أظهرت المواجهة الإسرائيلية - الفلسطينية الأخيرة، عجز موسكو عن استخدام واحدة من الأوراق المهمة الموجودة بحوزة الكرملين، والتي فاخر الروس بها طويلاً، وهي إقامة صلات وتوازن في العلاقات بين كل الأطراف في كل أزمة إقليمية. فقد بدا الموقف الروسي متوارياً خلف تحركات «تنشيط الرباعي الدولي» ومترقباً للخطوات الأميركية ولجهود الوسطاء الإقليميين الذين نجحوا في محاصرة التصعيد.
ويكاد الموقف ذاته ينسحب على النشاط الملحوظ الذي بذلته موسكو خلال الشهور الأخيرة في اتصالاتها مع الأطراف اللبنانية. إذ بدا لوهلة أن روسيا تحاول الدخول على خط أزمات لبنان المستعصية، واحتلال موقع بين الوسطاء الدوليين بهدف تحقيق مكاسب تعزز مواقفها في سوريا وعلى الصعيد الإقليمي، فضلاً عن دفع طموحات الشركات الروسية التي تراقب بدقة تطورات الوضع حول تصاعد فرص التنقيب والاستخراج للثروات على الشاطئ اللبناني وفي مناطق الجوار البحرية.
ولكن، مرة أخرى، ظلت التحركات الروسية ضعيفة التأثير؛ ما دفع خبراء في موسكو إلى الحديث عن موسكو التي دخلت إلى المنطقة بشكل عريض من البوابة السورية، ما زالت غير قادرة على المنافسة فيها أو تحقيق مكاسب كبرى.
لقد أعاد الواقع الحديث في كل من سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة الكلام مجدداً عن أولويات السياسة الإقليمية الروسية، ومدى قدرة الكرملين على استثمار «انتصاراته» في سوريا لتحويل روسيا إلى لاعب مهم ومؤثر في المنطقة.
والحال، أنه في كل أزمة أو استحقاق إقليمي، برز أن السياسة الروسية - وفقاً لخبراء - تقوم على حشد أوراق التأثير المتاحة لها في إطار تحالفات أو محاور تعتمد في وجودها على توازن دقيق وصعب، وهشّ في معظم الأحيان. وهذا ما حدث من خلال إطلاق عمل ترويكا «آستانة» التي حققت لموسكو الكثير من المكاسب، وعلى رأسها تثبيت وقف النار في غالبية الأراضي السورية، وحرف العملية السياسية للتسوية عن جوهرها وفقاً للرؤية الروسية لآليات تنفيذ القرار 2254. ولكن في المقابل، غاصت موسكو في «مشكلات» الحلفاء، وبدت اجتماعات «محور آستانة»، في دوراتها المتتالية جزءاً من عملية متواصلة للمحافظة على وجود المجموعة والإبقاء على التوازن القائم للمصالح بين أطرافها.
الأمر ذاته انسحب على العلاقة الوثيقة... ولكن الصعبة مع إسرائيل، التي يصفها أكثر من خبير بأنها أحد «الشركاء المهمين» لروسيا في عملية المشاركة في بلورة ملامح النظام الإقليمي الجديد.
وبعيداً من الوضع حول سوريا وتعقيداته، اتجه النشاط الروسي بالدرجة الأولى إلى المحافظة على ما تبقى من صلات قديمة مع «شركاء تقليديين» أو في تعزيز التعاون في مجالات مختلفة مع «شركاء جدد»، خصوصاً في منطقة الخليج العربي. وهنا يجمع المحللون الروس على أن موسكو بالفعل حققت إنجازات مهمة.
«ا- لربيع العربي» دفع لإعادة ترتيب الأوراق
يرى مجتمع الخبراء الروس، أن «الربيع العربي»، أسفر بشكل أساسي عن توسيع منطقة الاضطراب والقلاقل في الشرق الأوسط مع اندلاع عدد من النزاعات العسكرية - بما في ذلك في سوريا والعراق وليبيا - فضلاً عن الصراعات الاجتماعية والسياسية الداخلية. وأن ما حصل لم يكن ذلك نتيجة أزمات الأنظمة السياسية فحسب، بل جاء أيضاً نتيجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، فضلاً عن انخفاض دخل دول المنطقة.
وهكذا، وفقاً للبروفسورة لودميلا شكفاريا، الأستاذة في كلية الاقتصاد بجامعة الصداقة في موسكو، تصادمت في المنطقة العربية المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية، ليس فقط للولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين والاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً لعدد من القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. وهي تضيف موضحة «إذا تحدثنا عن الاقتصاد، فعادة ما ظل الشريكان الرئيسيان لروسيا في منطقة الشرق الأوسط هما سوريا والعراق - الدولتان اللتان عانت اقتصاداتهما أكثر من غيرها من الصراعات العسكرية منذ بداية الربيع العربي. ولكن، في الوقت نفسه، لم تعد هاتان الدولتان بين شركاء التجارة الخارجية الرائدين لروسيا منذ فترة طويلة».
