأنها «رواية من طراز فريد، وصوت مغاير بين أصوات السرد البحريني».
عقيل الموسوي كاتب ومصور فوتوغرافي، ويعمل طبيب أسنان منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وقبل هذه الرواية أصدر روايته البكر «أريامهر نامه»، التي صدرت عن «دار الفارابي».
هنا حوار معه عبر وسائل التواصل، جراء التباعد الذي فرضته جائحة «كوفيد - 19».

> أصدرتَ مؤخراً روايتك الثانية «دارا الزرادشتي»، هي ثاني تجربة بعد روايتك الأولى «أريامهر نامه: سيرة نور الآريين»، كلا الروايتين تحملان عمقاً ثقافياً وفلسفياً ومشبعتان بالتاريخ... ماذا يجمع بين هاتين الروايتين؟
- ما يجمع بين الروايتين هو تفاعلي بعمق مع التاريخ. لا يستطيع أي روائي أن يكون مبدعاً دون أن يكون مستثاراً من موضوع روايته، دون أن ينغمس فيه، ويكون جزءاً منه. وأنا مرتبط بفكرة التاريخ في الرواية، ليس بوصفي أميل لأخلاق هذا الدين أو ذاك، وليس بوصفي متعاطفاً مع أمة ضد أخرى، بل بوصفي روائياً مهتماً لأعرف النفس البشرية، وأتلمس ما يحدث في دواخل الإنسان. ثمة رغبة جامحة عند البشر للحكم على شخصيات التاريخ، إما أخياراً أو أشراراً، وذلك ليس شأني، لا تقدم رواياتي أحكاماً جاهزة، بل تستعرض فهماً مختلفاً للتاريخ وشخصياته.
> أيضا كلا الروايتين تحملان مشاهد باذخة من الحضارة الفارسية. كيف تسنى لك توظيف كل هذه المحتوى والاستفادة منه، رغم تعقيداتها التاريخية والسياسية والقومية؟
- يجب ألا نغفل عن حقيقة أن كل أمة تسعى لتحتكر التاريخ، وكل دين يحتكر الحقيقة. وإذا كنت قد نجحت في تحميل أعمالي «مشاهد باذخة»، فذلك لأن الرواية في شكلها السردي تتبع حال الإنسان وتقلباته أكثر مما تتبع حال الدول، وذلك خلاف ما تفعله في العادة كتب التاريخ أو كتب الدين. ولقد لاحظ تلك الحقيقة الروائية الباحث علي الديري، ونشرها سابقاً: «أن السرد الروائي الذي جاء في رواية (دارا الزرادشتي) أتاح لنا برؤيته المتسعة أن نتحرر من فهم كُتب الملل والنحل».
هناك من قال «إنه زمن الرواية»، وذلك ببساطة لأن الرواية تقول ما يمكن للرواية وحدها أن تقوله. أما التعقيدات السياسية والقومية التي ذكرتها، فهي في الأخير مقص يحمله رقيب غليظ. ولتجنب ذلك المقص، لجأت إلى عدة حيل سردية مثل معظم الروائيين. الكاتب البحريني أحمد خلف رأى أنه يمكن اعتبار رواية «أريامهر نامه» جسراً أدبياً يصل بين الثقافتين العربية والفارسية. وفي رواية «دارا الزرادشتي»، تمكن بعض القراء من أن يلاحظوا إسقاطات الماضي على الحاضر العربي، وعبروا عن ذلك على قنوات التواصل الاجتماعي بجرأة تفوق ما ذهبت إليه الرواية.
