إطلالات تشكيلية جديدة من روح مصر القديمة

من وحي «دِشرت» أو أرض مصر القديمة، بزخم حضارتها وروعة مناظرها الطبيعية وتنوع مفردات بيئتها يقدم الفنان التشكيلي المصري أيمن قدري 50 عملاً فنياً جديداً ما بين لوحات تصويرية، وتصاميم منفذة بتقنية الحفر على أسطح الخشب والجلد، في معرضه المقام حالياً بغاليري «النيل» بالزمالك ليفاجأ المتلقي بطرح فني مُحرض على إطلاق خياله تجاه تراث بلاده لينهل من عناصره ومتونه ورموزه عبر ما يشاهده في اللوحات من صياغات تشكيلية تجمع بين الجدة والطرافة والأصالة والمعاصرة.
يُمثل معرض «دِشرت... أرض مصر» مرحلة جديدة من مشوار قدري الإبداعي، إذ تتخذ أعماله طابعاً تجريدياً تصميمياً غير متوقع بالنسبة لأعماله السابقة ذات الأسلوب الكلاسيكي، كما أنها تستند إلى آليات غير معتادة بالنسبة لأي فنان تأثر بالحضارة المصرية القديمة، فكأنما مرت مفردات الطبيعة والعناصر التصويرية للجداريات المصرية بعمليات حذف وإضافة وتحليل وفك وتركيب في فكره ووجدانه قبل أن يعيد تشكيلها مجدداً بشكل حداثي جريء على مسطح لوحاته.
فعلى سبيل المثال، يأتي التكوين في لوحة «إخناتون والطائر» حاملاً مشهداً للملك الفرعوني (إخناتون) بعد استحضار قدري من ذاكرته البصرية رسوماً مصرية قديمة مع التبسيط والتجريد، مبيناً الشكل والرأس المميزين له، بمعالجة أكثر حداثة عبر تناول شكل جسمه وإعادة صياغته وجعله محاوراً طائراً أبيض برأس أسود بخطوط بسيطة مجردة، تحتضنهما معاً خلفية ملونة كبقعة من حائط مصري قديم تحمل بعض الزخارف والحروف الفرعونية المتناثرة، وقد رُسمت بشكل مختلف يدمج بين ما هو قديم وحديث، كما جعل الفنان التكوين في لوحته التي جاءت بتقنية الحفر والطباعة البارزة من قالب خشبي بالألوان تتخلله مساحات هندسية وخطوط طولية وعرضية ومساحات بيضاء؛ بهدف تحقيق التوازن في التصميم، بينما استخدم خطوطاً أكثر ليونة في تناول شخصية إخناتون مما أتاح إمكانية إضافة وتقبل عناصر أخرى بِحُرية مثل الطائر والأشكال الزخرفية والكتابية المنتشرة بالعمل.
يُعد المعرض الذي يقام تحت عنوان «دِشرت... أرض مصر» - و«دِشرت» كلمة تعني الكتل الصخرية الضخمة المترامية على جانبي النيل ـ حلقة من سلسلة معارض للفنان تعكس ولعه بحضارة مصر وتأثره بفنونها وبيئتها، يقول دكتور أيمن قدري أستاذ مساعد الغرافيك بكلية الفنون الجميلة جامعة الأقصر لـ«الشرق الأوسط»، «إن «(دِشرت) من الأسماء القديمة التي أُطلقت على الأراضي المصرية، مثل كِمت و(أرض وادي النيل)، و(الأرض السوداء) و(تا وي)، وقد اخترت هذه الأسماء في معظمها كعناوين لمعارضي الأخيرة)» ويضيف: «تأتي كل أعمالي التشكيلية منذ بداياتي حتى الآن متأثرة بالحضارة الفرعونية؛ فهي تنقسم لشقين، إما تصوير ورسم وتضم مناظر من البيئة المصرية، وإما حفر وطباعة وتكون من وحي وتأثير الفن المصري القديم».
في سياق هذا الشغف، يتنقل زائر المعرض الحالي بين أعمال تسكنها روح مصر كما تحمل بين ثناياها رموزاً عديدة تؤكد فلسفة «دشت» على مر آلاف السنين، والقائمة على التمسك بالاستقرار والسلام، على حد تعبير قدري، ففي لوحته «العائلة - آلهات مصرية» على سبيل المال نشاهد آلهة وشخصيات مصرية وكأنهم عائلة واحدة، بينما يتصدرها طفل يحمل طائراً أبيض رمزاً للسلام والمحبة، ومن اللافت استخدام قدري الشكل الهرمي (المصري القديم) بقاعدته المتينة في رمز للرسوخ، إضافة إلى تحقيق التجانس من خلال التناغم في استخدام شفافيات اللون والملمس التي أحُدثت بين كتل الشخوص الرأسية والكتلة الهرمية التي أكدتها الكتابات الهيروغليفية والزخرفية أعلى ضلع الهرم يميناً، ولا تقل أهمية عن ذلك نظرات واتجاه وقفة الإله «بتاح» مع كتلة اللون الداكنة ما يؤكد الاستقرار والتوازن في رسالة واضحة بأن قوة مصر التي تجنح إلى السلام لا يمكن اختراقها.
وفي عمل آخر ذي رمزية مختلفة «ثلاثية حارسات اللوتس»، يبرز الفنان وجهاً مهماً للحضارة المصرية سبقت به العالم، وهو ارتفاع مكانة المرأة المصرية منذ القدم؛ إذ يقدم بشكل حداثي اعتمد فيه على ألوان الأكريلك على توال، سيدات ووقفات فرعونيات مع نباتات اللوتس والبردي، وقد دمج وربط بين اللوحات الثلاثة بالكتابات الهيروغليفية والهيراطيقية، إضافة إلى الخطوط الطولية والعرضية مع التنقيطية ومجموعة لونية ثرية مكونة من الرمادي والبني وورق الذهب، بينما جاءت لوحته «وحي حجر رشيد» كنموذج لتأثره الواضح بدراسته الأكاديمية، حيث دمج فيها بحرفية عالية بين المساحات الهندسية ـ
رافداً من المدرسة السوبرماتية ـ مع الكتابات المصرية القديمة إضافة إلى اليونانية القديمة التي كتب بها ذلك الحجر الشهير.
لكن لا تمثل محاولة البحث والغوص في الجداريات والنصوص البصرية الفرعونية وحدها شغف الفنان بـ«دشرت»، فقد هيمنت أيضاً دهشة الطبيعة البكر على الكثير من لوحاته بالمعرض: «أغلب أعمالي في المناظر الطبيعية من الأقصر، وقد أقمت أكثر من معرض حولها على غرار (من طيبة لأصيلة) 2017 بالمغرب ضم أعمال مشاهد من الأقصر ومدينتي أصيلة وشفشاون بالدولة الشقيقة، ومعرض (العد التنازلي للقرنة) 2008. وأخيراً قدمت مناظر من أسوان في معرض (الأرض السوداء) العام الماضي».