- أولويات روسيا في المنطقة
في هذا الإطار، تورد البروفسورة شكفاريا، أنه «إذا تحدثنا عن روسيا، فإن وجودها في الشرق الأوسط يظل متناقضاً وغير مستقر، بل ومتردداً، مثل سياستها في المنطقة، بما في ذلك على صعيد المكون الاقتصادي. وباختصار يمكن القول، إن الاقتصاد - لم يكن لديه وقت كاف». هذه العبارة يمكن ترجمتها بأن موسكو حاولت المحافظة على مصالح تقليدية مع بعض الدول، بيد أن تطورات السنوات الماضية أظهرت صعوبة هذا المسار وتعقيداته.
ثم هناك أولوية أخرى لروسيا في المنطقة هي منع الأزمات في العلاقات الروسية التركية. وعلى الرغم من الخلافات الجادة بين الطرفين حول القضايا المهمة بالنسبة لروسيا، وهي تشمل المواقف من سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط والوضع حول ناغورنو قره باغ والقرم، ظلت أنقرة أحد أهم شركاء روسيا الاتحادية. بل إنه في حالة تركيا، في المقدمة من الأولويات الروسية تحتل مهمة احتواء نفوذ تركيا في الدول العربية التي تهم روسيا استراتيجياً. وهذا بجانب محاولة عدم تقديم تنازلات مفرطة من ناحية، ومن ناحية أخرى منع تفاقم العلاقات مع تركيا.
وفي السياق ذاته، بالإضافة إلى العوامل الإقليمية، ثمة أسباب خارجية خطيرة تدفع روسيا إلى مراجعة أولوياتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشمل هذه زيادة ضغط العقوبات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتوتر المتزايد في العلاقات مع الغرب، وتفشي جائحة «كوفيد - 19» وتداعياتها الخطيرة داخلياً على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي، وركود الاقتصاد الروسي، وأزمة الاقتصاد العالمي وما نتج منها من عواقب اقتصادية للأزمة. في هذه الظروف، فإن روسيا رأت، كما تقول الخبيرة إيرينا عيدروس «إن الاندفاع في منطقة الشرق الأوسط، حتى لو لم يأت بثمار واسعة، فهو يساعد موسكو على تعزيز أوراقها التفاوضية مع الأطراف المختلفة وفي الملفات الخلافية المختلفة».
في هذه الأجواء، ظهر خلال الأيام الأخيرة تحدٍ جديد، أظهر صعوبة المهمة التي تحاول موسكو القيام بها، والمقصود تعزيز حضورها المباشر عسكرياً وسياسياً في هذه المنطقة. إذ برزت المعطيات حول بيان السلطات السودانية الأخير بمراجعة اتفاق إنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر، لتشير إلى مدى ارتباط أي نجاح يمكن أن تحققه موسكو في المنطقة بمستوى قلة اكتراث أو تجاهل واشنطن لهذا التحرك. والمعنى المقصود أن موسكو كانت واثقة من أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من امتلاك قاعدة عسكرية تمنحها وجوداً دائماً في البحر الأحمر، غير أن تدخل واشنطن بشكل مباشر - خلافاً للوضع في سوريا - أجهض بشكل سريع التحرك الروسي.
كذلك، بين الأولويات الرئيسية للسياسة الروسية في المنطقة حالياً، التأكيد مجدداً على أهمية التعاون في إطار «أوبك +»، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية، اللاعب الرئيسي القادر مع روسيا على ضمان استقرار أسواق النفط في العالم. وهنا تقول عيدروس، إنه في الأساس، يعد هذا ضماناً لاستقرار سوق النفط، وهو أمر مهم للغاية لقطاع الطاقة الروسي «لكن يجب أن نفهم أن الإجراءات المنسقة من قبل روسيا والسعودية هي وحدها القادرة على أن تزيد بشكل أساسي من الفرص... وتبقي على مجالات التفاعل بين روسيا والسعودية في اتجاهات مختلفة. ولذلك؛ يبقى الحفاظ على آلية (أوبك +) على أجندة التوجهات الاستراتيجية».