> هناك من رأى أن رواية «دارا الزرادشتي» تحمل بعضاً من سيرتك الشخصية. وعلى رأي أمبرتو إيكو، فإن أجزاء من حياة المؤلف تنتقل إلى رواياته بوحي أو في غفلة منه... أين نجد ظل الكاتب في فضاء الرواية؟
- ما تقوله روايتي شيئاً مختلفاً عني، فلست أتحدث في الرواية باسمي، أو باسم أفكاري الخاصة، ولا باسم أحدٍ آخر. أتفق مع الفرنسي فلوبير حين قال إن الروائي هو الشخص الذي يختفي خلف عمله الإبداعي. مع ذلك، شيء لا بد تسرب مني في غفلة مني، ليس من الأنا اليومية لطبيب الأسنان فحسب، ولكن من الأنا العميقة غير الواعية كذلك. أختي الفوتوغرافية، عديلة الموسوي، رأت ظلي في الرواية وكتبت في صحيفة «الأيام» البحرينية أن شغف بطل الرواية «دارا» بالسفر والكتب، مستوحى من حياتي الخاصة، ولعل صيغة المتكلم (أنا)، وليست صيغة الراوي العليم (هو)، أحدثت تماهياً بين شخصيتي كروائي وشخصية البطل. أما الكاتب جعفر المدحوب فقد كتب في مجلة «أوان» الإلكترونية أن شيئاً من سيرة الغربة لوالدي المرحوم، قد تسربت من وعيي الباطن، وظهرت في حياة «دارا». أحب أن أضيف هنا أني اخترت أن يتحدث «دارا» بلسانه، بسبب الطبيعة السيكولوجية للرواية التي اضطرتني إلى تلك الصيغة لسبر أغوار نفس بطلي، واستعراض مونولوجات داخلية. لكن استخدام الصوت السردي (أنا) جعل القراء يتقاسمون الرؤية مع البطل، فوجدوا أنفسهم متماهين مع الأنا التي يقرؤونها كما وكأنهم هم المتلفظون بها.
> كيف أثْرَتْ اللغة الصوفية هذه الرواية؟
- اللغة الصوفية يمكنها أن تمارس سحراً حقيقياً على المسلمين، وهي بالفعل أَثْرَتْ نصي، بعض القراء لاحظوا ذلك، كثير منهم راق لهم ذلك. ثمة قبول جميل للتصوف بين شباب المسلمين اليوم. وينبغي أن أوضح هنا أن تأثر «دارا» بالشعر الصوفي منطقي ومبرر، لأنه زرادشتي أصيل، أول حكمة عرفها كانت شعراً كتبه زرادشت.
لست مؤمناً بالإلهام
> قلت ذات مرة إنك ذهبت لصحراء الربع الخالي تفتش عن التيه والضياع، ولكنك أخفقت فاهتديت للطريق مجدداً... هل هذا ما حدث لـ«دارا الزرادشتي»، حيث الارتحال بين الأديان مثل ممارسة للتيه حتى يتحقق اليقين؟
- ينبغي أن أعترف هنا أني لم أكتب الرواية في نفس واحد، كتبت الجزء الأول الخاص بالزرادشتية، ثم غصت في بطون الكتب، أبحث لبطلي عن طريق مقنعة إلى رحاب الإسلام، ولم يكن في تصوري أن «دارا الزرادشتي» الذي قرأتموه هو الشكل النهائي. كنت أتأمله، وأعيد كتابته باستمرار. كان دارا يتغير، ومنطق الرواية يتضح أكثر، ثمة شخصيات تخرج من النص، وأخرى تدخل، وفهمي للمذاهب يتعمق في معمعة البحث/ الكتابة الدؤوب. لم يسبق دارا كل ذلك، بل ولد أثناء كل ذلك. ليس ثمة إلهام خارق تملكني، ولن أمل من تكرار أني لست مؤمناً بالإلهام في الكتابة. أثناء الكتابة، كنت مثل دارا، عقلي مفتوح على الأديان، أرتحل معه من مذهب إلى آخر، وقناعاته تتبدل، تتغير، لا ضرر في أن نتغير، من الطبيعي أن نتغير، قال دارا في نهاية حياته: «ثلاثة وثمانون عاماً مرت، عمرٌ كان ينبغي أن يغير من هيئة فارس، لكن فارس هي التي غيرتني». وليس ثمة يقين مطلق في نهاية الرواية، لكن هناك يقين نسبي، الكشف الأخير الذي يحرزه الإنسان في نهاية عمره، ويرتاح أن يموت به.
> إلى أي مدى كانت رحلة البحث عن المعنى في مسيرة «دارا» بين زوايا التاريخ والأديان والثقافات تمثل هموم الإنسان الحاضر وتطلعاته نحو الحقيقة؟
- عندما نقول رواية تاريخية فإننا نقصد أنها تتكئ على مادة التاريخ، تقدم للقارئ المعاصر هموم الماضين وتطلعاتهم نحو الحقيقة. كروائي كنت أفكر في آلام بطلي «دارا» الزرادشتي الذي عاش مهمشاً في فارس في القرن الثالث عشر، تقمصت ثقافة الأمة الفارسية برمتها لكي أجعله ينطق، تخيلت سلمان الفارسي يفكر في أمر الإسلام، تخيلت الفلكي البيروني يقرأ بذهول وصف القرآن الكريم للكون، تخيلت الفردوسي يعاني بين إسلامه واعتداده الفارسي، تخيلت عمر الخيام مهرطقاً هائماً في سكراته، تخيلت البسطامي وابن المقفع وابن سينا، جميع هؤلاء حضروا معي وأنا أسعى مع دارا من أجل الحقيقة. لست أدري من فيهم الذي ألهمني عندما قال دارا: «في فارس أتذوق نكهة زرادشت». إنها ليست أفكاري الخاصة، بل حكمة فارس، وفي نصي هي منطق الرواية.
الغريب أني حين رجعت لنصي بعد مدة، كدت لا أصدق أني كتبته، وشعرت أنه أذكي مني، وارتحتُ لأنه أذكى مني، فلا ينبغي أن يكون الروائي أكثر ذكاء من أعماله، حسبما يزعم ميلان كونديرا.
> هل كانت الرواية تشير إلى أن القمع الذي واجهته الجماعة الزرادشتية، كان مجرد مثال لصورة القمع السائد في المجتمعات الشرقية تجاه المختلف. يقول «دارا» حينما وصل إلى شيراز بعد خروجه من يزد وخراسان: «عشت بينهم غريباً، أخفي ديانتي كما لو كانت وباء، أسير في السوق حذراً مثل قط، وسرعان ما أفر إلى غرفة صغيرة استأجرتها في مسافر خانه، أقفلها على أسراري، في الداخل تغيب شيراز، وتشرق أريانا».
- تشير الرواية إلى القمع الديني الذي واجهته جماعات عديدة، لكني لست أكتب بصفتي مدافعاً عن جماعة بعينها، فمعظم الجماعات اضطهدوا الآخرين في عهودهم الذهبية، وأولهم الزرادشتيون. ولست أكتب لأقارن بين الأديان، فأنا لست باحثاً، بل أكتب بصفتي روائي - روائي يبحث فيما يمكن أن يؤول إليه الزرادشتي، فيما هو قادر على التفكير فيه، لهذا كان منطق الرواية هو منطق دارا، والذي يسميه ميلان كونديرا حكمة الرواية، فكان دارا موبذاً في صميم أعماقه، حتى آخر يوم في حياته.
> ألا تجد تبايناً في المعنى، فالنص واضح في التحريض على نقد الثقافة السائدة أسوة بما فعله الفلاسفة والشعراء والعلماء والمثقفون. لكنه يشير في موقع آخر للمصير المأساوي للفلاسفة التنويريين فالحلاج قتلته بغداد، والشيخ السهروردي قتلته حلب، وطردت شيراز الشيخ البلخي.
- الرواية تقدم حقيقة مختلفة عما هو متفق عليه في الثقافة السائدة، ولا شأن لها بالتحريض ضد أحد ولا بالانتصار لأحد، كما قلت سابقاً. ولكن هذا لا يعني أني أملك أن أمنع القراء عن تأويلاتهم الخاصة. وليس فقط الحلاج والسهروردي اللذان قتلتهما الدول الرسمية، رشيد الدين الهمذاني كذلك قتلته السلطنة الإيلخانية، بسبب أصوله اليهودية، وقتلت «دارا» بسبب سابقته في الزرادشتية.
> كيف تناولت الرواية من خلال رحلة «دارا» حياة المهمشين والصراع الأزلي للإنسان نحو العدالة والكرامة؟
- لم يكن مقدراً لبطلي دارا أن يعيش مهمشاً، كان موبذاً، وتأهل ليكون رئيس أو دستور الجماعة الزرادشتية، لكن طلاب الحقيقة مثل دارا لا يختارون إلا حياة المهمشين، فكانت حياته سيرة طويلة من الغربة والخوف والجوع. في يزد، وتناولتها بالألقاب، لدي اهتمام خاص بالألقاب، حمل دارا كثير منها: أوشتادارا، العتال، الغندورا، الدرويش المجذوب، المريد، العطار، السائس، الجاسوس، الأسير. كان العذاب ينتظره في كل مدينة، ولكنه لا يبالي، يلاحق النور والأولياء مستصغراً المخاطر.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.