- تغيير في الأولويات
وفقاً للخبيرة عيدروس، فإنه «حتى وقت قريب، كان من السهل تصنيف الدول العربية وفقاً لدرجة الأولوية الاستراتيجية لروسيا وإمكانية توسيع المصالح الروسية. لذلك؛ كان بإمكاننا هنا في وقت سابق تسمية اليمن، وسوريا، والعراق، ومصر، والأردن، وفلسطين ضمن الحلفاء الأساسيين لروسيا. وأيضاً يمكننا إدراج دول الخليج كشركاء جدد. ولكن، مع ذلك؛ ونظراً إلى التغيرات الاقتصادية والتجارية والمالية والجيوسياسية العالمية الجارية، تتغير الأولويات الاستراتيجية لروسيا بشكل كبير على المدى القصير. ويفسر ذلك حقيقة أن الصراع التنافسي على النفوذ في المنطقة يتصاعد. ذلك أنه بالإضافة إلى اللاعبين التقليديين – أي الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة - بدأت الصين في المشاركة بنشاط... وهي عاكفة على تعزيز دورها الإقليمي.
وفعلاً، يرى الخبراء الروس، أن «تنامي أدوار اللاعبين الأساسيين، وخصوصاً إيران والمملكة العربية السعودية، تزامن على مدى السنوات العشر الماضية مع تعاظم طموحات تركيا التي ينمو نفوذها بوتيرة ملحوظة. وهذا تطلب التغيير الحاصل حالياً في الصورة الدبلوماسية للعالم العربي خصوصا لجهة التقارب مع إسرائيل»، وكنتيجة لذلك يجمع الخبراء على أن الوضع الجديد في المنطقة بات يتطلب أن «تتعامل روسيا بنهج أكثر حساسية ومرونة واحترافية في تحديد موقعها وبناء أهداف استراتيجية في الشرق الأوسط».
وهنا تظهر معضلة أخرى أمام السياسة الروسية؛ إذ إنه على الرغم من الإدراك أن الدول العربية لها أهمية استراتيجية، فإن السياسة الروسية الشاملة في الشرق الأوسط ما زالت – كما تقول الباحثة البروفسورة شكفاريا - «غير متسقة. وإلى حد كبير، هذه سياسة رد فعل، وليست سياسة قادرة على تشكيل أجندة تستهدف المصالح طويلة الأجل».
علاوة على ما تقدم، ثمة مشكلة أخرى تتعلق بردات الفعل الروسية المتأخرة على بعض الأحداث. وهنا يحمل الباحثون أنفسهم ودوائر البحث المسؤولية عن التأخر. وتضيف الباحثة «غالباً ما يظهر هذا إلى الشعور بأن المجتمع السياسي والعلمي والتحليلي الروسي لم يتمكن سريعا من التنبؤ بالأحداث الوشيكة التي تقع في المنطقة. وتجلّى ذلك في الغياب أو التأخير الخطير في الإعلان عن موقف روسيا من بعض القضايا، الأمر الذي ألقى بظلال من الشك على حقيقة أن روسيا تولي المنطقة اهتماماً كافياً».
- الأولوية السوريةعلى رأس لائحة اهتمامات الكرملين
عودة إلى أولويات التحرك الحالي الروسي، فإننا نجد أنه في مجال السياسة الخارجية، تتمثل إحدى الأولويات الرئيسية في الحفاظ على التأثير على دمشق وتوسيع المصالح الاقتصادية الروسية. والآن، تتوقع روسيا أنها بعد الانتخابات ستكون قادرة على التأثير على كفاءة الاقتصاد السوري، وتعزيز بدء الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلاد، وأيضاً تشكيل نظام سياسي أكثر شمولاً، إلى جانب تنشيط عمل لجنة الدستور السوري.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن موسكو تعي أن المنافسة مستمرة في النمو في سوريا مع إيران في المجالات السياسية والجيوسياسية والاقتصادية. ولذا؛ تكمن أولوية موسكو استراتيجياً في تعزيز مواقعها... ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في لبنان، حيث تتمتع إيران أيضاً بموقع قوي وتسعى إلى تعزيز قوتها في بلاد الشام بمساعدة «حزب الله».
وفي إطار السياسة الروسية في سوريا، بدا أن موسكو تضطر إلى إجراء مراجعات أو تعديلات في حالات عدة. وكانت حكومة البلاد تدرس بجدية إمكانية إنشاء «منطقة تجارة حرة» بين سوريا، وبيلاروسيا، وكازاخستان والاتحاد الروسي، وكانت هناك مفاوضات نشطة حول هذا الموضوع. وفي المقابل، كان الاتحاد الروسي يعتزم تزويد سوريا بقرض كانت في أمس الحاجة إليه لمكافحة عواقب التفاقم الخطر في الوضع الاقتصادي المعيشي خلال السنوات الثلاث الأخيرة.